الكنيسة المنتظرة والمنتصرة

3

الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر

        نعم! قد يعطف الغني على الفقير فيمد له يد المساعدة لكنه لا يقبل أن يعيش معه في فقره، وقد يرق الطبيب لحال المريض، لكنه لا يستطيع أن يشاركه في ألمه. لكن الله في غنى نعمته وفيض محبته وعظمة قدرته عندما رأى الإنسان وقد دمرته الخطية، وحطمه الشر، وأضحى بقايا إنسان في ذروة البؤس والشقاء، لم يرسل له رسالة يعبِّر فيها عن مشاعره الرقيقة ومكنونات قلبه المحب، بل جاء إليه بنفسه: “الله ظهر في الجسد” (1تي3: 16).

    ولا شك أن المهمة الأولى والأساسية لتجسد الرب يسوع على الأرض إنما كانت ليخلص الإنسان من خطاياه كما يقول الرسول بولس: “صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول: أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا” (1تي1: 15).

وتجسد ليختبر الإنسان الحياة الجديدة والحياة الأفضل والحياة الأبدية كما قال الرب يسوع: “وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل” (يو10: 10).

لقد كان يسوع لمسة شافية، وهمسة مطمئنة، وبسمة مشجعة، إذ كان يجول يصنع خيرًا، ويشفي كل مرض في الشعب (أع10: 38)، كما كان يسوع نورًا جديدًا أنار الدنيا بأسرها بقدوته الصالحة وبتعاليمه الرائعة ومبادئه السامية.

  وقد التقطت عدسة الوحي المقدس العديد من الصور البديعة الجمال التي توضح لنا هذا الفكر، أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

أولًا: اهتم بالفقراء والمهمشين

    في قصة الميلاد، نرى رعاة بيت لحم وهم يسمعون نشيد الميلاد من فريق ترنيم السماء وهو يشدو: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة” (لو2: 14)، ويحدثهم عن مُخلِّص هو المسيح الرب.

كان الرعاة من أفقر الناس، ولم يكن لهم من يكترث بهم، ولو أن أحد الأثرياء أو العظماء تحدث مع أحدهم كان يُعتبر هذا حدثًا عظيمًا في حياته يفتخر به طول العمر، ولهذا فلقد غمرت البهجة قلوب الرعاة البسطاء ساعة الميلاد حيث شعروا بأن الله قريب جدًا منهم بصورة لم يختبروها من قبل، وكأن الله ينحاز للفقراء.

نعم! عندما يكتشف الإنسان حقيقة قرب الله منه يشعر بسعادة غامرة. إن سر شقاء كثير من الناس هو أنهم يظنون أن الله بعيد عنهم، بينما هو أقرب إليهم مما يتصورون. هو في بسمة شروق الشمس مع كل صباح جديد، وفي نسمة الهواء التي يتنفسونها، وفي لقمة الخبز التي يأكلونها، وفي كأس الماء الذي يشربونه، وفي نبضة القلوب الساكنة في صدورهم.

حقًا! لقد تجسدت في يسوع الرحمة، لذلك كان يسافر الأميال ليصل إلى الفقراء والمحتاجين والمتألمين أينما كانوا. كان يسمع كل أنين، ويرق لكل حزين، ويسرع لكل صرخة، ويتألم لكل توجع، لذلك نراه وهو يعلن عن برنامج إرساليته يقول: “روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية” (لو4: 18).

نعم! إن يسوع صعد إلى السماء، لكنه ما زال يعيش على الأرض يفجر ينابيع الرحمة في أحشاء الكثيرين من المؤمنين به فينطلقون في حب ووفاء وولاء له ليبحثوا عن يسوع في الجوعان وفي العطشان وفي الغريب وفي العريان وفي المريض وفي المحبوس.

ثانيًا: انضم إلى صفوف الخطاة والمذنبين

    في إنجيل متى ص3، نرى الرب يسوع يصل حيث كان يوحنا المعمدان يعظ ويعمِّد، والعجيب أن نرى يسوع يطلب أن يعتمد من يوحنا، والجدير بالذكر أنه شتان الفرق بين المعمودية التي كان يعمِّد بها يوحنا المعمدان وبين المعمودية المسيحية.

