في سفر إشعياء ص 62، تسطر ريشة الوحي المقدس أشـواق قلـب الله ومكنونات نفسه تجاه شعبه وهي:
1. أن ترى الأمم خلاص الرب وبره في حياة شعبه:
فمكتوب في (إش62: 1 و2): “من أجل صهيون لا أسكت، ومن أجل أورشليم لا أهدأ، حتى يخرج برها كضياء وخلاصها كمصباح يتقد. فترى الأمم برك، وكل الملوك مجدك.”
هذا الحماس المتقد في قلب الرب يتجه نحو أورشليم (كنيسة المسيح) ليعلن برها وخلاصها كمصباح يتقد، أي يصبح مرئيًا وواضحًا للجميع كما هو مكتوب “قومي استنيري لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك. لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يرى” (إش60: 1-3).
وهذا ما أكده الرب يسوع في موعظته على الجبل في (مت5: 14-16): “أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات.” وهذا أيضًا ما يعلنه الرسول بولس في (أف5: 8، 11 و13): “لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب…” لقد اختبر الشعب هذا المجد، فالرب لم يسكت ولم يهدأ حتى أعادهم من السبي، وصار خلاصهم هذا معلنًا وظاهرًا لكل الأمم من حولهم.
وقد تحقق هذا بطريقة أكمل وأشمل في شخص الرب يسوع وعمله الفدائي الذي أكمله وتممه في الصليب.
وجاء رد فعل الكنيسة لما عمله المسيح في تسبيحها وتمجيدها (إش 61: 10، 11): “فرحا أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر…”
نحتاج أن نبرهن للناس عن حياة المسيح فينا، وعن نوره بداخلنا، وعن عمله فينا وبنا لمجده وامتداد ملكوته.
2. اسم جديد وعهد مجيد لشعبه:
في (إش62: 2 ب؛ إش62: 4): “وتسمين باسم جديد يعينه فم الرب”.
لقد كان الاسم قديمًا يدل على حياة الشخص والصفات الخاصة به، ويعرف اليهود أن الاسم الجديد يعني عهدًا جديدًا وبركة جديدة، ويعني شخصية جديدة بمواصفات جديدة.
فقد غيَّر الرب أسماء آباءهم وأجدادهم وأعطاهم أسماء جديدة ليعبر عن هذا الحق.
فلقد غيَّر اسم إبرام أي “الأب الرفيع” ليصبح “إبراهيم” والذي يعني “أب لجمهور من الأمم” (تك17: 5)، “وساراي” ومعناها “أميرتي” أصبح سارة “أميرة” (تك17: 15)، وغيَّر اسم “يعقوب” أي “المتعقب” إلى “إسرائيل” أي “أمير الله” (تك32: 28)، وغيَّر اسم “صفا” إلى بطرس “أي الصخرة”، وغير اسم شاول إلى “بولس”.
الجدير بالذكر أن هناك عادة عند اليهود وهي أنهم في صلاة الجنازة يعطون للميت اسمًا جديدًا، حتى لا يذهب إلى الأبدية حسب اعتقادهم بخطاياه المرتبطة باسمه القديم.
في العهد الجديد، دُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولًاً ليؤكد الاسم ارتباطهم بشخص المسيح. وجدير بالذكر أن أغناطيوس أسقف أنطاكية كان يصلي قائلًا: “صلاتي لا أن أُدعى مسيحيًا بل أن أكون بالفعل مسيحيًا.”
هذا ويحكي لنا تاريخ الكنيسة عن أنه ذات يوم كان القديس أغسطينوس سائرًا عبر الطريق، وفجأة أسرعت نحوه واحدة من النساء وبدأت تنادي عليه: “أغسطينوس… أغسطينوس… أنا هي… أنا هي.” التفت أغسطينوس وراءه فرأى واحدة من اللاتي كن يخطئن معه قبل توبته، وكانت تريد أن تعيد العلاقة معه مرة ثانية، وعندئذٍ أجابها: “أغسطينوس الذي تطلبينه قد مات. أنا لستُ أغسطينوس الذي تعرفينه. لستُ أنا أغسطينوس بل المسيح الذي يحيا في أغسطينوس.”
3. إكليل جمال بيد الرب:
في (إش62: 3): “وتكونين إكليل جمال بيد الرب، وتاجًا ملكيًا بكف إلهك.” كيف لا وقد جملها الرب بخلاصه؟
هذا يذكرني بالفنان الذي رسم صورة للرب يسوع، ورسم الهالة التي تحيط برأسه عبارة عن قلوب متناهية الصغر هي قلوب القديسين، وكانت فكرته أن مجد الله في قديسيه.
وبنفس المعنى وصف الرسول بولس شعب كنيسة فيلبي الذي أحبه وتعب في خدمته بالقول: “يا سروري وإكليلي” (في4: 1)، وكذلك يقول عن المؤمنين في كنيسة تسالونيكي “إِكليل افتخاري” (1تس2: 19).
والإشارة إلى يد الرب في (إش62: 3) هنا تذكرنا أن الكنيسة موضوع عناية الرب واهتمامه وأن شعبها في يده محفوظ ومحروس (انظر يو10: 27، 28؛ إش49: 16).
4. علاقة مقدسة متميزة:
في (إش62: 5ب): “كفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك.” ما أقدس العلاقة بين الله وشعبه والتي ترسمها ريشة الوحي المقدس، وهذا ما نراه في علاقة المسيح كعريس بالكنيسة كعروس كما يقول بولس وهو يخاطب المؤمنين قائلًا: “فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2كو11: 2).
ويصف هذه العلاقة بقوله: “أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها، مطهرًا إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب” (أف5: 25-27).
عندما يتوب خاطئ تفرح السماء بتوبته فرحًا عظيمًا كما نرى في مثل الخروف الضال ومثل الدرهم المفقود ومثل الابن الضال (لو 15).
5. حراسة مشددة بصفة دائمة (إش62: 6-9):
الرب يقيم حراسة خاصة على كنيسته لا تنام ليلاً ولا نهارًا. لقد وُضِعَت الكنيسة في عالم مضطرب لكن وعد الرب: “كل آلة صورت ضدها وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه” (إش54: 17).
إن تاريخ شعب الله في القديم حافل بالمؤامرات والمكائد والحروب التي أقامها الآشوريون والبابليون وغيرهم، لكنها جميعًا باءت بالفشل، وكانت النصرة من نصيب شعب الرب، أليس هذا ما حدث وقت الخروج إذ مكتوب في (خر14: 27) “فدفع الرب المصريين في وسط البحر”؟
أليس هذا ما جرى للجيش الآشوري حيث بكر بنو إسرائيل لما بكروا صباحًا فإذ هم (الآشوريون) جثث ميتة (إش37: 36)، فمكتوب: “فخرج ملاك الرب وضرب من جيش أشور مئة وخمسة وثمانين ألفًا. فلما بكروا صباحًا إذا هم جميعًا جثث ميتة.”
ما أجمل ما سجله الوحي في (إش27: 3): “أنا الرب حارسها. أسقيها كل لحظة. لئلا يوقع بها أحرسها ليلاً ونهارًا.”
نعم! ما أجمل ما شدا به المرنم في (مز46: 5): “الله في وسطها فلن تتزعزع. يعينها الله عند إقبال الصبح.”
وما أحلى ما ترنم به في (مز127: 1): “إن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلًا يسهر الحارس.”
6. الانطلاق من السبي إلى الحرية:
في (إش62: 10أ): “اعبروا، اعبروا بالأبواب”، والسؤال هو: ماذا كان يقصد النبي بهذا التعبير؟ من أي أبواب يطلب من الشعب أن يعبروا؟
يرى عدد كبير من المفسرين أن النبي يوجه النداء للمسبيين ليخرجوا من أبواب بابل ويدخلوا إلى أبواب أورشليم.
ولا شك أنه شتان الفرق بين بابل وأورشليم، فبابل مدينة عظيمة بثرائها وجمالها وفخامتها وحضارتها وتاريخها، وقد استقر الشعب فيها، والأجيال الجديدة من شعب الله ارتبطت بها سواء بالزواج أو بالعمل أو بالسكن.
وماذا عن أورشليم؟ إنها أطلال، ودمار، وخراب، وبالتعبير الكتابي “مهجورة – موحشة” (إش62: 4)، لكنها مدينة الآباء والأجداد… مدينه التاريخ والأمجاد… مدينة الهيكل والصلاة.
ولا شك أن التطبيق الروحي لهذا النص هو أن هناك نداءً من الرب لكل مَنْ هو في سبي الخطية ليخرج، ويأتي إلى أرض الحرية، أرض العبادة، أرض السلام، فيخرج من أبواب بابل ويدخل في أبواب أورشليم.
وقد صوَّر إشعياء الذين يرجعون في (إش35: 10) بقوله: “ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم، وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم. ويهرب الحزن والتنهد.”
7. دعوة لخدمة مجيدة، ومكافأة أكيدة:
في (إش62: 10ب-11): “هيئوا طريق الشعب. أعدوا، أعدوا السبيل، نقوه من الحجارة، ارفعوا الراية للشعب. هوذا الرب قد أخبر إلى أقصى الأرض، قولوا لابنة صهيون: هوذا مخلصك آت. ها أجرته معه”.
ما أمجدها خدمة. لقد قام كثيرون في العهد الجديد بهذا الدور، وأعدوا السبيل ونقوه من الحجارة، فعلى سبيل المثال: نرى يوحنا المعمدان مكتوبًا عنه في (مت3: 1-3): “وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلًا: «توبوا، لأنه قد اقترب ملكوت السماوات.» فإن هذا هو الذي قيل عنه بإشعياء النبي القائل: صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب. اصنعوا سبله مستقيمة.”
لقد استعار كتاب العهد الجديد هذا التعبير، ففي (مت21: 5؛ يو15: 12) جاء عن دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم: “قولوا لابنة صهيون: هوذا مخلصك آت.”
وكاتب سفر الرؤيا يسطر في (رؤ22: 12): “وها أنا آتي سريعًا وأجرتي معي لأجازي كل واحد كما يكون عمله.”
فلا شك أن كل مَنْ يخدم الرب ويكرمه يباركه الرب ويكافئه، فوعد الرب: “أكرم الذين يكرمونني” (1صم2: 30).