كوتشينة الأيام 1

7

العدد 19 الصادر في ابريل 2007

كوتشينة الايام ومقالات أخرى
كوتشينة الأيام 1

ما أعجب هذا الزمان الذي شاءت أقدارنا أن نعيش فيه، زمان حق فيه القول: “عالم غريب.. غريب.. غريب.. اللي يقول فيه الحق مريض ويلزم له طبيب” فالمطالع لما يحدث الآن في هذا العالم الغريب والزمان العجيب يرى صدق ما أقول فكله بيخدع كله، وكله بيضحك على كله، وكله بيلعب على كله، وكله بيتهم كله، وكله يلوم كله وكله يتهرب من كله، وليس من خاسر وكاسب فالكل خاسر في النهاية، خاسر سلامه وراحته ومصداقيته وشفافيته.

نحن مشتركون في لعبة كبيرة اسمها كوتشينة الأيام وكل منا يحمل كروتاً عدة يلعب بها في وقتها، والذكي هو من يستخدم الكارت المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة. نحن جميعاً الكنيسة والأزهر، الحكومة والأمن، القوى الخارجية والداخلية، الأحزاب والمعارضة، الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمون. الكل على طرابيزة اللعب، الكل يمسك أوراقة بتحفظ ليلقي بها في الوقت المناسب ظاناً أن اللعبة ستنتهي ويكسب هو وحده على حساب الآخرين.

لقد تواردت هذه الأفكار في ذهني وأنا أقرأ مقالاً نشره أحد المواقع الإلكترونية على الإنترنت ينتقد فيه غبطة البطريرك شنودة الثالث لأجل تصريحاته في نادي ليونز والتي نشرتها جريدة الجمهورية يوم الثلاثاء الموافق 20 / 3 / 2007 تحت عنوان “اضطهاد الأقباط”. قالت الجمهورية: “أعلن البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية أن ما يردده بعض العناصر المتشددة في الداخل والخارج عن اضطهاد الأقباط هو أكذوبة ومحض افتراء ولا يعكس حقيقة السماحة والإخاء اللذين هما جزء أصيل من طبيعة الشخصية المصرية”. وأمام هذه العبارات التي قالها البابا والتي نشرتها الصحف والمجلات المصرية انقسم المعلقون إلى عدة أقسام، قسم يرى أن البابا شنودة باع قضية المسيحيين في مصر وهو يتملق الحكومة والأمن المصري فيعلن هذا الإعلان. قسم آخر يرى أن البابا مضطر أن يقول مثل هذا الكلام لأن لا أمل عنده في إصلاح أحوال المسيحيين في مصر، فالاعتراف بوجود اضطهاد على المسيحيين يُثقل من نيرهم كما فعل فرعون عندما طلب منه كليم الله موسى أن يطلق شعب إسرائيل من مصر، قسم ثالث يرى أن البابا يتجاهل مشاعر المسيحيين الذين زج بأولادهم وذويهم في غياهب السجون لا لشيء إلا لدفاعهم عن أنفسهم وعن ابنتهم المخطوفة والمعتدى عليها من قبل عناصر إسلامية. وأراد أحدهم أن يُذكر البابا شنودة بما يمكن أن يكون قد نسيه وربما بسبب الضغوط الشديدة التي يتعرض لها أو بسبب كبره في السن (أطال الله عمره) فذكره بالمرات التي بكى فيها علانية أمام الآلاف من الذين تجمعوا لسماع عظاته، ذكره باعتكافه في الدير لعدة مرات احتجاجاً على اضطهاد المسيحيين في مصر، ذكره بما يملاء الإذاعات والتليفزيونات من سباب وشتائم وتهكمات على المسيحيين ومعتقداتهم، ذكره بالمليون مواطن الذين كُتب لهم دينهم في بطاقة الترقيم الدولية مسلمين “حسب اعترافات وزارة الداخلية” والذين عليهم أن يُثبتوا أنهم مسيحيون ولم يشهروا إسلامهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وبالطبع لن يستطيعوا. وذكره وذكره ثم ذكره بهتافات المسيحيين في داخل مقر البطريركية يوم قالوا: “يا بابا شنودة قول الحق”. والحقيقة لا يستطيع المرء أن يحلل لا تصرفات البابا فحسب بل وتصرفات جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والجماعات الإسلامية والمسيحية، والأمثلة على ما أقول كثيرة جداً فالإخوان المسلمون جماعة محظورة بالقانون، ومن المفهوم حسب المنطق العام والتصرفات الطبيعية في الدول البوليسية أنه عندما تعلن جماعة محظورة عن وجودها المحلي والدولي وتعلن عن أسماء قادتها ومرشديها ومساعديهم وتدخل انتخابات النقابات والمؤسسات والمحليات ثم مجلس الشعب، لابد للحكومة أن تتخذ الإجراءات القانونية ضد هذه الجماعة في الصحف والمجلات وتتجاهل وجودها إلى أن تمتلك ثلث مقاعد مجلس الشعب، فالجماعات الإسلامية والإخوان المسلمون كارت تلعب به الحكومة والحكومة كارت تلعب به الجماعات والإخوان. كروت كثيرة على الطربيزة والجدع اللي يعرف ويغلب في كوتشينة الأيام.

