“ارمي نفسك في حضن الناس وأنت تستريح، وده المبدأ بتاعي، وأعتقد إني عبرت عن ده في أكثر من فيلم ليا في نهايات أفلامي، زي نهاية فيلم “الإرهاب والكباب” لما البطل احتمى بالناس، ونهاية فيلم “المنسي” لما عادل إمام احتمى بالناس، وزي فيلم “النوم في العسل” لما عادل إمام احتمى في الناس.. صعب جدًا إن الكاتب ميكونش مؤمن بحاجة بتعبر عنه.. والحمد لله إنه السينما في مجملها إنتاج قطاع خاص ولا يستطيع أحد التدخل بها، ومهمة الكاتب والمبدع بشكل عام أن يدافع عن رؤيته وفكرته، وأنا لم أعانِي في أعمالي التلفزيونية ما يكبل حريتي بالقياس لما أقدمه بالسينما، فالسلطة ليس لها دخل في ذلك، بل هناك رقيب داخلي من الكاتب لأن السينما بها مساحة حرية أكبر لأنه مَنْ يذهب إليها يكون باختياره ويدفع ثمن التذكرة، ولكن التلفزيون موجود أساسي في البيت وفرد من أفراد الأسرة ولازم يكون الكاتب في حذر في التعامل..”
فحوى تلك الفقرة كانت واحدة من قناعات كاتبنا السيناريست الرائع وحيد حامد وفق تعبيره وعلى لسانه، ولعلنا بعد رحيله عن دنيانا (2 يناير2021) قد استشعرنا مدى قيمة أن يكون الفنان المبدع بقامة مفكر وطني مثقف واعٍ ومتفاعل بصدق مع قضايا مجتمعه ومستشرف لآفاق مستقبل البلاد والعباد عبر امتلاك الإدراك الحصيف بمعطيات الحاضر.
نعم، فالمفكر الحقيقي هو مَنْ يمنح ذاته القدر المناسب من الاستقلالية التي تُكسِبه الحرية في استخدام العقل والفرز والانتخاب والحذف والإضافة وأين يضع قلمه لتوجيه سهام فكره النقدي، وكيف يدير معمل تجاربه الإبداعية ونظرياته الإبداعية المتجددة والمفيدة، والتي يمكن أن تنقل مجتمعه من حال إلى حال..
فعندما يكون الفنان مفكرًا مثل الراحل الحاضر في دراما الناس، ستجد أن حواديته وسردياته الدرامية لا تتوقف على قصص العلاقات الغرامية والرومانسية أو ميلودراميات البكاء والنحيب أو اسكتشات الضحك والفرفشة وكمان الزغزغة القهرية، فقضايا البلاد والعباد بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبطرح إنساني ومصري بديع وبتنويعات في الشكل ومساحات الجرأة شكَّلت جميعها دراما المفكر السيناريست وحيد حامد، وهو ما استحق عليه تصفيق الحضور وقوفًا عند تكريمه الأخير ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي..
لقد كان المواطن المصري في كل أحواله وصوره وعبر أزمنة إنتاج كاتبنا الكبير موجودًا على شاشات أفلامه ودراما مسلسلاته مُجسِّدًا صراعات وهموم وأحزان وانتصارات وآمال الإنسان وتطلعاته وأحلامه البسيطة بعرض خالص التميز وصادق وشديد التلامس مع الواقع بكل تحدياته اليومية وتداعياتها عليه.
“هاحلم.. هاحلم.. هاحلم..” هكذا كان هتاف المواطن “حسن بهنسي” عادل إمام المبدع الرائع في المشهد الختامي لفيلم “اللعب مع الكبار” كصرخات في فضاء مجتمع الغلابة عقب جريمة قتل صديقه المقرب والأوحد “علي الزهار” محمود الجندي.. وبعد أن جعل ذلك الفضاء الإنساني الذي عاش تفاصيله الشاهد الأعظم على بشاعات أزمنة حيتان زمانه وكبار عصره وعلى مقتل “علي الزهار” ..وبين الإشارة لتضاد واقع الكبار وواقع البسطاء منا استطاعت مشاهد النهاية جبر الخاطر وبلسمة جراح الغلابة التي كان يمثلها “بهنسي” المهموم بتداعيات مشكلة البطالة فيتعامل معها بمقاومة يرفض فيها العيش بمشاعر “المتنكد الحزين البائس”، مقاومة ساخرة باحثة لصاحبها عن منافذ للضحك والقبول بانتظار حلم استضاءات واقع جديد، فالاستمرار على قيد الحياة الطاردة لكل صنوف النكد والغدر هو انتصار نوعي طيب.. نعم، الحياة على قيد أحلام وحيد حامد الذي توحد مع “بهنسي” المنتظر في حلم ووداعة..
والمواطن المصري في موقع آخر على شاشة وحيد حامد كان اسمه “رضا” سائق التاكسي في “الدنيا على جناح يمامة” في بدايات إبداعات سينما كاتبنا القدير لنجد مقابلة وصراعًاً دراميًا بشكل مختلف بين السائق والوزير بما يمثلان من تضاد في زوايا الرؤية والصفات بما يفجِّره ذلك التضاد من صراعات درامية فئوية وطبقية وثقافية واجتماعية إنسانية تشكِّل ملامح الواقع الصعب..
أما الأستاذ “فرجاني” نور الشريف في فيلم “آخر الرجال المحترمين” فكان العمل الذي نال عنه البطل عام 1984 جائزة التمثيل الأولى في مهرجان نيودلهي السينمائي، والجائزة الأولى مناصفة مع فيلم “بيت القاصرات” في مهرجان الإسكندرية السينمائي، وتناول فيه “وحيد حامد” واحدًا من أشكال العلاقة بين المواطن البسيط والسلطة، والبحث عن الحد الفاصل بين جهاز الأمن كقوة وفريق عمل مُقدِّم الخدمة الأمنية بكل أوجهها وتحقيق الأمان له، وبين جهاز الأمن كأفراد يمارسون عملهم اليومي التقليدي الذي قد يُمارَس بأداء بيروقراطي معطِّل لآلية تحقيق الأمن الإنساني لبطل العمل في فيلمه هذا. ويؤكد وحيد حامد أن السينما المصرية بإمكانها الاستفادة من الواقع المعاش والاقتراب منه، فهو زاخر بالموضوعات الإنسانية التي يمكن أن تثري فن السينما، خصوصًا عندما يتم تناول هذا الواقع بشكل مهني صادق..
في “آخر الرجال المحترمين” يقدم السيناريست شخصية الرجل المثالي صاحب المبادئ، مدرس يصطحب طلابه في رحلة، تتوه واحدة من الأطفال، وعلى الرغم من أنه كان من الممكن أن يلقي بالمسئولية على مشرفة الرحلة لكنه تحمَّل المسئولية كاملة وبدأ في رحلة البحث عن الطفلة لم ينتظر أحدًا، ليستعرض من خلال الفيلم مشاكل كثيرة منها خطف الأطفال، والثأر، ومجتمع جامعي القمامة الخ، ليلقي الضوء وينتقد قضايا مجتمعية بصورة إبداعية مؤثرة ولا أقول ميلودرامية كفاجعة وبكائية.. وبنعومة وحريرية أداء يتناول “وحيد حامد” الجوانب السلبية في الممارسات اليومية للناس في البيت المصري، ومع ذلك جعل لهم مشاركة هامة في تفاصيل عملية العثور على الطفلة، ولم ينجر السيناريو لتفاصيل تقليدية لمثل تلك المواقف التراجيدية التي تفتح شهية مخرجي الأفلام البوليسية مثل مشاهد المطاردات وافتعال المعارك المثيرة..
ويباغت التنويري والإصلاحي وحيد حامد المشاهد المصري بالوقوف بجرأة أمام ظاهرة لم تتناولها السينما أو أي لون من ألوان الدراما المصرية، واعتبرها قد تجاوزت حدود الظاهرة بأنها باتت تمثل وباء يجتاح الشارع المصري، ويرى بطل فيلم “النوم في العسل” وهو ضابط الشرطة في مباحث أمن القاهرة ” المبدع العظيم عادل إمام أن وباء العجز الجنسي بات يمثل أهم أسباب انتشار العديد من الجرائم مثل حوادث القتل والنزاعات الأسرية الغريبة واللافتة وأعدادها المرتفعة يوميًا بعد أن داهم المدينة ذلك الوباء وابتلع قدرات رجالها الجنسية، فكان فيلم “النوم في العسل” بصياغة ساخرة ولكنها مؤلمة فكانت النهاية صرخة ألم جماهيرية غاضبة يتقدمها الضابط الرائع ..
وبسؤال كاتبنا الوطني النبيل عن غيابه عن مواقع المشاركة السياسية، قال: “أنا أكبر مشارك سياسي، ولكن بقلمي ولقاءاتي وأفلامي، وأنا مؤثر لأنني صاحب رأي حر، وليس ضروريًا أن ينضم الصحفيون الكبار أصحاب الرأي الحر إلى أحزاب.. وأنا مع الناس، فالشيء الجيد أرفع له القبعة، والسيئ أرفع عليه السيف”.
وفي زمن حكم الإخوان، قال وحيد حامد: “الجماعة تتعامل مع مصر “الوطن” على طريقة لصوص السيارات، يسرقونها ثم يفككونها قطعة قطعة”، والآن نقول: “كان هناك وطن اسمه مصر”.. هذه جماعة لا تعرف معنى الوطن ولا تنشغل به، فقط يخططون ويسعون لمصالحهم، ويكذبون من كبيرهم لصغيرهم بلا خجل، واصفين ما يفعلونه بـ”الكذب الحلال” أو “الكذب المبارك”، ولديهم جرأة فريدة على التمسك بالباطل، وكل يوم يحكمون مصر فيه يجرّونها للخلف عشرات الخطوات، وتشعر وكأن هناك شيئًا مدبرًا لتدمير كل ملامح حضارتها وخصوصية ثقافتها، أنت أمام جماعة أو حكام لا ينصاعون للقانون ويعتدون عليه جهارًا نهارًا، ولديهم من صُناع الإفك أعداد هائلة، يحملون تبريرًا لكل شيء”..
تحية لروح ذلك المبدع العظيم والمفكر المتفرد في تطويع فنونه للإصلاح وقلمه للتنوير فاستحق يوم تكريمه في نهاية مشواره الإبداعي تصفيق أهل الإبداع وقوفًا..