“قرأتُ هذه العبقريات وأعترف بأنني لم أفهم عبقرية عمر ولا عبقرية الصديق لأني وجدته يوازن بين واقعة بدر وبين وقائع نابليون، ولا علاقة مطلقًا بين جيش لم يبلغ ألفي مقاتل وبين جيوش بونابرت الهائلة”!. هكذا صرَّح عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين منتقدًا “عباس العقاد” عبر ندوة تليفزيونية ضمت أدباء مصر.
ورغم رأي العميد والذي تقلد منصب وزير المعارف إلا أن الوزارة ظلت في عهود تالية تقرر اختيار العبقريات الواحدة تلو الأخرى لمن يفهم ومَنْ لا يفهم!!
وتكررت مثل تلك الآراء النقدية والتصريحات عبر الرسائل المتبادلة بين العميد والكاتب الكبير “توفيق الحكيم” وغيرها من حصاد المنتديات الثقافية.
وبالمناسبة، لماذا لا يتم اختيار مثل تلك الرسائل لتدريس المناسب منها عبر مناهج اللغة العربية والتاريخ والتربية الوطنية لما يحمله معظمها من آراء وأفكار نقدية تنويرية وتقدمية نافعة لدعم تنشئة أجيال تعتمد الذهاب إلى الفكر النقدي بحرية ووعي وديمقراطية؟
تُذكر في هذا السياق أمثلة من بعض ما يجري في مدارس ونظم تعليم الدول المتقدمة. لقد قرر معلم المدرسة الابتدائية أن يطلب من تلاميذه أن يدخلوا في حوار مع الله الخالق العظيم، وأن يكتبوا ويعبِّروا عما يغضبهم وما يفرحهم وما يطلبونه من الله ووعدهم أنه لن يعرف أحد ما طالبوا به وما تمنوه.
وكانت محصلة رسائل التلامذة لخالقهم بديعة في صدقها ورائعة في مدلولاتها المباشرة وغير المباشرة… فقد اشتكى البعض رأي أهاليهم فيهم… وهناك مَنْ عبَّروا عن غيرتهم من زملاء تفوقوا… ومَنْ طالبوا بدعم الفقراء… ومَنْ ضايقتهم مشاكسة وتنمر من حولهم… ومَنْ سألوا عن أطفال مناطق الحروب والزلازل والأوبئة وطلبوا عون الله بعد السؤال عن سبب تعرضهم لكل تلك الكوارث… وهناك من سألوا لماذا وقت الفسحة قصير والحصص كثيرة… إلى غير ذلك من رسائل كتبوها بقلب مفتوح وبساطة طفولية أراها صالحة لتشكيل خريطة معرفية لسمات وتركيبات أجيال قادمة للوجود في دنيا الغد.
وإذا كان من حقنا أن نحلم بأفكار ما فإنه من الواجب بل ومن الضروري عند طرحها التأكد من أنها أحلام لأفكار قابلة للتطبيق، والأهم من ذلك أن لدينا البشر القادر والذي يمتلك أدواته التي تمكنه من التطبيق الجيد والأمين لتلك الأفكار لتصبح واقعًا نعيشه ونلمسه في مجال سعينا لإحداث التغيير المأمول… حتى لا تستحيل تلك الأفكار إلى مجرد شعارات لزوم المناسبات أو لامتصاص رد فعل الشارع والرأي العام عقب الأزمات والملمات العاصفة..
ونحن -ودون مبالغة- لدينا بالفعل وبأعداد هائلة بشر قادر على تحقيق أعلى درجات النجاح لكننا -للأسف- نجدهم في الغالب خارج الميدان أو في حالة عدم توافق مع شروط النزال التي يضعها اتحاد اللعبة [إذا جاز التعبير].
