ليس من الظن الصائب الاعتقاد بعدم وجود ما حلم به شعراؤنا وأدباؤنا طوال عهودهم وتاريخهم المنشود ألا وهو “المدينة الفاضلة”. وليس من الحكمة التسرع بنفي وجود تلك المدينة قبل الانتهاء من قراءة ما اختلج في ذهني من أفكار معبرة عن أعماقي وقلبي وأحشائي.
فهل من وجود لتلك الحدود الأربعة المكونة لفضلى بقاع الأرض والهائمة في بحر من الأخلاق التي ارتأتها القلوب النقية والأنفس الصافية؟
توقعت الأبصار المتبرئة من البصيرة بأنها حدود لها من المكانة والمكان بين الكثير من المقاطعات والبلدان المبعثرة والمنتثرة على إحدى الخرائط هنا وهناك. وظن الظن الخائب بأنها حدود لها ما يحدها من الأقطار التي لطالما عجت بالصراعات والنزاعات بين الإنسان وأخيه الإنسان من ناحية، فضلاً عن الإنسان ونفسه من ناحية أخرى، وهذا هو عالم السوء الخالي من كل ما له صلة بحسن الشيم أو بالأحرى المآثر والمكارم والفضائل.
لكنها معامل الحياة ومرآة البشر، وأما عن الحياة ومعاملها فهي القلوب التي تزرع حركة دمائنا وما تحمله من حياة في تلك الخريطة الصماء، أي شراييننا وأوردتنا. وأما عن مرآة البشر فهي تلك المتحدثة عنهم دون آخر معها ألا وهى أرواحهم، تلك الأرواح التي تخبر عن مكنونات الإنسان ومَنْ يكون…. وهل ثمة علاقة بين أحشاء كل بني آدم أو قُل بعضًا منهم وبين بؤرة حلمهم وهي فضلى المدن، المدينة الفاضلة؟!
نعم؛ فعندما تتبرأ الروح في اتحاد مع القلب من كل ما يعترض صفاء النفس ونقائها.
عندما تخطئ النفس ثم سرعان ما تدرك ذلك الخطأ وتلك الفعلة الغاشمة ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تتسابق مع الزمن وأوقاته فتعتذر وتتأسف وتندم وتتألم.
حين تصفح النفس دون مقابل وتعفو دون أجر كما تسامح وتتسامح دون أن ينكس المخطئ رأسه على فعلته أسفًا وندمًا وحزنًا وتألمًا.
وحين تبادر الأيدي بالعطاء وتمنح الروح من لدنها الكثير دون رد، وتختفي اختفاءً من البخل والشح بطيب السؤال وحسن التعامل وجزيل الهبات التي لا تترقب ردًا لفعل لما هي عليه.
وعندما تلتزم الصمت عند الشعور بالإهانة، وقت أن تعطى مجالًا للحكمة ومساحة لا بأس بها من التفكير للرد دون الأذى ولأخذ الحق دون السوء.
وعندما ………، فيقينًا أنت في المدينة التي بحث عنها الكثيرون والكثيرات. ومَنْ مِن البشر لا يضع اعتبارًا لذلك حين يمتلك شخصًا ليكون له أسيرًا، يكون له مسكنًا ودربًا ومدينة وعالمًا وكونًا؟ وهل وجود أحدهم كافيًا ليكون كل البشر في واحد؟ نعم، فهو أحد أفراد تلك المدينة بل هو تلك المدينة في أحد أفرادها؛ الإنسان الفاضل والمدينة الفاضلة!!! الإنسان الفاضل والمدينة الفاضلة .