كانت معمودية يوحنا فرصة للناس أن يتوبوا ويعترفوا بخطاياهم وهم صاعدون من الماء، ولم تكن ليسوع خطايا يعترف بها، كما أن المعمودية كانت للدخلاء والأجانب الذين يريدون الدخول لليهودية، ولم يكن يسوع أجنبيًا، الأمر الذي جعل يوحنا يندهش ويرفض في البداية أن يعمِّد يسوع (مت3: 14، 15)، ومع ذلك أراد يسوع أن يضع نفسه مع عامة الشعب المعترفين بخطاياهم ويعتمد.

لقد أراد يسوع أن يعلن عن حبه والتصاقه بالخطاة وتوحده معهم بنزوله معهم إلى مياه معمودية الأردن. لقد كان في المعمودية كمَنْ يحصل على شرعية تمثيله للخطاة الآثمين بتوحده معهم لكي يتسنى له أن يأخذ مكانهم على صليب الجلجثة نيابةً عنهم أمام عدالة الله كممثل لهم.

هكذا رأيتُ يسوع يجعل نفسه مع جماعة الخطاة المعترفين بخطاياهم مع أنه بلا خطية … ألا يخجل الإنسان الخاطئ الذي يرفض الاعتراف بخطاياه والاعتذار عنها مع أنه غارق فيها؟!

ولا عجب عندما ترسم لنا ريشة الوحي المقدس الرب يسوع وهو يحضر ولائم الخطاة والعشارين، ويجالسهم ويأكل معهم، ويحدثهم ويستمع إليهم، ويجتذبهم بالحب حتى قيل عنه إنه “محب للعشارين والخطاة” (مت 11: 19).

ثالثًا: تعاطف مع الحزانى والمتألمين

     ترصد عدسة الوحي المقدس في يوحنا ص11 صورة نابضة بالحب، ناطقة بالحنان للرب يسوع، إذ تصوره باكيًا عند قبر لعازر وسط الجموع المحتشدة مع مريم ومرثا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا بكى يسوع وهو يعرف أنه بعد لحظات، وعلى بُعد خطوات سوف يتقدم ويدوس الموت، ويدوي صوته الآمر المقتدر: “لعازر هلم خارجًا”؟… لماذا بكى يسوع وهو يعلم أنه في مرات تفسر الناس البكاء على أنه علامة ضعف؟ ألم يكن من الأفضل أن يسير الرب يسوع إلى القبر بمهابته ومجده وجلاله، ويدحرج الحجر بكلمة، ويمزق الأكفان بنفخة من فمه؟!

في يقيني أن يسوع بكى ليكشف عن أعماق أحشائه الرقيقة، وعن عواطفه الجميلة وقلبه المحب، وليمسح بدموعه دموع الحزانى والمتألمين الباكين. نعم! لقد كان يسوع في قمة المجد والعظمة وجاءت دموعه لتزيده مجدًا وعظمة.

نعم! عندما تجسد المسيح بدد ظلام البشرية بنوره، ومسح دموع الحزانى بدموعه، ولهذا تربع على عرش قلوبهم.

  لقد تدفقت الجماهير الغفيرة حول يسوع وأتته من كل الربوع… الكل يناديه: “ارحمني.” لقد رأوا في يسوع الصدر الحنون فهرعوا إليه… لقد صدِّقوا في يسوع أنه الحصن الحصين والملجأ الأمين فلاذوا بالفرار إليه.

وهكذا تدفق ذلك الطوفان البشري من البؤساء والمحرومين والمرضى والمتألمين على يسوع، والذي قابلهم بطوفان أعظم من الحب والحنان والجود والإحسان.

 رابعًا: تلاحم مع المضطهدين والمتضايقين

    نعم! منذ القديم وشعب الرب يختبر معية الله في كل ظروف الحياة، فيصور الوحي المقدس أحاسيس الله الرحيمة نحو شعبه المعذب والمضطهد فيقول: “إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إني علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم” (خر3: 7، 8).

ونسمع داود يشدو قائلًا: “أيضًا إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا، لأنك أنت معي” (مز 23: 4).

وفي سفر إشعياء يقول الرب: “إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تلذع، واللهيب لا يحرقك” (إش43: 1-4). ويقول: “هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك… هوذا على كفي نقشتك” (إش49: 15، 16).

ويقول مؤكدًا: “في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلصهم” (إش63: 9). إن معية الله للإنسان منذ فجر التاريخ تفوق الخيال، وتكشف عن أبعاد ذلك الحب الذي لا أول له ولا آخر. لكن مهما كانت تلك المعية، ومهما كان ذلك الحب الذي ظهر في القديم، فلا يمكن أن يقارن بحقيقة الحب الذي ظهر عندما صار الحب جسدًا في ملء الزمان.