وفي إطار حديثنا عن الأفكار حول قضية إصلاح التعليم “أم المشاكل”، قد نتذكر مقولة هامة لوزير التربية والتعليم الأسبق الدكتور حسين كامل بهاء الدين في كتابه “مفترق الطرق”.. [لقد أصبح من المستحيل أن نحمِّل أبناءنا خزائن المعلومات المتاحة لهم فهذا فوق قدرة أي بشر، والخيار الأوحد هو أن نسلحهم بمفاتيح هذه الخزائن فقط]. والمقولة لا يمكن أن يختلف على فحواها ومضمونها أحد، فليس المهم ماذا تعرف بقدر كيف تعرف، مع إتقان التعامل مع وسائل الوصول إلى المعرفة الحقيقية. إن زيادة بث المعلومات لا يمكن أن تكون الطريق لاكتساب المعرفة، لكن أين تلك الأفكار وتطبيقها في مؤسساتنا التعليمية؟ ماذا عن مؤلف المنهج الدراسي والمدرس والموجه والمدير ومعهم أجهزة القياس والتقويم والامتحانات؟ أظنهم يلعبون في ساحة نأمل ألا تبتعد عن الولاء والانتماء وإجادة تطبيق تلك الأفكار والرؤى. أما مفاتيح الخزائن فمتى نجدها في أيادي فلذات أكبادنا بعد أن اختفوا خلف حقائب عملاقة وكأننا قد منحناهم تراخيص حمل الحقائب ليتشابهوا مع حاملي الحقائب في محطات سكك حديد مصر!! لم يعد الهدف تكوين مجتمعات من الناس متشابهة بل بشر قادر على التواصل مع الغير ومتقبل لوجهات نظر الغير، فلم يعد مقبولاً أن يظل المدرس مجرد ببغاء يكرر الكلام بشكل يومي في قاعات الدرس بدلاً من أن يكون مشاركًا وفاعلاً وموجهًا نحو التطوير والإصلاح. الآن ونحن نعمل بجد لدعم وترسيخ مفاهيم وآليات الديمقراطية فإن إعمالها في مجال المنظومة التعليمية بات ضرورة ملحة من خلال دعم الحوار والمناقشة بدلاً من السكب الجبري والفوقي للمعلومات والمقررات ونظم الأداء. علينا أن نعيد الثقة بين المواطن والمؤسسة التعليمية بعد تراجع التواصل الحقيقي بين طرفي العملية التعليمية الطالب والمعلم مما ساهم في انهيار العديد من المثل والقيم .
وفي هذا السياق، يذكِّرنا الكاتب والباحث الرائع “كرم سعيد” بنصوص بعض الدساتير التقدمية الخاصة بالمعلمين، حيث نص قانون التعليم البولندي الصادر بتاريخ 7 سبتمبر 1998 على أن المدارس هي مؤسسات عامة تنشئها الدولة وتديرها وتمولها إضافة إلى التزام الدولة بتحسين رواتب المعلمين، وبمواكبة المناهج التعليمية لروح العصر، وتوافقها مع هياكل الاقتصاد الحر (اقتصاد السوق)، وبتزويد المدارس بالتقنيات الحديثة.
في المقابل، جاءت نظرة جميع الدساتير المصرية وتعديلاتها للتعليم مقتضبة، وتركت الباب واسعًا أمام القوانين لتنظيم العملية التعليمية، وهو الأمر الذي ترتب عليه تباين النظم التعليمية، فلدينا تعليم حكومي وآخر أجنبي، ولدينا تعليم عام وآخر استثماري. وقد تسبب هذا الخليط من النظم التعليمية في مصر في انقسام المجتمع على نفسه.
إن الوجه الحقيقي المُشرق للديمقراطية نطالعه عندما يتم الدفع بكل أصحاب الأدوار المبدعة والفاعلة والقادرة لتقدم الصفوف، وحين نواجه بحسم ظاهرة النجاح والشهرة السريعة وتحقيق الثروات لبشر لم يقدموا أي إضافة للوطن والمجتمع، حتى لا تتفشى مشاعر الحقد والكراهية من جانب أصحاب القدرات الإبداعية والأدوار الجادة تجاه أصحاب تلك النماذج المزيفة.