أبي أنت: الحلقة العاشرة

20

د. أماني ألبرت

تدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.

 (شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..

وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. فقد وجد أنه ما زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام.. واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. تطورت العلاقة بين شبنة والطفلة الصغيرة وأصبح يخاف عليها من أي شيء.. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة..)

انتظم روتين الحياة اليومي بعد يوم الإجازة.. “مردخاي” يتوجه نحو القصر.. ثم يعود ليتسلم المسئولية من العمة “رفقة”.

رجع “مردخاي” من عمله واغتسل، وعلى غير العادة لم تكن العمة “رفقة” قد انتهت من أعمال داخل المطبخ.. وبينما كانت تعد المائدة عقدت حاجبيها بغضب وانفجرت فيه قائلة:

– ماذا تفعل يا “مردخاي”؟ أنت تفسد الفتاة بتدليلك؟ هل جننت يا ابني؟ تشتري لها فرسًا؟ كم ثمنه؟ لابد أنه يوازي ثروة. لماذا تبدد مالك لمجرد أنك تدللها تدليلاً زائدًا؟

أمسك “مردخاي” بيدها هامسًا بهدوء:

– وما المشكلة عمتي.. طالما معي  ثمنه، لِمَ لا اشتريه لأسعدها؟

– على الأقل وفر ثمنه لزفافها.

– عمتي.. أنت تعرفين لدي من الأموال ما يكفي.. لحياتها وزفافها.. ماذا سأفعل بالأموال؟

– هل ظننت فعلاً أنها أميرة؟ هل ستُركِبها الخيل كما ترى في القصر عندك؟ أفق يا “مردخاي”.. الأمراء يسكنون قصور الملوك.. أنت تعيش وسط حي به أشخاص عاديون. لماذا تعيش في عباءة طبقة اجتماعية أخرى؟

– عمتي.. نحن ميسوري الحال.. أنا أعمل بالقصر في وظيفة دائمة وأنتم أكبر تجار أعشاب على مستوى شوشن العاصمة..

ردت العمة بنبرة أقل حدة:

– لا أتحدث عن نفسي يا ابني.. أنا فقط أجد الأمر غير مناسب..

فرك “مردخاي” لحيته الصغيرة وقال:

– لقد دفعتُ ثمن العربون عمتي وقلتُ لها.. ولن أتراجع عن وعد وعدته لها.

– وما لنا نحن بهذه العادات؟ يبدو أنك تأثرت بالقصر وبالحياة العصرية. لا تترك عاداتك.

– هذا الأمر ليس ضد عاداتي.

– ألم يوصينا يهوه ألا يكثر الخيل للملوك؟

– عمتي.. لقد قلتي للملوك.. ثم لِمَ يوصينا يهوه أن نعيش بعيدًا عن المدنية والحياة العصرية؟

– ما هذا؟ لا أصدق ما أسمع؟ هل هذا “مردخاي” الذي يتكلم؟ من سنوات قليلة كنت تنتقد كل ما هو جديد في القصر؟ وكنت تصر على تنفيذ الوصايا بالحرف..

أدرك “مردخاي” أن الحديث لن يصل لنتيجة فقال لها مبتسمًا وهو يهم بالخروج:

– كلنا نتغير عمتي الحبيبة.. ألم يكن هذا أمر يفرحك؟

هزت العمة “رفقة” رأسها يمينًا ويسارًا معترضة.. وكأنها تقول لا فائدة.. ثم أعادت ربط عقدة غطاء رأسها وهي تزيح شعرها الأبيض المنسدل.. واستأنفت عملها لتفرغ غضبها واعتراضها في العجين.

فيما قرر “مردخاي” ألا يعلن لأحد أنه سيستأجر فارس يدرب الصغيرة على ركوب الخيل.. وعزم على أن يتم هذا الأمر خارج الحي، ربما في ساحة المدينة الخارجية.. وقد علت وجهه ابتسامة صغيرة ورفع رأسه لأعلى وهو يتخيلها فوق الحصان الأبيض تقفز به منطلقة غير عابئة بأي شيء.

وسرعان ما اختفت ابتسامته حينما توقع اعتراض العمة “رفقة” على فكرة زيارة “هداسا” لمقر “شمعون” الخزاف.. ولكنه سرعان ما قرر بثقة أنه لن يدفن مواهبها.. ولن يدخر جهدًا في إسعادها.. ولن يحرم ابنته الحبيبة من شيء.

ولن يحرم “هداسا” حبيبته فهي رغم أي شيء ابنته الغالية..

*********

مرت الأيام سريعة.. استمتعت “هداسا” بكل لحظة فيها.. فقد ملأ “مردخاي” فراغ يومها بأشياء كثيرة نافعة.. حيث تنوعت أنشطتها اليومية فبفضل تعليمه لها القراءة والكتابة لعدد من اللغات.. وبفضل ذخيرة القصص التي حكاها لها.. كان أطفال الحي يجتمعون حولها لتقص عليهم قصص كثيرة جميلة.

ثم أنها كانت تمارس هوايتها في صناعة الخزف والرسم عليه والنحت أحيانًا.. حتى أن شمعون مُعلِّمها الأول كان يرسل لها بعض الرسومات حينما يستعصي الأمر على غلمانه، لدقتها وذوقها في الألوان، فبسبب عامل السن لم تعد يداه دقيقتان كما كانتا في الماضي.

كما أنها كانت بعد انتهائهما من أعمال المنزل ترافق العمة “رفقة” لمنزلها الملاصق حيث دكان الأعشاب العطرية لتتعلم منها إعداد الوصفات العلاجية المطلوبة.

وكانت أحيانًا تجلس مع بنات العمة “رفقة” لتطريز الملابس وإن كانت لا تبدي شغفًا بهذه المهارة لكن موهبتها بدت في حسن اختيارها وتنسيقها للألوان.

أفضل أيام الأسبوع على الإطلاق كان بالنسبة لها هو يوم ركوب الفرس حينما تخرج مع أبيها “مردخاي” بعد الفجر لساحة المدينة الخارجية لتنطلق بفرسها الأبيض “كيارا”.. وبمرور الوقت أصبحت ماهرة فلم تعد تحتاج مصاحبة الفارس الذي استأجره لها “مردخاي” ليعلِّمها.. وبينما يسمى “مردخاي” حركاتها على الفرس بالمتهورة.. تجدها هي مهارة لا يتسم بها أفضل الفرسان في عصرها.

قضت أيامها سعيدة، فقد وفر لها  “مردخاي” البيئة المناسبة لتنمو روحيًا ونفسيًا وجسديًا.. فكانت تعيش كملكة في جنة تقطف كل يوم زهرة متنوعة من بستانها.

يتبع

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا