قاع التعالي وأرض الافتخار

8

أشرف ونيس

قد يتنازل المرء منا ويغفر لمن أساء إليه، إلا أن إساءة التكبر وخطيئة التعالي لها جرحها وأثرها وتأثيرها على الغير بشكل مختلف عن مثيلها من أشكال التدني الأخلاقي والانحطاط القيمي. فرغم أننا لا نريد أن نغالي في مدى فظاظة ذلك الشعور وتلك المشاعر، إلا أن تردي انتهاجها لا يعود على الشخص المتلقي فحسب، بل يرتد بسلبيته وسالبيته إلى مَنْ تصدر عنه وتنبع من بين أحشائه. فالتردي هو دربها، والصراع هو طريق ذلك الإثم ومساره ومسلكه، يخسر فيه الشخص المتعالي أعز ما يملكه ويمتلكه في الحياة من رفقاء وأحباء وأقران بل ونفسه وإنسانيته وشخصه أيضًا.

لقد جُبلنا ممتلكين حسًا أخلاقيًا به نميز بين الغث والثمين، الخير والشر، الصالح والطالح – الضمير – وتبنينا لمشاعر التعالي على الآخر لهو صورة من صور التنازل والتجاهل لصوت ذلك الضمير بداخلنا الذي قد يمرض ويصاب ببحة صوته، صارخًا مناديًا ورافضًا لأفعال إرادتنا المنافية لطبيعته والمعاكسة لرغباته وإرادته.

فالتخلي عن إنساننا وإنسانيتنا ليس بهين الأمر، ولا هو بالشيء اليسير، بل قد تكلفنا تلك المغامرة أنفسنا ونفسياتنا، فتبعاتها لا تصل إلى أواننا وحاضر أيامنا فحسب، بل تمتد إلى مستقبلنا أيضًا، فليس أمر على وجه بسيطتنا يُعتبر دائمًا أبدًا، فالتغير والتبدل هما ثبات طبيعتنا الرصينة، كما أن الزوال والاندثار والموت هم ناموس الوجود بكل ما يحتويه، فماذا عساه أن يفعله المتعالي عندما يفقد ما ألبسه ثياب الآلهة يومًا ما؟ وماذا سيفعل المتكبر وقتما يبحث عن عرشه الذي ارتأه معتبرًا الكل عبيدًا خاضعين لأمره ونظرته الدونية لهم؟

وهكذا فإن سمة الغرور وصفة التكبر ليستا من الشيم التي تعكس ذكاء قلوب أصحابها ممن يعتلون منابرهما ويقودون مواكبهما بما يملكونه عن غيرهم، بل هما مرآة لغباء القلب والبصيرة النابعة منهما، لأن السير دون التبصر لعواقب الأمور ينم عن العمى الروحي الذي يتخطى في رداءته أي شيء آخر.

إن العُجب بالذات لهو مرض يصيب صاحبه بداء ليس له ترياق شاف سوى التواضع والاتضاع الذي قد يعتبره البعض نقصًا لقيمة الشخص بين الجميع، خالطين في ذلك بين الاتضاع وصغر النفس، فتماهت المفاهيم وامتزجت المعاني، وصار التخبط بين الخطأ وعكسه هو ما يميز كثيرين وكثيرات رأوا الباطل حقًا والحق باطلًا. نعم، فقد كان التغطرس وسيظل بمثابة تمرد لخلايا عواطفنا وحنونا في طريقة نموها وتكاثرها، تخترق أنسجة مبادئنا وقيمنا فتدمرها تدميرًا، وتنتشر في جميع أنحاء عقولنا ومفاهيمنا، فتكون بمثابة سرطان يؤدي إلى وفاة إنسانيتنا وإنساننا بعد عراك طويل وقتال أطول لصراع النفس مع ذاتها.

فهو ينتج القسوة ويلد التبلد نحو ما يعانيه الآخرون؛ يتعامى فيه الشخص فلا يرى سوى نفسه، ومركزه ووضعه، يختال متبخترًا بين أعين غيره ممن يرى قصورهم وتقصيرهم عما بيده، متوجا نفسه ملكًا بينما الآخرون ما هم إلا رعايا له، وجب عليهم تنفيذ مآربه وما يصبو إليه دون تردد أو حتى نقاش!

وكما تحسبه الشخوص بأنه صورة للكمال بينما هو الوجه الآخر للضعف والنقصان، يعتبره البعض ممن يرتاحون لنهجه وينغمسون بتلوث مائه أنه النقاء في صورته الصافية بينما يتجاهلون كونه الاختلاط المُزري بأتربة الوحشية المتأنسة والتوحش المستأنس، فيه الارتداء والتحلي بأقنعة البشر لكن الداخل يتبرأ عن كل ما يمت للآدمية بأية صلة أو علاقة!

إذًا فأول صعود درج الغرور هو الانحدار، وبداية إدراك مقصد التعالي هو التهاوي من علياء الترفع والتسامي، وهو طاقة سلبية تمتص من رصيدنا لدى الآخر – أيًا كان ذلك الآخر – المحبة والتقدير، الاحترام والإجلال، التوقير والمهابة …..، فيستفيق المتعالي من غفوته ليُصدَم بكبوته، اذ أمسى الجميع معه في كره وتباغض، في عداء وعداوة، سخط وشجار ……، فيهوي صريعا ليُقذَف ويُلفَظ بعيدًا عن دنيا التآنس والتآلف، التوافق والتحابب، المسالمة والمصالحة، التهادن والانسجام ….. فتكون له هي بداية النهاية وأول طريق الانتهاء والانقضاء، إنه التكبر والتعالي، الغرور والعجب بالذات، الزهو والتبختر، قاع التعالي وأرض الافتخار!!!

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا