عشتُ ولا زلتُ أعيش فترات طويلة من حياتي وأنا مغتربة عن وطني وبلدي الحبيب، وذلك لأسباب متعددة ومختلفة، بعضها متعلق بالعمل والبعض الآخر متعلق بأسرتي. وفي كل الحالات، أشعر بالاغتراب وبالحنين إلى الوطن والمجتمع الذي نشأت فيه، والذي يحمل من الخصائص والسمات المتميزة ما لا يتواجد في أي مجتمع آخر، وهو شعور من الصعب أن يوصف ولا يحس به إلا الشخص الذي اجتاز في مثل هذه المشاعر. وقد تعمِّق من الإحساس بالغربة صعوبة التكيف مع المجتمع الجديد نظرًا للاختلافات الأيديولوجية والثقافية التي يتبناها هذا المجتمع، والتي قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى الشعور بالوحدة والانعزالية. وبهذا المعنى، نجد أن الاغتراب يعني الابتعاد عن الموطن الأصلي الذي وُلِدنا وتربينا فيه، وتشكلت ملامح شخصياتنا وأنفسنا وفقًا لقيمه ومعاييره المجتمعية والأخلاقية.
إلا أن هناك نوعًا آخر من الاغتراب يشعر به الشخص رغم تواجده في موطنه الأصلي وفي مجتمعه، بل وفي وسط عائلته وأهله، وهو ما يُعرف بالاغتراب النفسي، أي الإحساس بالاغتراب عن ذاته حيث يشعر الإنسان بفقدان ذاته المتميزة والمتفردة والتي تجعله لا يشعر بأنيته (الأنا)، وقد يسبب هذا الإحساس عدم الأمان والقلق والعزلة الاجتماعية. وقد يكون هناك أساس متعددة للإحساس بالاغتراب النفسي Alienation، ومن بين هذه الأسباب ما يلي:
فقدان القيم والمعايير الأخلاقية والدينية: قد تختلف القيم والمعايير الأخلاقية والدينية الموجودة في المجتمع عن القيم والمعايير التي يتبناها الشخص والتي تعبِّر عن أحاسيسه وأفكاره الخاصة، فيدخل في صدام مع المجتمع، وقد يظهر ذلك في شكل سلوكيات سلبية كالتمرد والرفض والتطرف للتعبير عن مقاومته لتوجهات المجتمع مما قد يعمِّق في داخله الإحساس بالاغتراب.
الشعور بالعجز: إن الاغتراب عن الذات يعني أن الشخص لا يجد نفسه كمركز لعالمه فهو خارج (الخدمة)، أي خارج الاتصال بالعالم الخارجي، نتيجة عدم إدراكه لذاته ولهويته، فيشعر بالعجز حيث لا يدرك حقيقة ما يريده ومَنْ يكون وكيف يأخذ قراراته، وقد يعجز عن الإجابة عن أسئلة تدور في ذهنه حول (مَنْ أنا؟ وماذا أريد؟).
عدم التفاعل الديالكتيكي بين الفرد والعالم الخارجي: إن الإحساس بالعجز قد يقود الشخص إلى تعطل التفاعل بين الذات الفردية والعالم الخارجي. فالفرق بين وجود الإنسان واغترابه يكمن في مدى إحساسه بشأن هويته ومَنْ يكون، فعندما يعي الإنسان أنيته وتصبح الأنا هي المحركة لسلوكه وأفعاله يشعر بالوجود الإنساني، أما إذا فقد أنيته (الأنا) فلا يعيش ذاته بل يعمل فقط لإرضاء الآخرين ويصبح وكأن إرادته تتحرك بالريموت كنترول، وحينئذٍ يشعر بالضياع والاغتراب.
فقدان معنى الحياة: من أهم أسباب الإحساس بالاغتراب فقدان معنى الحياة، فالشخص يشعر وكأن الحياة ليس لها معنى أو هدف يعيش من أجله. إن خطورة هذا الإحساس هي أنه يقوده إلى العزلة والوحدة وهو ما قد يؤدي به إلى الوقوع في بئر الاكتئاب، وقد يصل في أحيان كثيرة إلى الانتحار. ولذلك فمن الضروري ربط الشخص بأشياء في الوجود تمثل له معنى وهدف يعيش من أجله، وبالتالي يمكنه أن يقهر الشعور بالاغتراب.
نوعية التربية: إن الإحساس بالاغتراب في نظر العالِم النفسي (إريكسون) مرتبط بالتربية، حيث تسهم في تشكيل هوية الفرد، فمثلًا يعمل التشجيع والحب غير المشروط والثقة والاستقلالية التي تُمنح للأبناء على إبراز قوة الأنا التي تحرك إرادته وسلوكه، وبالتالي تقهر الشعور بالاغتراب.
خطوات نحو قهر الاغتراب:
– اعتبر (كارل ماركس)، وهو مؤسس دعائم الاشتراكية، أن المجتمعات الرأسمالية تعمِّق من اغتراب الإنسان لذاته، حيث إن قيم ومبادئ تلك المجتمعات تعمل على قتل روح الحب مما يفقد الإنسان إدراكه لذاته ولهويته الأصلية، حيث لا يسعى إلا لإرضاء متطلبات المجتمع فقط دون النظر إلى مشاعره وأحاسيسه وكأنه خارج الخدمة، أي مغترب عن ذاته الحقيقية. لذلك على تلك المجتمعات أن تعمل على تغيير القيم والمبادئ التي تتبناها لتتماشي مع الهوية الإنسانية وتستعيد للإنسان كينونته فيمكنه أن يحب ويتفاعل ويعبِّر عن مشاعره وآماله وأفكاره، وبالتالي يستمتع بإبراز قوة الأنا التي تحميه من الضياع والاغتراب.
– كما أن الأسرة لها دور أساسي في تنمية (الأنا) لدى الأبناء، فالإحساس القوي بالهوية لا يتأتى إلا من خلال منحهم فرص التعبير عن أنفسهم، كما يمنح الثقة والتشجيع والحب غير المشورة الأبناء القدرة على الإحساس القوي بالوجود الإنساني.
وأخيرًا فإن قهر الاغتراب لا يتأتى إلا بالالتصاق بمصدر الحياة، شخص الرب يسوع، وإدراك محبته، حيث إنه أحبنا إلى المنتهى ومات وقام ليسترد لنا هويتنا الأصلية (أن نكون مشابهين صورة ابنه)، فأصبحنا شركاء الطبيعة الإلهية، وصرنا جنسية سماوية نحمل الـ D.N.A الإلهي.
إن الشركة الحية مع الآب السماوي تفتح لنا قنوات الحب، فتنسكب محبته في قلوبنا بالروح القدس وتفيض في داخلنا، وحينئذٍ يمكننا أن نقدم الحب للآخرين وندرك معنى العطاء والبذل، وهو ما يعطي للحياة قيمة ومعنى ويجعلنا نستمتع بالوجود الإنساني الذي يقهر الإحساس بالاغتراب.