هناك كارت اسمه حرية الصحافة والفكر وإصدار الجرائد والمجلات تلعب به الحكومة ويلعب به أيضاً مصدرو هذه الجرائد والمجلات، فإذا تقدمت بطلب لترخيص جريدة وألقيت بكارت حرية الصحافة والتعبير عن الرأي ألقي خصمك كارتاً آخر اسمه عدم موافقة الأمن، فترمي كارت حرية الصحافة مرة أخرى فيلقى لك خصمك كارت آخر اسمه مصلحة الأمن العام ويقولون لك “ما تطلع الجرنال يا أخي.. حد قالك ماتطلعوش.. إحنا عايزينك تطلعه. وتستمر اللعبة والكل يظن إنه الكسبان مع أننا جميعا خاسرون وما كنا من الأصل لنلقي بهذا الكارت إلا لوجودنا على الطربيزة في لعبة كوتشينة الأيام.

فهناك أصول للعب مع الكبار فالكبير كبير وإن لم تعرف أصول اللعب فستخرج من اللعبة منكس الرأس، فمن أصول اللعب أن يعترف كل لاعب كبيراً أو صغيراً أنه ليس بمفرده على الطربيزة حتى ولو كان الأقوى والأغنى والأكثر نفوذاً وسلطاناً، فلا يمكن أن تتجاهل الحكومات ولا الرؤساء الجماعات الصغيرة التي تتكون من أفراد قلائل لا حول لهم ولا قوة لأن الحول والقوة يأتيان من حيث لا يعلمون، فعدة رصاصات لا يزيد ثمنها عن عشرة جنيهات تؤدي إلى مصرع رئيس وسط رجاله وحرسه وجيشه، وكادت أن تقتل مساعده أيضاً مع أنه أفضل من عرفته البلاد من الشخصيات السياسية والحكومية. وخلية صغيرة من المتطرفين قد تجند آلافاً من الأتباع الذين يفجرون أنفسهم وما حولهم فتضطر السلطات للاعتراف بهم وبوجودهم في كوتشينة الأيام. ومجموعة من الطلبة الذين مازالوا يأخذون مصروفهم من أولياء أمورهم الكادحين يمكن أن تقوم بشل حركة المرور في أكثر أحياء القاهرة زحاماً ويفجرون الموقف الأمني للبلاد ويبشرون بما هو أعنف في المستقبل، وهم يرتدون ملابسهم السوداء ويخرجون وكأنهم فرسان كتائب الأقصى المناط بهم تحرير الوطن العربي من كل ما يموج به من فساد أخلاقي واجتماعي، وفي نظرهم ديني أيضاً.

ومن أصول اللعب أيضاً أن لا تكشف كل أوراقك للخصم وإلا لحرقت كروتك التي تلعب بها وخرجت من اللعبة سريعاً.