ما أعظمه وهو ينادي على الطرسوسي قائلاً له: “شاول، شاول! لماذا تضطهدني؟” فقال: “من أنت يا سيد؟” فقال الرب: “أنا يسوع الذي أنت تضطهده” (أع9: 4، 5).

والسؤال هو: لماذا لم يقل له: “شاول شاول لماذا تضطهد تلاميذي… أو أحبائي… أو الذين عرفوني وتعلقوا بي وساروا ورائي؟” لماذا؟

لا يوجد تفسير لذلك إلا أن الرب كأنه يقول لشاول الطرسوسي: “إن سهام الاضطهاد التي توجهها إلى بطرس أو يعقوب أو يوحنا أو غيرهم إنما أنت تطعنني أنا بها… إن اضطهادك لهم هو اضطهاد لي أنا شخصيًا.” ولعل هذا يفسر قوله: “من يمسكم يمس حدقة عينه” (زك2: 8).

كم أنت حلو يا مسيحي… كم أنت رائع في حمايتك وعنايتك ورعايتك لمحبيك.

خامسًا: توحد مع المؤمنين عبر السنين

    سجلت ريشة الوحي المقدس في إنجيل يوحنا ص17 صلاة جميلة للرب يسوع، يحلو للبعض أن يطلق عليها الصلاة الشفاعية، أو الصلاة الكهنوتية، والتي فيها فتح قلبه أمام الآب مُعبِّرًا عن أشواقه وانتظاره لمستقبل الكنيسة التي تنازل مَنْ مجده وتجسد ليفتديها.

نعم! لقد رفع يسوع هذه الصلاة من عُلية صغيرة لكنه كان يرى العالم الفسيح، والقرون والأجيال القادمة بالملايين تخطو أمامه رافعة علم الإيمان به، فصلى من أجل وحدتها معًا لكي تكون كنيسة واحدة متحدة فقال: “ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هُم أيضًا واحدًا فينا” (يو17: 20، 21).

وهنا نرى روعة توحد الرب يسوع مع المؤمنين عبر كل العصور.

كيف لا وكلمة الله تؤكد على هذا الأمر مرارًا وتكرارًا، فنرى على سبيل المثال في (يو15: 5) يقول الرب يسوع: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”، فيسوع هو الكرمة التي تحمل الأغصان وهي تزهو بأوراقها النضرة وزهورها العطرة وثمارها الحلوة.

ومن جانب آخر، استطاع الرسول بولس بوحي الروح القدس أن يعمق فكرة الوحدة في تنوع بفكرة الجسد الواحد، فيقول في (1كو12: 12، 27): “لأنه كما أن الجسد هو واحدٌ وله أعضاءٌ كثيرةٌ، وكل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرةً هي جسدٌ واحدٌ، كذلك المسيح أيضًا… هو رأس الجسد ونحن الأعضاء.”

نعم! لقد التحم الرب يسوع مع تلاميذه ومحبيه في أيام تجسده، لكنه قبل صعوده أراد أن يترك لهم ذكرى خالدة تذكرهم بالعلاقة الحميمة والوطيدة التي تجمعه بالمؤمنين عبر كل العصور إلى أن يأتي ثانيةً، فجمع التلاميذ ورسم لهم فريضة العشاء الرباني… كانت لحظات حاسمة وخاشعة سكب فيها يسوع كل عواطفه فنرى الرسول بولس يقول: “الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحدٌ، جسدٌ واحدٌ، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد” (1كو10: 16، 17).

يا له من تشبيه غاية في الروعة، فالخبز الذي نتناوله يرمز إلى جسد المسيح هو خبز واحد، وكأنه يوحدنا معًا ويوحدنا معه.

 ثم أخذ يسوع الكأس وشكر وأعطى لتلاميذه ليشربوا منها كلهم. هنا نرى شفتي يسوع تتلاقيان وتتلامسان مع شفاه أحبائه على هذه الكأس وكأن يسوع أخذ يطبع قبلة حارة على شفاه تلاميذه، وعلى شفاه البشرية كلها. قبلة حب بلا حدود أو قيود.. حب إلى المنتهى.. حب حتى الموت.. موت الصليب.. حب أعظم من أعظم حب في الوجود.

هذا هو الحب الذي رأيناه في روعة التجسد.

 الكنيسة

 – جماعة منتقاة من العالم

 – جماعة تعيش مختلفة عن العالم

 – جماعة مرسلة إلى العالم

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا