الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
تصور عدسة الوحي المقدس نحميا وهو في السبي في شوشن القصر، وقد جاء لزيارته أخوه حناني ورجال من يهوذا، فسألهم نحميا عن أخبار أورشليم، وكان جوابهم: “إن الباقين الذين بقوا من السبي هناك في البلاد، هم في شر عظيم وعار. وسور أورشليم منهدم، وأبوابها محروقة بالنار. فلما سمعتُ هذا الكلام جلستُ وبكيتُ ونُحتُ أيامًا، وصمتُ وصليتُ أمام إله السماء” (نح 1: 3، 4).
ولم يعرف نحميا من يومها مذاق الحياة أو الراحة أو السعادة. كان نحميا ساقي الملك، وهو ما أشبه بمَنْ يطلق عليه اليوم (كبير الأمناء) أو (رئيس ديوان رئيس الجمهورية)، وهو المسئول عن الشئون الخاصة بالملك وعن طعامه وشرابه.
وعندما قدم نحميا الشراب للملك كان ممتلئًا من الألم والحزن والإحباط والكآبة وهو ما لاحظه الملك. وعندما لاحظ الملك علامات الحزن العميق البادية على وجهه قال له: “لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض؟ ما هذا إلا كآبة قلب!” (نح2: 2).
ولقد كان غريبًا أن يكون حزن نحميا بهذه الصورة اللافتة للانتباه… فلم يكن مريضًا بمرض معين. ومن المعروف أن نحميا لم يكن حزينًا بسبب مأساة أو مشاكل أسرية أو احتياجات مادية… كان نحميا حزينًا بسبب بيته الأكبر والأعظم في أورشليم هناك.
ومن الغريب أن نحميا كان متألمًا لمشكلة تبعد عنه قرابة ألف ميل… نعم! كان نحميا بعيدًا عن أورشليم، ولكن أورشليم لم تكن بعيدة عن قلبه وعواطفه وأشواقه وآلامه.
وكان يمكن لنحميا أن يستريح ويهدأ لأن المشكلة تراث قديم كانت قبل أن يولد، إذ وُلِدَ وهو في المنفى في السبي كما أنه لم يصنع المشكلة ومن حقه ألا يكون مسئولًا عنها.
وضع الملك أرتحشستا يده على سر ألم ووجع نحميا في عبارة واحدة: “ما هذا إلا كآبة قلب!” (نح2: 2).
لقد كانت أورشليم بالنسبة لنحميا هي سيدة المدن… مدينة الرؤى والأحلام مدينة السلام… مدينة حبه وأحلامه وأشواقه. إنها المدينة التي بسببها علق المسبيون أعوادهم في بابل على الصفصاف وهم يبكون قائلين: “كيف نرنم ترنيمة الربّ في أرضٍ غريبةٍ؟” (مز137: 4-6).
نعم! لقد ارتبط نحميا بمدينته أو بتعبير أصح وأعمق وأدق بإله مدينته. لقد عاش نحميا ومات وهو يرى تراب أورشليم وأنقاضها أعظم وأغلى من تبر شوشن ومجدها.
وضع نحميا في العمل عدة مبادئ أذكر منها الآتي:
أولاً: اطرح آلامك أمام إلهك
عندما سمع نحميا وهو في السبي أن سور أورشليم منهدم وأبوابها محروقة بالنار وأن من فيها في شر عظيم وعار تأثر جدًا: “فلما سمعتُ هذا الكلام جلستُ وبكيتُ ونُحتُ أيامًا، وصمتُ وصليتُ أمام إله السماء” (نح1: 4).
وعندما وقف نحميا أمام الملك تصور عدسة الوحي المقدس أن وجهه كان مكمدًا ومغمومًا وفي غاية الألم من الأخبار السيئة التي وصلته من أورشليم فمكتوب: “فقال لي الملك: لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض؟ ما هذا إلا كآبة قلب! فخفتُ كثيرًا جدًا، وقلتُ للملك: ليحي الملك إلى الأبد. كيف لا يكمد وجهي والمدينة بيت مقابر آبائي خراب، وأبوابها قد أكلتها النار؟” (نح2: 2، 3).
إن المؤمن الحقيقي هو الذي يشعر بالألم وتنساب دموعه كتعبير عن غيرته على عمل الله وقلبه المشتعل على الخطاة الذين تاهوا في دروب الشر. وهناك أمثلة كثيرة في كلمة الله تؤكد هذا المعنى، فنرى في (مز119: 136) أن المرنم يقول: “جداول مياه جرت من عيني، لأنهم لم يحفظوا شريعتك”.
ويسجل الوحي المقدس عن عزرا أنه عندما سمع أن الزرع المقدس (شعب الله) اختلط بشعوب الأرض: “فلما سمعتُ بهذا الأمر مزقتُ ثيابي وردائي ونتفتُ شعر رأسي وذقني وجلستُ متحيرًا” (عز9: 3).
لقد شعر عزرا بالألم الرهيب والحزن العميق وهو يرى شعب الرب يختلط بالشعوب الأخرى يشاكلهم ويشابههم وأضحى لا يختلف عنهم.
وفي أع 20، يقول الرسول بولس لقسوس أفسس إنه كان يخدم بكل تواضع ودموع كثيرة وأنه ثلاث سنين ليلًا ونهارًا لم يفتر عن أن ينذر بدموع كل واحد. ويقول في (رو9: 2): “إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع.”
وإلى أهل كورنثوس يكتب كلماته ممتزجة بدموع غيرته ومحبته نحو الخطاة، فيقول في (2 كو11: 29): “من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟”
وفي ترجمة حديثة تأتي هذه الكلمات: “من يضعف وأنا لا أضعف معه، ومن يسقط في الخطية وأنا لا أحترق من الحزن عليه”.
أما قبل هذا وذاك، فنجد المثل الأعلى لنا شخص الرب، حيث نرى مشاعره الرقيقة وعواطفه الجياشة عندما تطلع إلى أورشليم وبكى عليها إذ مكتوب: “وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها… فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة” (لو19: 41، 43).
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه وهو: “من يبكى اليوم على عمل الله؟ من يبكي على رجوع الخطاة؟”
ثانيًا: العمل بروح الفريق
لم يستأثر نحميا ببناء السور بمفرده، ولم يكن يرغب أن تسلط عليه الأضواء دون غيره، ومع أن نحميا كان هو المخطط والمشجع والدافع العظيم خلف البناء والبناة إلا أنه أدرك أن العمل الذي يستند على مجهود فرد واحد أو قله من الناس لا بد أن يفشل، ولهذا نجد أنه قد ضم نفسه إلى العاملين وقال: “فبنينا” بصيغة الجمع. وكل عمل في الحياة يلزمه التعاون والاتحاد حتى يخرج إلى النور في أبهى صورة.
والجدير بالذكر أننا نقرأ في نحميا ص3 عن قائمة كبيرة بكل الناس الذين شاركوا في البناء يمثلون 42 مجموعة. ويتحدث السفر عن نحميا القائد القدوة… القائد العظيم المبادر، القائد الملهم.. المتحمس الشجاع المضحى، كما نقرأ عن ألياشيب رئيس الكهنة والكهنة والشعب. الكل يعمل بروح الفريق الواحد، حتى أننا نرى في هذا الإصحاح أنه توجد ثلاث كلمات تشير إلى العمل الجماعي الذي كان يجمعهم معًا.
1. (نح3: 1-14) تعبير (بجانب – بجانبهما – بجانبهم)
رمم (فلان) بجانب (فلان) هذا معناه أن كل واحد كان يرمم وكتفه في كتف الآخر، وقلبه على قلب الآخر، ويده بيد الآخر.. في تلاحم.. وتناغم.. وتناسق.. وتآزر، كلهم يعملون بروح الفريق الواحد.
2. (نح3: 16-25) تعبير (بعده – بعدهما – بعدهم)
بمعنى أنه عندما ينتهي الواحد من عمله يأتي بعده من يكمل العمل، في سلسلة من العمل المتواصل الجاد الصلب الذي لا يلين الذي لا يهدأ ولا يتوانى ولا يتوقف، ولكن الواحد يسلم الآخر.. والآخر يكمل ما ابتدأ.. إلى آخره حتى اكتمل السور.
3. (نح3: 32) تعبير (ما بين) “وما بين مصعد العطفة إلى باب الضأن رممه الصياغون والتجار.”
بعد بناء وترميم الهيكل اكتشفوا أنه توجد بعض الثغرات في البناء بين قسم وقسم… نحتاج عندما نكتشف وجود ثغرة في البناء أن نتدخل… ونرمم بين وبين… نحتاج أن نُصلح بين وبين… نحتاج أن نصلي بين وبين… نحتاج أن نبني الجسور بين وبين.
المؤمن الحقيقي هو الذي إذا اكتشف ثغرة يقوم بسرعة بترميمها، رائع أن يطلق عليك “مرمم الثغرة” (إش58: 12).
ثالثًا: العظمة في الخدمة
بينما تُظهر ريشة الوحي المقدس كل واحد كان يبني أمام بيته… والكل يعمل بحماس وهمة ودقة وإخلاص، يذكر لنا الوحي في (نح3: 5): “بجانبهم رمم التقوعيون، وأما عظماؤهم فلم يدخلوا أعناقهم في عمل سيدهم.”
ظن أفراد مجموعة أن عظمتهم تمنعهم من أن يضعوا أعناقهم في العمل بالرغم أن الإنسان العظيم هو الذي يرى أن عظمته هي في الخدمة ويضع عنقه تحت نير الخدمة المقدسة… يظن البعض أن الإنسان العظيم هو من يتربع على قمة الهرم، لكن الرب يسوع يقلب الهرم، ويعلمنا أن العظمة هو الذي يقف عند السفح، وهو الذي يحمل الكل، حيث قال: “من أراد أن يصير فيكم عظيمًا، يكون لكم خادمًا، ومن أراد أن يصير فيكم أولًا، يكون للجميع عبدًا” (مر10: 43، 44).
وقدم نفسه نموذجًا يُحتذى ومثالًا يُقتدى به وقال: “لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مر10: 41، 45)… هذا ونستكمل باقي الدروس المستفادة من هذه المعجزة في المقال القادم بمشيئة الرب.