ثم من أصول اللعب أن لا تتحدى خصمك في الطريق، فكم من مؤتمرات ولقاءات ومقالات وكتب كتبت وطبعت ووزعت على العامة في مصر وهي مخالفة للشرع والقانون والعادات والتقاليد والأديان، ومهينة ومشينة لدين أو لآخر، وما صدرت وما جمعت من الأسواق لأن كاتبها وغالباً ما يكون معروفاً للأمن والعامة والخاصة لم يتحدى الخصم واستعمل اسماً مستعاراً على كتابه، وأنشأ مبنى للعبادة والكرازة ونشر الدعوة المحظورة في بلادنا، وكتب على يافطة المكان “دار السلام للمسنين والعجزة” فكم من كنيسة بنيت في عصر تحريم بناء الكنائس كمشغل لتعليم الخياطة أو فيلا للإيجار، ثم تحولت لمكان للصلاة والعبادة، والأمن يعلم ذلك ويتظاهر وكأنه مصدق أن هذا مشغل أو فيلا، لكن الخطورة كل الخطورة في خروج أحد اللّعيبة عن أصول اللعبة وتحدى الخصم حتى لو كان ضعيفاً، والأمثلة على ذلك كثيرة. لقد ظل بن لادن يلعب مع الأمريكان والروس بكروت عدة، استمتع باللعب مع الكبار، حصل على ملايين الدولارات والمعدات والإمكانيات من الأمريكان، ساعدهم في إجلاء الروس من أفغانستان، ثم نسى أصول اللعب ورمى كارت إسقاط برجي التجارة في 11 سبتمبر، وظن أنه ضرب الأمريكان في عقر دارهم، وألقت أمريكا بكارت ثقلها وخبراتها وأموالها فعزلت رؤساء دول إسلامية ذات سيادة وأنهت أنظمة إسلامية كانت تحكم بما أنزل في كتابهم، أجبرت الدول العربية على تغيير المناهج التعليمية الدراسية،  جمدت بلايين الدولارات لهيئات دينية إسلامية، ومازالت اللعبة مستمرة. واكتفى بن لادن وأتباعه بالكلام والتهديد والوعيد وعاشوا ولازالوا كالخفافيش في الظلام.

والحقيقة لم أر في حياتي من هو أعظم وأقدر على لعب كوتشينة الأيام من البابا شنودة الثالث، فهو لا يتكلم كثيراً ولكن يعمل عميقاً وهذه من أهم أصول اللعب مع الكبار، ولازلنا نذكر له المرات التي لم يتكلم فيها بل ألقى بكارت على طربيزة اللعب فانقلبت موازين الأمور يوم امتنع عن أداء القداس الإلهي في نهاية عصر السادات فعلم العالم كله مقدار الاضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون المصريون، ولعلها المرة الأولى التي انتبه فيه العالم كله لحجم هذه المعاناة، فخرج الرئيس الراحل عن أصول اللعب وحدد إقامته في الدير وأصدر قراره بإلغاء القرار الجمهوري باعتماده البابا شنودة بطريركاً للكرازة المرقسية، وهلل أعضاء مجلس الشعب واستمروا في التصفيق لأطول مدة عرفها مجلس الشعب مع أن أعضاءه تعودوا التصفيق في وقت مناسب وغير مناسب، وهم لا يعلمون أن البابا لا يمكن أن يعزل من منصبه ولا يمكن لبشر أن ينهي خدمته إلا المولى وحده الذي أراد أو سمح له بالجلوس على كرسيه.

ومازلت أتذكر يوم أن زرت البابا شنودة في مقره البابوي في عام 79 لأخذ رأيه في ما عرف يومئذ بالترجمة العربية الحديثة للكتاب المقدس، وكان موعدى معه عقب زيارة الدكتور القيسوني مع بعض رجال الدولة موفدين من قبل الرئيس السادات لمناقشة البابا في رأيه حول موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر والتي أدت إلى تغيير المادة الثانية من الدستور. أمام الحاضرين وسأل البابا شنودة عن رأيه في ذلك وانحبست الأنفاس في الصدور وتطلع الكل للبابا وجوابه على هذا السؤال الصعب فالكل يعلم أنه لا يمكن للبابا شنودة أو أصغر مسيحي على أرض مصر قبول تطبيق الشريعة الإسلامية على المسيحيين المصريين أصحاب الأرض والرسالة السماوية المنزهة عن كل باطل، تلك التي أتى بها سيد الخلق المسيح يسوع تبارك اسمه، فإذا وافق البابا على تطبيق الشريعة ثارت ضده جميع الطوائف المسيحية في الداخل والخارج واتهموه ببيع القضية وغيرها من الاتهامات التي هو منها براء، وإن اعترض على تطبيقها ثارت ضده الجماعات المتطرفة والمسالمة واستغلها المتاجرون بالدين في إشعال نار الفتنة بين المسيحيين والمسلمين وهي ليست في حاجة لمن يأجج نيرانها أكثر مما هي عليه. وهنا ألقى البابا بالكارت الذي أذهل الجميع. قال بهدوئه المعهود: يا دكتور قيسوني أنا موافق تماماً على تطبيق الشريعة الإسلامية على مصر كلها مسيحيين ومسلمين بشرط واحد. وهنا أرهف الجميع السمع. قال القيسوني: وما هو هذا الشرط. قال البابا: بشرط أن تطبق كل الشريعة، كل ما جاء في القرآن، لا يحذف منها شيء. وتعجب الحضور هل هذا معقول هل حقاً ما قاله البابا الآن؟ ولم يفهم الدكتور القيسوني ما معنى هذا الشرط، فسأل البابا: ما معنى هذا الشرط؟ بالطبع ستطبق الشريعة كلها في حالة تطبيقها. قال البابا معنى هذا أن تطبق الآية الكريمة الواردة في “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون” فتطبيق الشريعة كلها يعني أن يحكم المسيحيون بما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل وليس لهم خيار، فهذا ما نصت عليه الآية والشرع في الإسلام.. وهنا ضحك الجميع وعلم القيسوني أنه خسر اللعبة في هذه المرة، وانصرف الجميع وهم يتعجبون من ذكاء وبديهة ذلك الرجل وقدرته على إسكات خصومه ومعارضيه.

لقد نشرت الصحف والمجلات قول البابا شنودة: “إن ما يردده بعض العناصر المتشددة في الداخل والخارج عن اضطهاد الأقباط هو أكذوبة ومحض افتراء” ظانة أن هذا سيحسن من النظرة العالمية للحالة الدينية في مصر، لكن الحقيقة هي العكس فلو قال البابا شنودة أن هناك اضطهاداً للمسيحيين في مصر لما التفت أحد لهذا القول، فالكل يعلم أن هذا هو الواقع الحقيقي للأمور وأن البابا لم يضف شيئاً جديداً لم يعرفه العالم لكن أن يصرح البابا بأن الاضطهاد هو أكذوبة ومحض افتراء فهذا كان بمثابة هزة عنيفة قد أفاق العالم على أثرها ليعرف من جديد مدى ما يعانيه المسيحيون بما فيهم البابا نفسه، وربح البابا الجولة هذه المرة أيضا كما ربح جولات من قبل وخسرت الجرائد والمجلات المغرضات التي نشرت هذا الجزء، فمن ناحية لم تستطع أن تحشد المسيحيين ضد البابا رمز المسيحيين العرب، ومن ناحية أخرى فشلت في إقناع العالم أنه لا اضطهاد للأقباط في مصر، ومازالت اللعبة مستمرة.

إن قضية اضطهاد المسيحيين في مصر أكبر وأعمق من أن يغيرها تصريح أو بيان أو اعتقال، إن لها جذوراً عميقة دفينة تمتد لقرون عديدة حتى أصبحت جزءاً من نسيج المجتمع العربي الإسلامي والمسيحي على حد سواء، بل قد تمتد إلى تلك الأيام التي جاء فيها سيد كل الكون السيد المسيح ليلقي سيفاً على الأرض ويضرم ناراً. لقد كانت رسالته هي السيف الأمضى ذو الحدين الذي يقلب الكنة على حماتها والأب على ابنه ويجعل أعداء الإنسان أهل بيته، فمسألة الاضطهاد الواقع على المسيحيين مسألة موجهة ضد أتباع المسيح تبارك اسمه الذين بشرهم بها جل شأنه وقال لهم أنهم سيجلدونهم ويخرجونهم من المجامع ويسلمونهم للسلطات ويقتلونهم وهم يظنون أنهم يقدمون خدمة لله. ومسألة اضطهاد المسيحيين ليس في مصر وحدها ولا في البلاد العربية وحدها، بل هي في كل صوب وفج من هذه المسكونة، ولن تُجدى في وقفها كل الوسائل الأرضية البشرية، فلقد بشر الصادق الأمين رسول المولى للعالمين الرب يسوع أتباعه قائلاً: “في العالم سيكون لكم ضيق” فتغيير المادة الثانية من الدستور حتى ولو قيل فيها إن المسيحية هي دين الدولة وأن الشريعة المسيحية هي المصدر الوحيد لقوانين الدولة لن يحل مسألة اضطهاد المسيحيين، وإعطاء مقاعد كثيرة في مجلس الشعب لممثلين مسيحيين لن يعالج الموقف، حتى ولو صار رئيس الجمهورية مسيحياً فهذا لن يغير ما بداخل القلوب فما بداخل القلوب لا يعلمه إلا خالق القلوب، وتغيير ما بداخل القلوب لا يقدر على صنعه إلا القادر على كل شيء، فالله لا يغير ما بقوم حتى يكون لديهم استعداد لتغيير ما بأنفسهم فهو الوحيد الذي يستطيع أن يحل بشخصه داخل القلوب، وعندها ينتهي الاضطهاد وتنتهي لعبة كوتشينة الأيام.

اللهم أصلح ما بقلوبنا قبل أن تصلح أعمالنا. اللهم اذكر شعبك المضطهدين في كل مكان، وابسط لطفك علينا وارحمنا أيها السميع العليم، ولك كل السجود والتعظيم.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا