واحدة من أعجب ما قصه كتاب الله التوراة والإنجيل من أحداث، والتي وقعت بالفعل في عالمنا المرئي الذي نعيش فيه، هي تلك الحادثة الواردة في سفر دانيآل والأصحاح الثاني، والتي كان بطلاها، حسب ترتيب أهميتهما وتأثيرهما في الحادثة، “دانيآل” نبي المولى، تبارك اسمه، والذي سبي من أورشليم على يدي نبوخذنصر ملك بابل، أما الشخصية الثانية، فهو الملك نبوخذنصر نفسه، وقد كان يدعى ملك ملوك الأرض يومئذ، حيث إنه كان يملك، بسماح من القدير الجالس على العرش سبحانه، على الغالبية العظمى من المسكونة ويتسلط على ملوكها والساكنين فيها.
وما حدث بالضبط حسب نص رواية كتاب الكتب، الكتاب المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه “في السنة الثانية من ملك نبوخذناصر، حلم نبوخذناصر أحلامًا، فانزعجت روحه وطار عنه نومه. فأمر الملك بأن يستدعي المجوس والسحرة والعرافين والكلدانيين ليخبروا الملك بأحلامه فأتوا ووقفوا أمام الملك”.
وهنا لابد من وقفة تأمل فيما ذكره الوحي في الآيات السابقة، فواضح أن نبوخذنصر كان حاكمًا بأمره، لا يعنيه كينونة المحيطين به ولا يهمه في كثير أو قليل مكانهم ولا مكانتهم، فهو كل ما شاء صنع بلا مراقب أو محاسب أو من يستطيع أن يتفوه بكلمة ضد ما يريد أو يرغب حتى وإن وصل به الأمر إلى استخدامه لرجال بلاطه وكل من حوله لعمل وإنجاز مصالحه الشخصية، ولتلبية رغباته النفسية والجسدية، فهل كانت مصوغات تعيين المجوس، أي الحكماء، والسحرة والعرافون والكلدانيين هي لإخبارك يا نبوخذنصر الملك بأحلامك وتفسيرها لك؟، وهل يعقل أن تعتمد إدارة أي بلد من البلاد على أحلام ملكها أو رئيسه، أو على تفسير هذه الأحلام بواسطة السحرة والعرافين والكلدانيين الملتفين حوله، لسبب أو لآخر، أم أنها لابد أن تعتمد على علم العلماء ودراسة الدارسين وتخصصات المتخصصين الذين يبنون تفسيراتهم وخططهم ويقرأون الواقع الحاضر والآتي وفقًا لقوانين ومعايير وأساليب دولية علمية لا على التكهنات والتخيلات والسحر والعرافة والشعوذة وقراءة الفنجان؟
ثم يكمل الوحي سرده لهذا الحدث العجيب بالقول: “فقال لهم الملك قد حلمت حلمًا وانزعجت روحي لمعرفة الحلم. فكلم الكلدانيون الملك بالآرامية: عش أيها الملك إلى الأبد. أخبر عبيدك بالحلم فنبين تعبيره”.
وهنا نرى نوعية هؤلاء المستشارين والملتفين حول هذا الملك من السحرة والعرافين والكلدانيين الكذبة المتملقين الخائفين ويظهر كل هذا في قولهم للملك: “عش أيها الملك إلى الأبد”، فهل هناك من البشر من يمكنه أن يعيش إلى الأبد؟، هل من دائم إلى الأبد إلا الله وحده سبحانه؟، ألا يعلم أولئك هذه الحقيقة الثابتة أن كل نفس ذائقة الموت، وأنه وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة؟، فلماذا قالوا هذه العبارة للملك؟، هل لخوفهم من الكلام معه كرجال يحتاجهم هو ليؤدوا له خدمة إخباره بأحلامه وتفسيرها، أم لأنهم تعودوا على التملقات وقول مثل هذه الديباجات للرؤساء والملوك والضباط ورجال القضاء وكل من هم في منصب؟، أليس هذا عين ما نراه إلى اليوم في الشعب المصري والعربي؟، فسائق التاكسي هو دائمًا باشمهندس، وأمين الشرطة وضابط البوليس هو دائمًا الباشا، والقاضي هو سيادة “صاحب المقام الرفيع المستشار الجليل”. وفي هذه الجزئية بالذات تحضرني واقعة كنت أحد أطرافها عندما ذهبت لزيارة العراق للمرة الأولى، كان الرئيس العراقي الأسبق “صدام حسين”، مازال حيًا متربعًا على العرش، كنت مع اثنين من العراقيين الشباب من أقرباء أحد أصدقائي بأمريكا في طريقنا من بغداد إلى الموصل، كانت لوحة أرقام السيارة التي كنا نستقلها مكتوب عليها “محافظة تكريت” مسقط رأس صدام حسين، عند اقترابنا من تكريت بدأ من معي في السيارة الحديث عن صدام حسين، وكيف أنه كان يحب المسيحيين وغيرها من القصص، كنت أتجاذب معهم أطراف الحديث، بينما كنت أنا أذكر كلامي الرئيس العراقي باسمه “صدام حسين”، لاحظت أنني في كل مرة كنت أنطق بها هذا الاسم يبدو التوتر على وجوه مرافقيّ، ولا حظت أنهما لم ينطقا باسمه أبدًا، بل في كل مرة عند ذكر أحدهم إياه، أن المتحدث كان يقول: “سيادة الرئيس حفظه الله ورعاه”، فيجيبه الثاني: “سيادة الرئيس حفظه الله ورعاه”. تكرر هذا الأمر عشرات المرات، كنت أعلم أن هذه هي الطريقة التي يستخدمها العراقيون عند الحديث عن رئيسهم خوفًا من أن يسمعهم أحد ينطقون باسمه مجردًا من الألقاب ويبلغ السلطات عنهم وعندها سيُمسح هو وعائلته من سجل المواليد من العراق، ولن يُعرف موضعه بعد ذلك، لكن ما أدهشني أننا كنا في سيارة أحدهم نحن الثلاثة فقط، قلت لأصدقائي: لماذا تصرون على أن تكرروا هذه الدباجة كلما تكلمتم عن رئيسكم؟، نحن هنا ثلاثة أفراد أنتما وأنا؛ فمن منا يمكن أن يكون الجاسوس الذي سيبلغ السلطات إن أحدنا نطق باسم الرئيس دون هذه الديباجة؟، أجابني أحدهم نحن لا نخاف من أحدنا نحن الثلاثة، لكن نخاف من أنفسنا، فالأمر وما فيه أنه إن لم ننطق بهذه الديباجة كل مرة بلا استثناء حين نتكلم عن الرئيس “حفظه الله ورعاه”، أن يتعود لساننا على عدم النطق بها، وقد نخطئ دون قصد في حديثنا عنه، حفظه الله ورعاه، أمام شخص ما، فيكون مصيرنا الطرح، نحن وعائلاتنا، في جهنم ناره حفظه الله ورعاه.
ثم يكمل الوحي المقدس القصة بالقول: “فأجاب الملك وقال للكلدانيين: قد خرج مني القول إن لم تنبئوني بالحلم وبتعبيره تصيرون إربًا إربًا وتُجعل بيوتكم مزبلة”. وهنا نجد أن نبوخذنصر الشرير يريد أن يصنع من البشر أنبياء له، وبالتالي فهو يأمرهم بأن يعلموا الغيب له، ويعرفوا ما حلم به على فراشه ويخبرونه به، ليس ذلك فقط بل يتوعدهم بصدور أمر ملكي بإعدامهم بأبشع الطرق بأن يقّطعوا قطعًا قطعًا هم وكل من في بيوتهم فتصبح بيوتهم مزابل بلا ساكن، فكيف يمكن أن يخرج من فمك كقائد وكملك قول وحكم مثل هذا دون تروٍ ونقاش وبحث للأمور، كيف تصدر حكم بالموت والقضاء على الحكماء الذين في مملكتك جميعًا ولأتفه الأسباب، حتى لو تفسير أحلامك وتحقيقها، وكيف تطلب من الناس علم الغيب والإنباء به، وما يعلم الغيب إلا علام الغيوب وحده من لا شريك له.
ثم يكمل الملك الشرير المتغطرس قائلاً: “وإن بينتم الحلم وتعبيره تنالون من قبلي هدايا وحلاوين وإكرامًا عظيمًا فبينوا لي الحلم وتعبيره”. وسؤالي هو: كيف تقصر يا جلالة الملك إعطاء الهدايا والحلاوين على من يحقق رغباتك التي لا يمكن أن يحققها إلا الله وحده؟، كيف تضع ميزان القتل والإبادة والإكرام والحلاوين بما يحققه الآخرون لك؟
“فأجابوا ثانية وقالوا ليخبر الملك عبيده بالحلم فنبين تعبيره. أجاب الملك وقال: “إني أعلم يقينًا أنكم تكتسبون وقتًا”، وما الخطأ في أن يكسب المحكوم عليه بالإعدام وقتًا حتى يراجع نفسه ويعلن عن ذلك؟، لما لا تعطيهم أنت وقت ليستعملوا سحرهم وحكمتهم وتنجيمهم ليحققوا مطلبك؟، ثم يقول الوحي تكملة لكلام الملك الشرير: “إذ رأيتم أن القول قد خرج مني بأنه إن لم تنبئوني بالحلم فقضاؤكم واحد”. والسؤال هنا: كيف تصدر حكمًا واحدًا على الجميع، بالرغم من اختلافهم في الأعمار، والخلفية والخبرة والأغراض من تعيينهم في مناصب مختلفة؟، إن مسألة التعميم على فئة كبيرة من الشعب واتهام الجميع بالخيانة والفساد والكذب لهي مسألة شيطانية يحاول فيها العدو أن يصور للناس أن جميع المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين لصوص وكذبة بسبب سرقة وزير أو مدير واحد أو أكثر.
ثم يكمل نبوخذنصر الملك كلامه لعرافيه ومنجميه بالقول: “لأنكم قد اتفقتم على كلام كذب وفاسد لتتكلموا به قدامي إلى أن يتحول الوقت. فأخبروني بالحلم فاعلم أنكم تبينون لي تعبيره”. وهنا تبرز ما يطلق عليه البعض وصف نظرية المؤامرة، والتي فيها يُرجع المرء أو الجماعة أو الدولة وعلى رأسها الملك كل ما يصادفهم من مشاكل واحتياجات وصراعات يرجعونها بسبب تربص العدو بهم وتدبيره المؤامرات ضدهم بدلاً من يجلس الملك مع حاشيته ويقيم الأمور بطريقة علمية سليمة ويتخذ هو ورجاله القرارات الصائبات لتحسين أوضاع بلادهم، فلقد أقنع نبوخذنصر نفسه بأن هناك مؤامرة ضده من رجاله السحرة والمنجمين والكلدانيين، بأنهم اتفقوا على أن يخدعوه بكلام كذب واتفقوا بعضهم مع بعض على أنه لابد أن يخبرهم أولاً بالحلم، فيكون الباقي سهلاً يسيرًا في أمر تفسيره، أما نحن، فالحمد لله الذي أوجد لنا إسرائيل وأمريكا ككبش فداء ومخرج لنا من كل ما يوجه إلينا من لوم أو تساؤلات كشعب بسبب إخفاقاتنا الشخصية الكثيرة في مجالات عديدة، فبدلاً من أن يراجع نبوخذنصر الملك نفسه ويواجهها على حقيقتها ويلومها على اتخاذ قرار قتل حكماء بابل دون تريث وتدبر بسبب عدم قدرتهم على إنبائه بحلمه وتفسيره، يتهمهم جميعًا بتهمة الخيانة العظمى والتآمر ضده شخصيًا والاتفاق فيما بينهم على تضليله وإعطائه كلام كاذب فاسد، فهل الكل فاسدون؟، هل كل من لم يستطع لسبب أو لآخر أن يلبي طلباتك التي لا يمكن تلبيتها يصبح كاذبًا، فاسدًا، خائنًا متآمرًا مع الآخرين ضدك لقلب نظام حكمك؟، ألا يوجد حولك أمناء أوفياء مخلصون لك ولقضية الوطن حتى تثق بهم حتى إذا لم يحققوا لك كل طلباتك؟، ثم إن كان هؤلاء الذين حولك كاذبين فاسدين، فمن المسؤول عن تعيينهم في مناصبهم إن كنت تعرف أنهم فاسدون، ألست أنت الذي أصدرت قرار تعيينهم بشكل أو بآخر؟، ولماذا اكتشفت الآن فجأة أنهم فاسدون؟، هل لأن معارضتهم أصبحت ضدك أنت شخصيًا؟، ولماذا لم تقاوم فسادهم وتصلح حالهم قبل الآن إلى أن تآمروا ضدك أنت على حد تخيلك للأحداث؟، ولماذا تركتهم قبلاً يعيثون في الأرض فسادًا؟
أسئلة كثيرة كانت تحتاج من نبوخذنصر الإجابة عليها بعد مواجهة نفسه، أما الفاسدون، فمهما كانت درجة فسادهم فيمكن للمرء أن يتعلم من طرقهم كيف يواجه الفساد بكل أنواعه وأشكاله؟
تقول الرواية ما نصه: “أجاب الكلدانيون قدام الملك وقالوا: ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك. لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمرًا مثل هذا من مجوسي أو ساحر أو كلداني، والأمر الذي يطلبه الملك عسرًا وليس آخر يبينه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر”. وفي هذه الإجابة التي أجاب بها الكلدانيون الملك عدة مغالطات:
أولها هي استخدام أسلوب التعميم للخروج من المأزق حيث قالوا للملك ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك، وواضح أن الملك عندما طلب ما طلبه أمرهم هم وليس من إنسان آخر على الأرض، فكانوا وكأنهم يتكلمون نيابة عن كل من في الأرض بأن ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر للملك.
ثانيهما: استخدام المنطق العقلي البشري فحسب، للخروج من المأزق: فالمنطق البشري يقول لا يعلم الغيب إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، وبناء عليه لا يمكن للسحرة والمنجمين والكلدانيين أن يعلموا الغيب أو ينبئونا به، غير عالمين أن منطق المولى، تبارك اسمه يفوق كل منطق ولا يخضع لمنطق البشر وهو فعال لما يريد فله وحده أن يجعل من البشر من يستطيع بروحه تعالى أن يعلم الغيب وينبئ به.
ثالثهما: أسلوب المقارنات بين شخص وشخص: حيث قارن السحرة والمنجمون والكلدانيون بين مطلب نبوخذنصر منهم كملك وبين بقية الملوك الذين لم يطلب أحدهم مطلب مثله من أمثالهم.
رابعًا: مغالطة أن الخطأ لا يقع على من لم يستطع أن ينفذ الأمر، بل على طالبه، فبدلاً من الاعتراف الصريح والبسيط بعدم قدرة الفرد على صناعة المعجزات أو الإنباء بالغيب أو إصلاح دولة أو دين، يلوم أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يطالبون بالإصلاح أو التغيير أو حل الأزمات والضيقات.
خامسًا: محاولة إدخال القدسية والآلهة والأقسام بالله في آية مناقشة حول أي موضوع مادي أو علمي أو سياسي وغيره. فكل ما يراد المرء تحقيقه سيتحقق بالصبر وبإذن الله، وكل ضيقة ستفرج بالصبر وبإذن الله، وكل نصر على العدو ومؤامراته الداخلية والخارجية سيصير بإذن الله، وما صبرك إلا بالله. لذلك أراد المنجمون أن يجعلوا القضية بين الملك والله، لأن الأمر جد خطير والأمر الذي يطلبه الملك عسرًا وليس آخر يبينه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر”.
وبالرغم من صحة الحقيقة الأخيرة المذكورة عاليه من أن الأمر خطير وعسر وليس آخر يبينه قدام الملك غير الإله الواحد الذي ليست سكناه مع البشر، إلا أنها قيلت من الكلدانيين والسحرة والمنجمين بصيغة اليأس والنفي واستحالة أن يكون هناك إنسان على الأرض بقادر على تبيين الأمر.
غير عالمين أن الإله الواحد الوحيد سبحانه وتنازل إلينا، الذي لا يسكن في هياكل مصنوعة من طين بأيدي البشر، يسكن في كل من آمن به من كل قبيلة وأمة وشعب ولسان، ربًا ومخلصًا ومسيحًا وسيدًا.
وعليه فكانت النتيجة أنه بدلاً من أن يعيد الملك تفكيره في إصدار حكم الموت والقتل على الحكماء، وبدلاً من أن يستفيد من حكمتهم ومشورتهم، وبدلاً من أن يسأل عن بدائل متاحة للخروج من أزمته النفسية ومن تأثير أحلامه عليه بدلاً من كل ذلك يقول تنزيل الحكيم العليم “لأجل ذلك غضب الملك واغتاظ جدًا وأمر بإبادة كل حكماء بابل. فخرج الأمر وكان الحكماء يقتلون”، ولست أعلم لماذا غضب الملك واغتاظ جدًا بسبب أن حكماءه لم يقدروا أن ينبئوه بالغيب، فهل لكونهم سحرة ومنجمين وكلدانيين، فهذا يعنى أنهم يعلمون الغيب؟، ولماذا اغتاظ وقد أظهروا عجزهم عن تتميم الأمر وتكلموا معه بنفس المنطق البشرى الذي كلمهم به؟، ولماذا أمر الملك بإبادة كل حكماء بابل؟، هل وصل إلى مسامع كل حكماء بابل طلب الملك ولم يستطيعوا تلبيته، أم أن مجموعة منهم هم الذين سمعوا هذا المطلب؟، لماذا يباد الصالح مع الطالح؟، لماذا يقبض على أو يباد أهل المخطئ بخطأ واحد من أسرتهم؟ السبب إنه عندما يغتاظ الرؤساء والملوك تختلف ردود أفعالهم تجاه أبناء أوطانهم، فمنهم من يجلس إلى نفسه أولاً، ويحاسبها ويناقشها ويقيم كل ما عمله بصدق وأمانة وشفافية ويعيد البحث والتقييم في أوامره، وخططه، وطرقه في تنفيذ الأمور ويذكر ما له وما عليه، وهؤلاء هم الأقلية النادرة، ومنهم من يتمسك بطرقه وأوامره وخططه ولا يعير لمن حوله انتباه حتى مع اقتناعه بأنه مخطئ في الكثير من قراراته، ومنهم من يهرب من مواجهة كل مسؤولياته ويسلم زمام الأمور لمساعديه وجيشه وبوليسه لقمع المعارضين والمتظاهرين ومختلفي الرأي معه، وعندها يقتل الحكماء بأيدي الجهلاء وأصحاب الثقة وليس أصحاب الخبرة، ومن يهمهم أن يطيعوا أوامر السلطان فهو وبعده الطوفان.
يقول تنزيل الحكيم العليم بعد ذلك: “فطلبوا دانيآل وأصحابه ليقتلوهم”، غير عالمين أن أمر دانيآل وأصحابه ليس في أيديهم أو رهنًا لما يقرره الإنسان تجاههم، وليسوا هم المتسلطون في مملكة الناس حتى لو صدر لهم الأمر من ملك ملوك الأرض، وأن الله اشترى للمؤمنين أنفسهم، فأصبح أمرهم له سبحانه، وما من قوة في الأرض أو السماء تستطيع أن تؤذيهم أو تتحكم في مصائرهم إلا هو، تبارك اسمه. ثم يقول تنزيل الحكيم: “حينئذ أجاب دانيآل بحكمة وعقل لأريوخ رئيس شرط الملك الذي خرج ليقتل حكماء بابل “ولعل هذا هو بيت القصيد والهدف الأساسي من كتابة هذا المقال، فعندما يكون هناك أمر من حاكم أو ملك أو متسلط لقتل الحكماء يحتاج الإنسان إلى حكمة وعقل، وقد يتساءل أحد: هل من الحكمة والعقل أن يقتل الملك كل من يقف أمامه ولا ينفذ أوامره في التو واللحظة ما لم يستطيعوا أن يحققوا طموحاته وأوامره وشطحاته؟، أليس من العجيب أن يكون رئيس الشرط جاهزًا لقطع الرقاب؟، فكيف يجيب دانيآل بحكمة وعقل عندما يأتي السياف لقطع رأسه؟، وكيف يجيب دانيآل بحكمة وعقل تجاه قرار ملك لا عقل عنده ولا منطق ولا آداب أو مشاعر إنسانية؟، وكيف يتكلم دانيآل بحكمة وعقل مع سيادة لواء الشرطة الذي جاء للقبض عليه ولإعدامه وهو الأسير من شعب الله الذي أسره رئيس جيش نبوخذنصر، من ذهب إلى أرض آبائه وحاصرها وفتحها واختطفه من بيته وعشيرته ومدينته إلى بابل؟، أي حكمة هذه وأي عقل ذاك الذي يظهر في مثل هذه الظروف القاسية؟ ما من شك إنها الحكمة السماوية النازلة من فوق من عند أبي الأنوار، هل من الحكمة والعقل أن يقتل الحكماء في دولة بأكملها، وعن طريق رجال شرطة الدولة ذاتها؟، أليس من الطبيعي والمنطقي والمحتم أن تكون الشرطة في خدمة الشعب، أم أنها في كثير من البلاد في خدمة الملك وحده، ولتنفيذ أوامره وحده؟، حتى لو وصل الأمر لقتل الحكماء ورجال المشورة والبلاط الملكي، لقد أرسى دانيآل هنا مبدأ مهمًا للغاية كان يعمل به من آلاف السنين، في مملكة بابل، حتى مع ملكها المتهور المجنون الجاهل الذي أصدر أوامره بإبادة كل الحكماء في مملكته دفعة واحدة، وهو أنه لابد من الكلام والنقاش وإبداء الرأي لوزير الداخلية الذي قد يخرج سريعًا لتنفيذ أمر الملك دون تروٍ ودون اتباع خطة مدروسة في الاستماع إلى الناس وإلى مطالبهم، وتقدير ضغوط قلة الحاجة وغلائها، وكثرة العيال ومتطلباتهم، وندرة الراحة الداخلية في البيوت والخارجية في الشوارع والأشغال والزحام.
يقول تنزيل الحكيم العليم: “أجاب (دانيآل) وقال لأريوخ قائد الملك: لماذا اشتد الأمر من قبل الملك؟”. والسؤال، ألم يكن دانيآل يعلم لماذا اشتد أمر الملك؟، لا شك أنه كان يعلم، إذًا فلماذا أجرى هذا الحديث مع أريوخ؟ ليتنا نتعلم من دانيآل نبي العلي طريقته في حل الأمور والمشاكل وكل ما يصادفنا في الحياة من تحديات. أجرى دانيآل الحديث مع رئيس الشرط:
أولاً: ليوقف نزيف الدماء والقتل حتى لدقائق قليلة.
ثانيًا: ليفتح الجسور بينه وبين وزير الداخلية الذي لا يهمه إلا تنفيذ أوامر سيده بقتل الذين لم يسمعوا ويطيعوا أوامره.
ثالثًا: لكي لا يلقى اقتراحه بحل الأزمة ورئيس الشرط في أوج انفعاله وإسراعه لتنفيذ أوامر الملك الخاطئة الغاشمة الخالية من كل حكمة.
والعجيب أن القصة في الكتاب المقدس تدون الكلمات “حينئذ أخبر أريوخ دانيآل بالأمر”. يا للعجب! هل كان من الممكن، منذ أكثر من ألفين وستمائة عام، يوم كان دانيآل النبي مسبيًا في بابل أن يتكلم المحكوم عليه بالموت، بأمر من الملك، مع رئيس الشرط “وزير الداخلية” الذي جاء للقبض عليه وتنفيذ الحكم فيه، ويتحاجج معه، إن كان هذا صحيحًا وهو بالتأكيد صحيح، فكيف لا نستطيع نحن بعد آلاف السنين أن نتكلم مع شرطي بشريطة واحدة ناهيك عن أمين الشرطة.
ليس ذلك فقط، بل إلى هنا أنهى دانيآل بحكمته دور رئيس الشرط في قتل الحكماء، وبدأ التعامل بين دانيآل والملك أن يكون في صورة مباشرة، دون وساطة أو نقل للكلام، فدخل دانيآل وطلب من الملك، وفي هذه الجملة القليلة في كلماتها الكثيرة والعظيمة في معانيها نرى الكثير من الدروس التي يجب أن نتعلمها للتعامل مع أصحاب السلطة:
أولاً: على الرؤساء والملوك والوزراء وكل من هم في منصب أن يفسحوا المجال للحكماء من الناس لمقابلتهم والتحدث إليهم وشرح وجهات نظرهم فيما يهم البلاد والعباد وأن يكفوا عن سماع آراء الذين يحيطون بهم فقط، وأن يعلموا أن لرجل الشارع العادي رأيه وطموحاته ورغباته التي إن لم تخرج في صورة كلمات من صدره خرجت في صورة رصاصات من يده.
ثانيًا: لم يخش دانيآل من الدخول إلى الملك الغاضب المتهور من يظن أنه الأول والآخر البداية والنهاية من يقول، فيكون، يأمر فيصير، وكأن لا إلهًا أو عاليًا متسلط في مملكة الناس، سبحانه، إلا هو حتى يصدر كملك أرضي أمرًا ملكيًا بقتل كل حكماء وسحرة ومنجمين وكلدانيين بابل.
ثالثًا: دخل دانيآل بخطة وطلب واضح محدد وهو، أن يعطيه الملك وقتًا فيبين للملك التعبير.
رابعًا: دخل دانيآل بثقة في إلهه، وبيقين أنه لن يخذله أبدًا وأنه سيعلن له عن ما خفي عن بقية الناس وأنه سيخبر الملك بحلمه وسيبين له التعبير.
خامسًا: “حينئذ مضى دانيآل إلى بيته”، ذلك البيت الذي تعود فيه أن يلتقي بملك الملوك ورب الأرباب الإله العظيم الرحيم القدير القادر على كل شئ، تعود دانيآل أن يلتقى بهذا الإله ثلاث مرات في اليوم وهو يسبح ويحمد ويتضرع إلى إله السماء، وكان دانيآل يعرف جيدًا القانون الإلهي الذي ينص على أن من يجلس مع الله القدير راكعًا مصليًا كل يوم لا يمكن أن يتخلى عنه سبحانه في الاحتياجات والأزمات والامتحانات والتجارب اليومية مهما كانت صعابها.
سادسًا: أعلم “حننيا” و”ميشائيل” و”عزريا”، أصحابه بالأمر، فالأمر خطير لابد أن نكون معًا بيد واحدة، ولابد من اتحاد حننيا وميشائيل وعزريا أصحابه معه ليطلبوا “المراحم من قبل إله السموات من جهة هذا السر لكي لا يهلك دانيآل وأصحابه مع سائر حكماء بابل”.
سابعًا: لا يترك المصلي الرب حتى يكشف له عن السر المطلوب معرفته وإلى أن يتم المكتوب: “حينئذ لدانيآل كشف السر في رؤيا الليل”.
ثامنًا،: لابد من مباركة إله السموات وحمده وشكره فور إعلانه السر مباشرة، حيث ذكرت القصة: “فبارك دانيآل إله السموات. أجاب دانيآل وقال: ليكن اسم الله مباركًا من الأزل وإلى الأبد لأن له الحكمة والجبروت. وهو يغير الأوقات والأزمنة يعزل ملوكًا وينصب ملوكًا. يعطي الحكماء حكمة ويعلم العارفين فهمًا. هو يكشف العمائق والأسرار. يعلم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور”.
تاسعًا: أن يعترف الإنسان أن الحكمة والقوة والعلم هي من المولى وحده وليس لبر فينا أو صلاح عملناه: “إياك يا إله آبائي أحمد وأسبح الذي أعطاني الحكمة والقوة وأعلمني الآن ما طلبناه منك لأنك أعلمتنا أمر الملك”.
عاشرًا: أن يواجه الإنسان المتكل على الله القدير أعلى الرتب والملوك والرؤساء بما أعلمه الله، وبالحل لكل مشاكل الدنيا والآخرة كما جاء في قوله تعالى: “فمن أجل ذلك دخل دانيآل إلى أريوخ الذي عينه الملك لإبادة حكماء بابل. مضى وقال له هكذا: لا تبد حكماء بابل. أدخلني إلى قدام الملك فأبين للملك التعبير. حينئذ دخل أريوخ بدانيآل إلى قدام الملك مسرعًا وقال له هكذا: قد وجدت رجلاً من بني سبي يهوذا الذي يعّرف الملك بالتعبير”.
ومن الملاحظ هنا أن دانيآل هو الذي كان يعطي الأوامر لأريوخ رئيس الشرط وليس العكس، قائلاً له: “لا تبد حكماء بابل”، بالرغم من أن أمر الملك كان أن يبيد أريوخ حكماء بابل، هكذا يفعل الله للمتكلين عليه، الراجين رحمته، الطالبين وجهه، العاملين أوامره عند سماع صوت كلامه. أجاب الملك وقال لدانيآل الذي اسمه بلطشاصر: هل تستطيع أنت على أن تعرفني بالحلم الذي رأيت وبتعبيره؟”.
حادي عشر: لابد من الشهادة عن الله القدير وإعطائه كل المجد علنًا قدام الجميع عند افتراج الأزمات وإيقاف القتل والإبادة واستجابة الصلوات لأنه وحده المستحق التسبيحات والتشكرات. “أجاب دانيآل قدام الملك وقال: السر الذي طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجمون على أن يبينوه للملك. لكن يوجد إله في السموات كاشف الأسرار وقد عرف الملك نبوخذناصر ما يكون في الأيام الأخيرة”.
ثاني عشر: لابد من توقع أن يعمل الله معنا أكثر مما نطلب أو نفتكر بحسب غناه في المجد. لقد طلب دانيآل من إله السماء أن يبين له الحلم وتفسيره حتى لا يباد هو وأصدقاؤه مع حكماء بابل، لكن الله أعطاه نفسه غنيمة وأنفس أصحابه شدرخ وميشخ وعبد نغو وأنفس حكماء بابل الذين لم يقتلوا بعد وأعطاهم مراكز أولى في مملكة بابل، وجعل الملك نفسه الذي أمر أن يباد دانيآل وكل حكماء بابل أن يسجد لدانيآل عندما قال له “الله العظيم قد عرف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق، حينئذ خر نبوخذناصر على وجهه وسجد لدانيآل وأمر بأن يقدموا له تقدمة وروائح سرور. فأجاب الملك دانيآل وقال: حقًا إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار إذ استطعت على كشف هذا السر. حينئذ عظم الملك دانيآل وأعطاه عطايا كثيرة عظيمة وسلطه على كل ولاية بابل وجعله رئيس الشَّحن على جميع حكماء بابل. فطلب دانيآل من الملك فولى شدرخ وميشخ وعبد نغو على أعمال ولاية بابل. أما دانيآل فكان في باب الملك”.
فيا حكام العالم وملوكه وساسته، تعلموا الدرس من نبي الله دانيآل، فلا تصدروا أحكامًا بالحبس والقتل والإبادة على حكماء ممالككم، فأنتم في حاجة إليهم وويل للأمة أو المملكة التي يباد حكماؤها، ولا تحكموا بلادكم بالسحرة والمنجمين والكلدانيين لأنهم لن يخبروكم بالغيب، بل أحيطوا أنفسكم بأهل الحكمة والعقل والإيمان، واستمعوا لهم حتى إذا خالفوكم في الرأي والمشورة، وأحيطوا أنفسكم برجال الله القديسين الذين هم على صلة وثيقة يومية بالإله العزيز الحكيم القادر على إخباركم بالمستقبل وإعطائكم الحكمة والعقل والمعرفة لتتصرفوا حسنًا في كل شؤنكم وشؤن بلادكم واعلموا أن فوق العالي عاليًا والأعلى فوقهما، وأنه وحده، سبحانه، المتسلط في مملكة الناس الذي يوليها لمن يشاء، وأننا جميعًا لابد أن نظهر أمام ديان الأرض كلها ليعطي كل منا حسابًا عن ما فعل، خيرًا كان أم شرًا.