القيامة … وأيقونات الإبداع الروحي

11

مدحت بشاي

“أتعشى معه وهو معي”

في الإيمان المسيحي: المسيح أخذ عشاءنا وأعطانا عشاءه؛ بادلنا حبًا بحب وطعامًا بطعام؛ حبه لنا أنه مات من أجلنا، وحبنا له أننا نحيا له ومعه ونخدم اسمه القدوس؛ طعامه الحياة وطعامنا الموت؛ مات لنحيا، وحيينا ونحن مستحقون للموت؛ الحي صار ميتاً والأموات نالوا الحياة، فقيامة المسيح من الأموات هي سلاح القوة لغلبة كل الأعداء، بل سلاح الظفر والانتصار في كل الأزمنة والدهور… المسيح قام، بالحقيقة قام.

في السنة السابعة عشرة من حكم الإمبراطور “طباريوس” وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس بمدينة أورشليم المقدس، حكم بيلاطس البنطي والي ولاية الجليل الجالس للقضاء في ندوة مجمع الرقورين علي يسوع الناصري بالموت صلبًا بين لصين بناءً علي الشهادات الكثيرة المبينة المقدمة من الشعب المثبتة أن يسوع الناصري:

أولًا: مُضل يسوق الناس إلي الضلال.

ثانيًا: يُغري الناس علي الشغب والهياج.

ثالثًا :عدو للناموس.

رابعًا: يدعو نفسه ابن الله.

خامسًا: يدعو نفسه كذبًا ملك إسرائيل

سادسًا: دخل الهيكل ومعه جمع غفير من الناس حاملين سعف النخل.

كان ذلك بعض ما جاء في الحكم على السيد المسيح الذي انتهى بالصلب. ويذكر المؤرخ “كامل صالح نخلة” عضو لجنة التأريخ القبطي أن من بين التقاليد التي اتُبعت قديمًا أن الاحتفال بذكرى صلب وقيامة السيد المسيح كان يقام كل أربعة وثلاثين سنة ولكن لما كان الكثيرون يحيون ويموتون ولا يتمتعون بجمال وبركة هذا الاحتفال العظيم عدل عن ذلك وصار الاحتفال بالعيد سنويًا، ولا يُعرف في أي وقت تم هذا، ويظهر أنه بعد الجيل الأول المسيحي. واستدل على هذا الخبر من تاريخ استشهاد مرقس الرسول كاروز الديار المصرية، فإنه نال إكليل الشهادة بعد إقامة تذكار القيامة المقدسة في كنيسته في سنة 68 أي التذكار الأول لهذا العيد بعد حادث القيامة الحقيقي.

ولم يكن يُحتفل الفصح مرة في السنة فقط، بل كان يُحتفل بذلك التذكار الخلاصي كل أحد، فكان يوم الأحد يوم فرح وبهجة عند جميع المسيحيين ويعيدون فيه بالصلاة وقوفاً لا ركوعًا ولا قعودًا وبلا صوم كما شهد بذلك برنابا الرسول والقديسون أغناتيوس ويوستينوس وبلينوس وغيرهم من الآباء الأولين. وكانت لعيد الفصح السنوي شعائر خصوصية في قلوب المؤمنين ويُحتفل فيه بتذكار الآلام والقيامة معًا.

وفي الإيمان المسيحي أيضًا، الله خلق العالم كأيقونة للإبداع الجميل بثراء مفردات خالدة متناغمة في إعجاز مهيب محرك للمشاعر. وعندما خلق الله النور المجيد، كان قد قرر ما سيفعل في الخليقة الجديدة لقلوب الناس “فَإِنَّ اللهَ، الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنَ الظَّلاَمِ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ النُّورَ يُشْرِقُ فِي قُلُوبِنَا، لإِشْعَاعِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ الْمُتَجَلِّي فِي وَجْهِ الْمَسِيحِ” (2كورنثوس4: 6)..

وتُعد الأيقونة أحد أشكال التعبير الجميلة التي أبدعتها الحضارات الإنسانية بشكل عام، والإنسان المسيحي بشكل خاص. وهي تجسيد وتعبير روحي جمالي درامي تذكاري تعليمي دارس وموثق وشارح ومقرب لموضوعات دينية، مؤيدًا لجمال ملامح اللاهوت القبطي، فتبرز صور من ملامح مَنْ قال عنه الكتاب المقدس أنه جال يعمل خيرًا، وهو السيد المسيح، لتقريب مظاهر وملامح تلك الجولات الروحية ودراما شخوصها بأدوارهم المؤثرة الناقلة لتفاصيل ومواقف تناولها الكتاب المقدس. وكان نقلها على جدران الكنائس والأديرة والمتاحف العالمية والمحلية يمثل إعادة قراءة جمالية مبهرة للآيات والطقوس والأمثال والعبر برؤى مختلفة عبر العالم (هناك أيقونات تحمل صور السيد المسيح والسيدة العذراء والكثير من القديسين بوجوه شرقية وأوروبية وإفريقية وأسيوية… إلخ وفق جنسيات المبدع والمتلقي)، وتذكّرنا بأحداث وتفاصيل القصص الدينية المسيحية.

وعبر تداول أزمنة الإبداع الإنسانية التاريخية، كانت هناك دائمًا محاولات وتجارب لإعادة التعامل الإبداعي مع موضوعات الأيقونات من حيث فحوى الرسالة وجماليات التعبير ومقاصدها الروحية من عصر إلى عصر وأيضًا من خلال تنوع الفهم المذهبي والروحي لمفردات دراما تعاليم تلك الرسالة الخالدة. ولعل اللوحة الأيقونة الشهيرة “العشاء الأخير” للفنان العالمي العظيم “ليوناردو دافنشي” ــ والتي لا يخلو بيت مسيحي من وجود نسخة منها على جدران غرفة الطعام ـــ خير مثال لأيقونة توجز أحداث ومواقف أبطالها في لحظات حدث تأسيسي خالد عبر الاهتمام بتصوير إيماءات شخوصها واتجاه النظرات وترتيب وجودهم حول السيد المسيح ومدى درجات الإيمان وغيرها من معاني الرسائل التي جاءت مفسرة وشارحة لآيات الكتاب المقدس.

 ولعل جدارية الفنان التشكيلي المصري العالمي الراحل “عادل نصيف” الأخيرة حول نفس الحدث على جدران إحدى الكنائس الأوروبية برؤية جديدة تشير لأهمية الأيقونة كوسيط إيماني قائم ومستمر، وهي رسالة إبداعية تثمن دور الفنون ورسائلها المُرقية للحس الجمالي والتفاعل الدرامي..

ويقول لنا أهل توثيق التاريخ القبطي أن كلمة “أيقونة” تطلق على الرسومات ذات الطابع الروحي التي تعكس حقيقة إلهية، وما عداها فهي لوحات وفنون شعبية. وقد أبدعتها الكنيسة واضعة لها قواعد للرسم لتكون لقاءً مع الخليقة الجديدة، والمسيح هو رأس هذه الخليقة الجديدة. ومن ناحية أخرى، فالأيقونة نافذة على “العالم الآخر”، حيث لا سيطرة للزمان والمكان، ولهذا تبدو الخطوط في الأيقونة غريبة بعض الشيء لأنها لا تنقل صورة كالفوتوجرافية أو الفن الطبيعيnaturaliste . ولأن النور الإلهي يطرد كل ظل خطيئة، تستخدم الأيقونة البعيدين بدون ظلال، وهذا لأننا نصور الطبيعة المفتداة والمنيرة والمقدسة. تُبرِز الأيقونة حضرة الله بين الناس، وهذا فكر أرثوذكسي صميم، إذ تلعب الأيقونة دورًا تعليميًا وإعلاميًا رائعًا في ليتورجيا كنيستنا المقدسة، ففن التصوير المقدس يثقّف شعب الله، إذ يوصل تعليم الكنيسة بما تؤمن، وهكذا تترسخ الخبرة الحقيقية التي للرؤيا الداخلية حين نراها مصورة أمامنا.

بمشاهدة الأيقونة، نتعلم الإيمان مشتركين بالحدث كأنه حاصل أمامنا، وشيئًا فشيئًا، نصبح أكثر فأكثر قربًا من الله من خلال رؤية وتأمل جماله؛ “وَنَحْنُ جَمِيعًا فِيمَا نَنْظُرُ إِلَى مَجْدِ الرَّبِّ.”

وتُعد الأيقونة القبطية فلسفة كنسية روحانية تساعد على ترسيخ الإيمان والمعرفة في الشعب، يضاف إلى ذلك أن الأيقونة تُعتبر عظة، وكتابًا مرسومًا مسجلًا بلغة بسيطة جامعة يقرأها الكل دون تمييز بين لسان ولسان؛ يترجمها الأمي بلغة البساطة كمن يقرأ كتاب أو يسمع عظة، ويتلمس فيها المتعلم ما تعجز المؤلفات عن الإفصاح عنه.

وعندما نتأمل الأيقونة لا نقف عند حدود جمال الفن أو عدمه إذ أنها ترفع الفكر إلى ما وراء الألوان والمادة إلى شخص صاحبها وتمزج مشاعرنا بمشاعره. وحينئذٍ نقرأ فيها قصة حياة صاحبها كلها في نظرة واحدة وتملأنا بعواطف جديدة من حياته المثيرة، فهي تنطق بجهاده الذي قدمه وتشهد للأكاليل التي نالها وتهتف بالمجد العتيد أن يتمجد به.

في تأمل درامي روحي بديع لقداسة البابا شنودة، يذكِّرنا بأن في القيامة لقاءات عديدة جدًا.. كل لقاء فيها له معنى… اللقاء الأول أول لقاء هو لقاء صديقين متلازمين ومتزاملين في وحدة فريدة لا يفترقان طول العمر لحظة واحدة… هذان الاثنان هما الروح والجسد واللذان عاشا معًا في وحدة كاملة… إن فرحت الروح يبتسم الجسد أو يتهلل، وإن حزنت الروح يكتئب الجسد أو يبكي… إن ذهبت الروح للصلاة يركع الجسد أو يسجد. لقد عاشا معًا في هذه الوحدة، ثم بعد الموت يفترقان… وتمر مئات السنين أو آلاف السنين على هذه الفرقة، ثم يأتي يوم القيامة فيسمح الله بقيامة الجسد، ويسمح بأن تأتى الروح وتتحد به .

كل عام وفريق إبداع “الطريق والحق” والقراء وأهل إبداع الأيقونات بخير وأمن وسلام، وكل عام ومصرنا الغالية بكل خير، والسلام لروح الصديق المبدع سفير الفن القبطي عادل نصيف صاحب الرؤى الإبداعية الروحية الخالدة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا