نشرت جريدتنا الطريق والحق في عددها الصادر بشهر أكتوبر ٢٠٢٠، خبر تحت عنوان: “القضاء الإداري بمجلس الدولة يقضي بعدم جواز استقلال الأسقفية عن الطائفة الإنجيلية”، الأمر الذي ما كنت أرغب في حدوثه، والموضوع، موضوع القضايا والمحاكم بين مذاهب الكنيسة الإنجيلية بغض النظر عن من هي المذاهب التى لها الخصومة مع الطائفة، وما هي أساس وحيثيات والأسباب والدوافع الحقيقية وراء هذه القضايا، فهذا موضوع أكره سماعه والحديث عنه أو حتى أن أتذكره أو أتخيله في رأسي، فكم بالتالي نشره في جريدة “الطريق والحق” التي شرفني القدير أن أكون رئيس تحريرها، لكن هذه هي ضريبة الالتزام بالأمانة الصحفية والمبادئ المسيحية الروحية الصحيحة للصحافة الحرة المحايدة، والتى تتقيد بحتمية نشر الخبر أو الحدث، فهذا من حق القراء على الجريدة، ولابد أن تنشر الخبر والحدث كما هو دون تلوين، سواء أكانت ترغب في نشره أم لا.
و”لعجائب الصدف”، ولا أقول كما يقول التعبير الدارج “لمحاسن الصدف”، فليس هناك من محاسن في نشر خبر عدم جواز استقلال الأسقفية عن الطائفة الإنجيليه، أن الجريدة نشرت أيضًا تحت خبر الأسقفية مباشرة، نشرت عن الإخوان المسلمين تحت عنوان “موت سريري وتدويل وإقالات واستقالات: ماذا يحدث داخل الإخوان”.
والحقيقة كنت لأول مرة أقوم بالربط بين العنوانين، الأمر الذي جعلني أفكر وأسأل نفسي، قضايا ومحاكم وأحكام بين المذاهب الإنجيلية ورئاسة الطائفة، ماذا يحدث داخل الإخوان المسيحيين؟! “من هو الكسبان والخسران في قضايا كنائس الإخوان” وأقصد بالإخوان هنا المذاهب الإنجيلية المختلفة.
ولعله من المفيد والمهم أنني أوضح أنه لا جريدة “الطريق والحق”، ولا أنا شخصيًا أو اعتباريًا كرئيس تحريرها لست طرفًا مباشرًا في هذا الصراع، فمثلي مثل أي مسيحي آخر يهمه أمر الكنيسة، وأنني لست مع أو ضد لا الإنجيلية ورئيسها، وأعضاء مجلسها الموقرين، ولا مع أو ضد الإسقفية ورئيسها وأعضاء مجلسها الموقرين، أنا مجرد مبدي لرأيي الصحافي الخاص في هذه القضية كأي مسيحي غيور على سلامة الكنيسة الإنجيلية في مصر والعالم العربي.
عند قراءتي للبيان المستفز، على الأقل بالنسبة لي، وأعتقد أنه مستفز أيضًا للمسؤلين وشعب الكنيسة الأسقفية بمصر وخارجها وغيرهم من الإنجيليين على اختلاف مذاهبهم الإنجيلية، البيان الذي صدر عن رئاسة الطائفة الإنجيلية والمتعلق بالحكم الإداري برفض الدعوة المقدمة من المطران منير، مطران الكنيسة الأسقفية بمصر، تبادرت إلى ذهني عدة أسئلة لو أجاب عليها المسؤلون عن رئاسة الطائفة الإنجيلية بما فيهم مطران الكنيسة الأسقفية إجابة مسيحية مخلصة أمام الله والناس، وبعيدة عن الأهواء الشخصية والطائفية المذهبية، لما احتاج الأمر لمحاكم أو قضايا أو معرفة من هو الكسبان والخسران في قضايا كنائس الإخوان. وحيث أن مثل هذه القضايا والخلافات ليست مجرد قضايا وخلاقات بين طوائف أو مذاهب معينة بعضها مع البعض الآخر فحسب، بل هي في حقيقتها وواقعها خطة شيطانية محكمة من رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل في أبناء المعصية، لكسر روابط الارتباط والإخوة والمحبة بين أعضاء المذاهب المسيحية المختلفة، ولإضعاف الكنيسة عامة في مصر والوطن العربي كله، وتشتيت شملها، وإلهائها في أمور جانبية تافهة لا تستحق صرف الجهد والمال لتحقيقها، ووقوفها ضد بعضها البعض في المحاكم الأرضية، ومنع الحق من الوصول لأصحابه مستندًا إلى أحكام محاكم أرضية، وقرارات قضاة أقل ما يقال عنهم إنهم مغرضون ينطقون عن الهوى. وحيث أن هذه الخطة الشيطانية تمس كل مسيحي حقيقي في مصر والوطن العربي، الذي يتأثر مسيحيوه تأثيرًا كبيرًا بكل ما يحدث في مصر، حتى لو لم يكونوا من الإنجيليين أو الأسقفيين، لذا فالكتابة عن مثل هذه القضايا، والخطط الشيطانية ضد الكنيسة العامة، والتحذير من نتائجها، ووضع التعاليم الكتابية الواضحة والتى لابد أن تطبق من الجميع، وعلى الجميع، في مثل هذه الحالات أمر لا مفر منه إذا أردنا بالفعل أن نمارس صحافة مسيحية حرة، أمينة، ومحايدة في هذه الأيام الذي ندر بها استخدام هذه المبادئ المسيحية التى لا غنى عنها للجنس البشري كله.
أما الأسئلة الكثيرة التى دارت في رأسي عند قراءتي لبيان الطائفة الإنجيلية والذي بدأ بالكلمات “تابع باهتمام اليوم السبت الإنجيليون في مصر أحكامًا صدرت من محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، خاصة بالدعاوى المرفوعة من المطران منير حنا، مطران الكنيسة الأسفقية، باعتبارها أحد المذاهب الإنجيلية والتابعة للطائفة الإنجيلية، وقد أقامها كحلقة من حلقات النزاع القضائي القائم منذ عام ٢٠٠٠، من وقت أن قرر المطران منير حنا بشكل منفرد، ولأسبابه الخاصة أن يستقل عن الطائفة الإنجيلية، ويطلب الاعتراف به كرئيس طائفة مستقلة، أسوة برؤساء الكنائس الرئيسية في مصر”.
هذا الجزء الأول من بيان الطائفة أثار لديّ تساؤلات كثيرة منها:
أ- يقول البيان: “تابع باهتمام اليوم السبت الإنجيليون في مصر أحكامًا صدرت من محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة، والسؤال هو: هل حقًا كان يقصد كاتب البيان أو المسؤلون عنه أن الإنجيليين في مصر تابعوا باهتمام الأحكام التي صدرت عن القضاء الإداري، أم أنها صيغة صحفية مغرضة أو مخلصة تلك التى جعلت كاتب البيان يكتب هذه العبارة؟، فمن المعروف أن رجل الشارع الإنجيلي العادي لا يهمه في قليل أو كثير ولا يتابع باهتمام أية قضية تحدث بين المذاهب الإنجيلية المختلفة، إن كانت الأسقفية ستظل تابعة للإنجيلية أم منفصلة عنها، وحتى شيوخ الكنائس الإنجيلية وقساوستها لا تهمهم هذه القضية، فهذه القضية قضية رياسات الكنيسة الإنجيلية، ليست قضية الإنجيليين في مصر، وإن كان الأمر كذلك، أفلا تعتبر هذه العبارة دليلاً على انفصال المسؤلين في الطائفة الإنجيلية عن فهم حقيقة ما يجري في الشارع الإنجيلي المصري، مع وبين الإنجيليين في مصر؟، الأمر الذي يوسع الهوة السحيقة المجودة حاليًا بين رياسات الطائفة، وواقع الشارع الكنسي الإنجيلي المصري، فلو كانت مصر عامة والكنيسة الإنجيلية خاصة يؤمنون ويهتمون بإجراء استبيانات علمية وعملية، نزيهة وأمينة ومهدفة، للحصول على رأي رجل الشارع العادي أو المترددين على الكنائس أو على الأقل المسؤلين عليها فقط، لعرفت أن الغالبية الساحقة لا تعلم أن هناك ما يعرف بالكنيسة الأسقفية في مصر، بالرغم من كل ما تقوم به من خدمة للمجتمع ككل وللكنيسة العامة في مصر والوطن العربي، وبالتالي لا يعرفون من هو المطران منير، ولا ما هو أمر خلافها مع الطائفة الإنجيلية، وبالقطع لم يتابع إلا نفر قليل من المسؤلين عن الطوائف المسيحية في مصر لقرار المحكمة الإدارية المتعلق بنزاع الأسقفية مع الإنجيلية، أولئك الذين يهمهم أمر انفصال الأسقفية عن الإنجيلية من عدمه لسبب او لآخر.
ب- أما السؤال الثاني الذي تبارد إلى ذهني فهو، لماذا صور البيان أن الخصومة بين الأسقفية والإنجيلية هي خصومة مع فرد وليس مذهبًا، وكأن المشكلة كلها في شخص المطران منير، فتارة يذكر البيان أن “الدعاوي المرفوعة من المطران منير حنا، مطران الكنيسة الأسفقية وأخرى يقول البيان “وقد أقامها (أي المطران منير) كحلقة من حلقات النزاع القضائي القائم منذ عام ٢٠٠٠، من وقت أن قرر المطران منير حنا بشكل منفرد، ولأسبابه الخاصة أن يستقل عن الطائفة الإنجيلية.
فهل يوجد مسؤلون عن الأسقفية في مصر يديرون المذهب مع المطران منير؟، هل هناك سنودس للكنيسة الأسقفية، أم هو الشخص الأوحد والحاكم بأمره في مذهبه؟ وهل يعلم كاتب البيان إذا ما كان المطران قد تشاور مع مجلس إدارة مذهبه أم لا؟، ومن الواضح أنه يعلم لأن محامي الأسقفية ورافع القضايا على الإنجيلية هو عضو في سنودس الأسقفية كما جاء بالبيان نفسه، وإن كان كاتب البيان يعلم أن المطران منير تشاور مع سنودسه الأسقفي، فهل لدى كاتب البيان دليل مادي يقدمه على عدم موافقة سنودس الكنيسة الأسقفية على الانفصال عن الإنجيلية، وأن المطران أصر على الانفصال بصورة منفردة عن مذهبه وقسوسه وشعبه وقام برفع حلقات من النزاع كما ذكر البيان؟، أليس هذا تشكيكًا في ذمة الرجل ودوافعه وقراراته؟، ليس أمام أعضاء مذهبه وسنودسه وكنيسته فحسب بل وأمامنا جميعًا، رؤساء وقادة وقسوس وشعب مسيحي في مصر والوطن العربي.
ألا يصور البيان في فقرته التي ورد فيها: “قرر المطران منير حنا بشكل منفرد، ولأسبابه الخاصة أن يستقل عن الطائفة الإنجيلية، ويطلب الاعتراف به كرئيس طائفة مستقلة، أسوة برؤساء الكنائس الرئيسية في مصر؟” إن أسباب ودوافع المطران منير الخاصة والتى ذكرها البيان صراحة في قوله: “ويطلب الاعتراف به كرئيس طائفة مستقلة، أسوة برؤساء الكنائس الرئيسية في مصر”.
فهل كل ما يناضل لأجله المطران منير هو “الاعتراف به كرئيس طائفة مستقلة أسوة برؤساء الكنائس الرئيسية في مصر” أم يناضل لاستقلال مذهبه عن الطائفة الإنجيلية ورياساتها لأسباب عامة، ليست خاصة بالرجل، يعرفها الجميع؟، ولا شك أن لقائد مثله أسبابه الخاصة، أي غير معلنة على الملأ لكنها أسباب غير شخصية، والتى قد لا يستطيع أن يذكرها كلها تأدبًا منه، أو لعدم إحراج رئاسة الطائفة الإنجيلية ونشر التفاصيل التي قد تضر المسيحيين المصريين، أو تعطي فرصة لأعداء الكنيسة أن تشمت بها وبنا جميعًا. دعني أقولها صراحة، فالمطران منير كان وسيظل طبيبًا ناجحًا، وهو لم يكن بحاجة من الأصل بأن يصبح مطرانًا للكنيسة الأسقفية، فلو كان جُل اهتمامه هو الألقاب والتى من بينها رئيسًا للكنيسة الأسقفية أسوة برؤساء الكنائس الرئيسية في مصر، لكان أعظم له وأكثر راحة أن يستمر في عمله الذي كان يخدم فيه الله بكل طاقته وبكل أمانة ويقدمه للمجتمع المصري كله بغض النظر عن الدين واللون.
ج-ـ سؤال آخر تبارد إلى ذهني وهو: لماذا أقام المطران منير كل هذه القضايا والمحاولات للانفصال عن الطائفة الإنجيلية على مدى ٢٠ سنة مضت؟، ولماذا تصر الطائفة الإنجيلية على الإبقاء على الأسقفية كجزء منها؟، ومن هو صاحب المصلحة في عدم الانفصال ولماذا؟، ومن هو صاحب فكرة إقامة كيان واحد يجمع الطوائف الإنجيلية تحت رئاسة واحدة؟
وللإجابة على هذه الأسئلة لابد من أن نبدأ بكيف تكونت رئاسة الطائفة الإنجيلية من أصله، والحقيقة إنه كان ينبغي أن تكون فكرة إقامة كيان واحد يجمع كل من الإخوان المسيحيين في المذاهب المختلفة في جسد واحد، أي الكنيسة، ورأسها ورئيسها السيد الرب يسوع نابعة من المسيحيين أنفسهم لخدمة بعضهم البعض كمذاهب وأفراد، إلا أن فكرة هذا الكيان الواحد أي فكرة وجود ما يسمى برئاسة الطائفة أو المجلس الملي الإنجيلي العام هي فكرة مصرية خديوية إسلامية بوليسية قديمة.
فكما جاء بتاريخ تكوين المجلس الملي الإنجيلي أنه كان بناء على الأمر العالي من الخديوي عباس حلمي الثاني في مارس عام 1902 لتنظيم شؤون طائفة الإنجيليين في مصر، بتشكيل المجلس الإنجيلي العام ليمثل كل المذاهب الإنجيلية أمام الدولة.
والحقيقة لا أدري لماذا الصراع حول الانفصال أو البقاء من أصله، لماذا لا تترك رئاسة الكنيسة الإنجيلية أمر المذاهب المختلفة لقادتها والمسؤولين عنها، فمن أراد أن يبقى من المذاهب تحت هذا الكيان الذي في رأيي الشخصي لا ضرورة تستدعي وجوده والتمسك به، ولا فائدة منه، فالطائفة الإنجيلية لا تراها، حتى الحكومة المصرية، إنها كيان مسيحي قائم بذاته بل تراه جزءًا صغيرًا من المسيحيين تابعًا في المواقف والقرارات والتوجهات للكنيسة الأرثوذكسية، رئاسة الطائفة التى لم أر طوال حياتي على الأرض قرارًا حازمًا ملزمًا يصدر عنها لحل قضية ما أو فض اشتباك ما، أو دفاعًا عن قضية مسيحية مصيرية أو المناداة والدفاع عن حقوق المسيحيين في مصر والتي من بينها إغلاق الكنائس الإنجيلية، أو هدمها لسبب أو لآخر، أو خطف البنات المسيحيات، حتى في عصر الحريات الدينية النسبية التى تعيشها مصر اليوم برئاسة الرئيس السيسي وغيرها الكثير مما لا يتسع المجال لذكره.
والسؤال هنا: لماذا تصر الكنيسة الأسقفية على الانفصال عن رئاسة الطائفة الإنجيلية في مصر؟ ولماذا إصرار الطائفة على الإبقاء عليها؟
في رأيي الخاص إن الأسباب التى يمكن أن تكون هي الدافع لطلب الأسقفية الانفصال عن الإنجيلية، وأنا هنا لا أتكلم بلسان الأسقفية بل بلسان المنطق البشري والتحليل الشخصي للأحداث:
أ- إن الأسقفية مذهب مسيحي كبير وخاصة في البلاد الأوروبية وبالذات في إنجلترا، ولها كنائس وخدمات دينية واجتماعية في معظم البلاد العربية، والمطارنة الأسقفيين على مستوى العالم يرأسهم أسقف واحد منتخب منهم. فلماذا يتبع مطرانهم في مصر رئيسًا آخر غير أسقفي ويخضع لرئاسته؟!
ب- معظم المذاهب الصغيرة المتواجدة في مصر ليست لها قيادة مركزية على مستوى العالم يمكن أن تدافع عنها في أزماتها أو تقف بجانبها لتسديد احتياجاتها، وهي مذاهب لا تستطيع مواجهة التحديات الدينية والبوليسية والحكومية في البلاد المتواجدة بها وبالتالي فهي في احتياج لكيان أكبر منها تنتمي إليه حتى لو كان هذا الكيان ما هو إلا كيان صورى لا فائدة حقيقية من وجوده على الأرض. وهذا ليس الحال مع الأسقفية بالذات.
ج – مَنْ مِنْ رؤساء المذاهب يرغب في أن يقيم رئيسًا عليه، وناظرًا متابعًا له، ومتحكمًا ولو في قراراته وقرارات سنودسه وهو ليس في احتياج له، أو غير مستفيد منه بأي شكل من الأشكال؟! فاستخراج كارنيه لخادم أو قسيس من أي مذهب إنجيلي لابد أن يكون من رئاسة الطائفة الإنجيلية، والحصول على أية توقيعات رسمية على أية ورقة تقدم للمصالح الحكومية لابد من التصديق عليها من رئاسة الطائفة، وكل قرارات ومعاملات رئيس الطائفة مع الحكومة تنسحب على كل رؤساء المذاهب بما فيها الأسقفية، وفي النهاية لو كان منصب رئيس مجلس رئاسة الطائفة الإنجيلية يمكن أن يشغله شخص غير مشيخي، وأن تعطى الفرصة بطريقة متساوية وعادلة لكل رؤساء المذاهب المختلفة لتولي رئاسة المجلس بالتناوب، لكانت هناك المساواة العادلة التى تشجع كل رئيس مذهب أن لا يرفض انضمامه لهذا المجلس، لكن أن تستحوذ طائفة بعينها بالغالبية الساحقة لأعضاء المجلس وهم الذين يقررون نتائج انتخابات رئاسة الطائفة، فهذا ظلم بَيّن يحبط المتطلعين المخلصين من غير المشيخيين في محاولة الحصول على رئاسة الطائفة حتى لإصلاحها عند احتياجها لإصلاح أو تغيير.
وفي رأيي إن إصرار الطائفة الإنجيلية على إخضاع الأسقفية بقوة القانون للبقاء في مجلسها، غير المرغوب فيه من الأسقفية، حسب وجهة نظري أيضًا، ربما يرجع للأسباب التالية:
أ- لكي تظل قبضتها قابضة على كل المجامع والمذاهب ورؤسائها وتسييرهم كما ترغب، والضغط عليهم بطرق مختلفة لا مفر من الخضوع لها إن هم قرروا الاستمرار في خدمة الله في مصر.
ب ـ ربما ترفض الإنجيلية انفصال الأسقفية لمحاولة إقناع الشعب المسيحي في مصر والرياسة المصرية أننا طائفة كبيرة ذات مذاهب كثيرة ولنا أهمية في عالم الأحياء والمذاهب، ومنا من تعدى في ارتباطاته حدود مصر ومن يستطيع أن يوصل صوته حتى للقصر الملكي الإنجليزي.
ج- أما الخوف الأكبر من الانفصال هو أنه إذا سمحت الإنجيلية للإسقفية بالانسحاب من مجلسها بحكم القانون سيحذو الكثير من المذاهب الأخرى حذوها وخاصة إنه قد أقيمت بالفعل عدة قضايا للانفصال عن الإنجيلية من مذاهب أخرى، وفي هذه الحالة سيتقلص عدد أعضاء المجلس، وستتقلص سلطة رئيس المجلس، وربما تندثر هذه الوظيفة من الوجود في غضون سنين قليلة إن لم يكن شهور.
د – ربما يكون تمسك الإنجيلية بالأسقفية طاعة لأوامر الأسياد والكبار الذين يهمهم أن يوضع البيض كله في سلة واحدة حتى يسهل تكسيره بضربة واحدة إذا تجرأ عصفور واحد على كسر قشرة البيضة المحيطة به، أو تجرأ على الطيران خارج القفص الحديدي الذي صدأ من كثرة الأيام والإهمال.
هـ ـ سبب آخر لإجبار الإنجيلية للأسقفية على البقاء معها هو عدم فهم الإنجيلية لعدة أمور:
١- إن الله خلقنا أحرارًا في قراراتنا حتى التى نأخذها تجاهه سبحانه، فلكل منا، سواء أكان فردًا أو مذهبًا أو جماعة، لنا حرية شخصية بأن نبقى ضمن تجمع أو رئاسة طائفة أو ننسحب منها.
٢- بالرغم من أن المثل يقول في الاتحاد قوة، أو فرق تسد، إلا إنه في الظروف التى يعيشها المسيحيون في مصر من مختلف الجهات يكون الانفصال المذهبي والاستراتيجي المهدف، في مثل هذه الحالة هو القوة بعينها، فمواجهة العدو بجيوش وكيانات متعددة في أماكن مختلفة وبقوى واستراتيجيات متنوعة سيكون أصعب على العدو مواجهته والتغلب عليها عن ما إذا كان الجميع في خندق واحد، ولهم قيادة موحدة، وهم مختلفون متخاصمون مع بعضهم، بينهم قضايا وأحكام إدارية شيطانية ويتمنون الانفصال والهروب من بعضهم البعض إلى ملاجئ أخرى لا يسمح لهم بقيادتها واستثمار قادتها في النصرة على العدو اللئيم الشرير الواحد.
٣- لقد غاب عن الإنجيلية أن البقاء أو المغادرة في مجلس أو علاقة أو خدمة هي أمور قلبية أولاً وأخيرًا. فقد تجبر الإنجيلية الأسقفية على البقاء معها والخضوع لقرارات القضاء الإداري، لكنها لن تستطيع أن تجبرها على أن تكون معها بنفس واحدة ومحبة واحدة وأهداف واحدة لأن هذه الأمور لا تحدث في الواقع بالصورة الصحيحة المخلصة، إلا إذا كانت نابعة من القلب، وعندها لن تكون هناك بركة وحماية وسلطان، لا للأسقفية ولا للإنجيلية.
٤- ربما غاب عن كل من الإنجيلية والأسقفية أن ينتبهوا إلى طريقة حل مشاكلهم المذهبية والشخصية الأخوية وفقاً للتعاليم الكتابية، وأن يتجنبوا اللجوء إلى المحاكم الأرضية الذي وصفها الكتاب المقدس بمحاكم الظالمين، فلقد كتب بولس الرسول موبخًا كنيسة كورونثوس: “أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسين؟ ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟ فإن كان العالم يدان بكم أفأنتم غير مستأهلين للمحاكم الصغرى؟ ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة؟ فبالأولى أمور هذه الحياة! فإن كان لكم محاكم في أمور هذه الحياة فأجلسوا المحتقرين في الكنيسة قضاة! لتخجيلكم أقول. أهكذا ليس بينكم حكيم ولا واحد يقدر أن يقضي بين إخوته؟ لكن الأخ يحاكم الأخ وذلك عند غير المؤمنين. فالآن فيكم عيب مطلقًا لأن عندكم محاكمات بعضكم مع بعض. لماذا لا تظلمون بالحري؟ لماذا لا تسلبون بالحري؟ لكن أنتم تظلمون وتسلبون وذلك للإخوة”.
والمضحك المبكي إنه في نهاية البيان يذكر كاتبه: “إنه بالرغم من كل هذه الأحكام والتي منها حكمان نهائيان وباتان برفض انفصال الكنيسة الأسقفية لا يزال مسلسل رفع الدعاوي مستمرًا! مما يتسبب في استنزاف لأموال الكنيسة وإرهاق العدالة أيضًا.
وكأن استنزاف أموال الكنيسة وإرهاق العدالة أصبحت هي الشغل الأول الذي يشغل بال المنتصر والقاهر لأخيه مع أنه كان لابد أن يفكر كاتب البيان في استنزاف ونزيف المحبة بين الإخوة الذي قارب على التلاشي من قلوب الطرفين، واستنزاف الوقت والجهد الذي كان لابد أن يصرف في خدمة الله والكنيسة والمجتمع إذا ما تركت الإنجيلية الأسقفية لتفعل ما تراه صالحًا ومفيدًا لجسد المسيح الكنيسة. ألسنا نلوم الجماعات الإسلامية على إمساكها لأتباعها ورفض التحرر من ارتباطهم بها تحت أي بند من البنود؟ ألسنا نلوم الحكومة عندما ترفض تغيير الملة والدين في البطاقة الشخصية لشخص قرر ترك دينه وارتباطه بدين آخر؟، ألا نرى نحن المسيحيين أن الإسلام هو دين اللاحرية مع أننا في مثل هذه القضايا نتصرف بأعنف منهم؟ هل أجبر المسيح أحدًا على السير وراءه أو الارتباط به أو الانضمام إلى كنيسة أو جماعة بعينها؟، ألم يقل – تبارك اسمه – حتى لتلاميذه عندما كان يعلمهم عن الصليب وقد تركه من ذلك الوقت كثيرون ورجعوا من وراءه: ”ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟“. هل تستطيع الأسقفية أو الإنجيلية أن تقول لنا بضمير صالح إن كانوا قد اجتمعوا في جلسة حبية واحدة وصلوا معًا وسألوا الروح القدس فيما يريدهما أن يفعلوا، وتركوا الأمر للرب وطلبوا منه أن يحل هذه المشكلة من سماه دون محاكم ومستشارين وقضاة؟ هل يستطيعون أن يقول أي منهم: “رأى الروح القدس ونحن”؟ إننا لابد أن ننفصل أو نبقى مع بعضنا البعض.
إن المستفيد الوحيد من بقاء الأسقفية وغيرها في الإنجيلية هو العدو الشرير ومنفذو خططه في مصر من مسؤلين وقضاة وأمن وغيرهم.
وإنه لشيء طبيعي وتحصيل حاصل أن يحكم القضاء الإداري المُشرَف عليه والمسيس من واضعي القوانين في الدولة، تلك القوانين الموضوعة لا لمنح حريات وصلاحيات لكل من يريد أن يتحرر وينفرد بذاته ويخدم الله ومجتمعه وفقًا لما يمليه عليه المولى – تبارك اسمه – بل لكي تتحكم تلك القوانين والأحكام الإدارية في شعب المسيح المصري، علمًا بأننا كشعب مسيحي نحن من نعطيهم الفرصة سانحة سهلة، ولأسباب كثيرة، للحكم علينا بما يريدون مستغلين خلافاتنا، والنتيجة إنه لن يكون هناك كسبان أو خسران في قضايا الإخوان إلا من هم خارج دائرة الإخوان والإيمان.
ليت الكنيسة تضع وجهها في التراب، وتأتي بتواضع وتوبة معترفة بشرها وكبريائها وأنانيتها وبكل أخطائها وتترك القرارات الحاسمات لمن له الأمر الإله القدير العليم الحكيم المتسلط في مملكة الناس، صاحب الأرض وملئها المسكونة والساكنين فيها.