سبق لي أن كتبتُ مقالاً مطولاً بعنوان “معالجة العرض لا المرض”، وذكرتُ في ذلك المقال أن واحدة من أكبر مشكلاتنا في مصر هي أننا عند تعرض المجتمع لمرض مجتمعي ما دائمًا ما نتعامل مع أعراض ذلك المرض ونحاول علاجها دون أن ندرس أسبابه الحقيقة ونحاول علاجها، أي أننا دائمًا ما نعالج العرض لا المرض، تمامًا كالطبيب الفاشل الخائب أو المستهتر الذي لا يعرف سبب المرض الذي يعاني منه مريضه ولذا يقوم بمعالجة ما يراه من أعراض للمرض، كالسخونة أو الحكة أو الكحة أو الصداع، دون اكتشاف المسبب الحقيقي للمرض. وبالتالي قد تبرد سخونة جسم المريض أو يمتنع حك الجلد أو تتوقف الكحة أو يختفي الصداع لوقت ما، وقت قصير أو طويل، إلا أنه بسبب وجود المسبب الأساسي للمرض والمؤدي إلى هذه الأعراض فسرعان ما يعود جسد المريض إلى حالة من السخونة أو الحكة أو الكحة أو الصداع وغيرها من الأعراض، فيقوم الطبيب بمعالجة ما عاود الظهور من أعراض بأدوية مختلفة، وقد تكون نفس الأدوية التي لم تنفع المريض من قبل، فيصف الطبيب الأدوية بجرعات أكبر ليتغلب على الأعراض التي عاودت الظهور مرة أخرى. وهكذا يدور المريض في فلك طبيب جاهل أو فاشل أو مستهتر لا يعرف التشخيص السليم لمرض مريضه، فيظل المريض مريضًا، ويظل الطبيب في جهله أو تقصيره في عدم دراسة حالة مريضه بطريقة أدق، أو عدم أمانته في وصفه للداء والدواء. وهكذا تدور الدائرة إلى أن يموت المريض، أو يعيش في حالة من الضعف والاستسلام لمرضه، أو في حالة من الخداع أو الإنكار أو الوهم بأنه قد شُفي من مرضه، مع أن أمر العلاج بسيط وهو أن يترك المريض هذا الطبيب الجاهل ويبحث عن آخر يعرف كيف يداوي المرض لا العرض.
وفي رأيي الخاص أن هذا هو الحال مع قضية تبني الطفل شنودة وقصته العجيبة المبكية والتي يحاول المئات ممن هم حوله أن يجدوا لها حلًا، وأن يجدوا لوالديه بالتبني مخرجًا مما قاموا به من غير صحيح الأفعال، والمخالفة بحسب القانون المصري، كما يحاولون تشخيص وعلاج حالة الطفل شنودة التي أصبحت حديث العالم العربي كله وبعض الأجنبي أيضًا، وبالتالي حديث كل بيت في مصر. والمشكلة الكبرى هي أن يحاول الكل تشخيص حالة الطفل شنودة على هواه، ووفقًا لقناعاتهم النفسية والدينية والطائفية، ووصف العلاج الذي قد يضر به وبمن تبنياه وبالكنيسة التي وُجِد فيها، بل وبالمسيحيين عامةً في مصر، فمنهم مَنْ يرى أن ما قامت به النيابة بأمرها بأن يؤخذ الطفل شنودة من والديه ليس أقل من جريمة كبرى ارتكبتها النيابة في حق شنودة وأسرته الجديدة والإنسانية جمعاء، فكيف يُعقل أن يؤخذ طفل يسكن آمنًا مع أب وأم بذلا ويبذلان كل ما في وسعهما لإسعاده وتربيته تربية صالحة مفيدة له ولهما وللمجتمع كله ويُلقى في مؤسسة لتربية الأطفال الذين معظمهم ليست لهم بيوت مستقرة يعيشون فيها؟ ومن الناس المهتمين بقضية شنودة مَنْ يرون أنه لا يوجد خطأ فيما فعلته النيابة عندما انتزعت الطفل شنودة من الوالدين اللذين تبنياه واستخرجا له شهادة ميلاد باسمهما على أنهما أبوه وأمه وأخفيا حقيقة أنهما ليسا أبوه وأمه بل مَنْ تبنياه. والبعض يرى أنه لم تكن أمام الوالدين سوى هذه الطريقة التي اعتمدت على الغش والخداع من قِبل الوالدين، الطريقة التي كانا يعلمان أنها خاطئة لكنهما أجبرا على استخدامها بسبب القوانين الإسلامية المطبَّقة على المسيحيين الذين يمرون بمثل حالتهما. والبعض يرى أن المشكلة بدأت من ابنة أخت والد شنودة بالتبني حسب شهادة الوالد نفسه وزوجته، واتهامهما لابنة أخته بأنها تريد أن ترثه، وأنهما، هو وزوجته، وجدا الولد في الكنيسة وأعطاه لهما أب كاهن قبل أن يتوفى. والمسلمون والنيابة يرون أن الولد مسلم حتى لو صحت قصة أن مَنْ تبنياه وجداه ملقى في دورة مياه كنيسة، وخاصةً بعد أن خرجت المرأة التي أبلغت البوليس عن الواقعة كلها وروت علنًا على الفيس بوك قصتها الخاصة بأن أمه أم الطفل شنودة البيولوجية التي أنجبته بالفعل قد زنت أو تزوجت من رجل مسلم، وشنودة هو ثمرة خطيئتهما، وقد أخفاها الكهنة ومَنْ تبنيا شنودة في دير إلى أن أنجبت طفل خطيئتها. ومثَّلت هذه المرأة دور المرأة المخلصة التي ما ابتغت من الإدلاء بشهادتها، بعد طول زمان، غير إظهار الحقيقة، وأكدت أنه لا مصلحة ستعود عليها ولا منفعة لها ستجنيها من الإدلاء بشهادتها هذه، وأنها ليست إلا خائفة على مصر وما يمكن أن يحدث بها من انقسام وثورة، فهي تخاف إن تشتعل البلد بسبب قضية شنودة، وقالت إن دافعها الوحيد للظهور هو تهدئة الناس وإظهار الحقيقة، وأن السبب في سكوتها كل هذه الفترة، بالرغم من نداء كل الفضائيات، وخاصةً المسيحية، أنه على مَنْ يعرف مَنْ هي أم الطفل شنودة الحقيقية أن يتقدم ويعرِّفهم بها، لكن هذه المرأة قالت إن عدم ظهورها وبإدلائها بالحقيقة كما تدعي حتى الآن كان بسبب أنها لم تكن تعرف كيف تظهر في المقابلات التليفزيونية كما حدث مع أبوي شنودة بالتبني.
الجميع كان يتطلعون إلى القضاء ليحكم في القضية وينهي الأمر بإعادة الطفل لمن تبنياه، القضاء الذي يبدو أنه كان في غيبوبة لمدة سنة فلم يكتشف قضاته عدم اختصاص محكمتهم التي أخذت القضية وحققت فيها وحفظت النطق بالحكم إلى الجلسة الأخيرة التي أعلنت بها عدم اختصاصها بالحكم في هذه القضية. وخرج شيخ الأزهر يتكلم في لقاء تليفزيوني مطول عن أهمية وعظمة التعليم الإسلامي بعدم التبني، ثم صمت الأزهر تمامًا وكأنه في عالم آخر غير العالم الذي نعيش فيه، وكأنه لا يكترث لما يحدث في مصر، بينما النار تأكل في المصريين مسلمين ومسيحيين في انتظار أن يسمعوا كلمة منه في أمر الطفل شنودة بالذات لكنه لم يتكلم وقتها. والنداءات والتوسلات والتضرعات للرئيس السيسي ليتدخل في الأمر وينهي الصراع ويُرجِع الطفل لأبويه بالتبني لم تسفر عن جديد في القضية حيث إنها أصبحت قضية رأي عام وبين يدي القضاء المختص بالحكم في مثل هذه الأحوال. والشارع المصري في حالة غليان، فلو تدخل الرئيس وأمر بإعطاء الولد لوالديه بالتبني لكان في هذه الحالة أمام المثقفين والناس المتربصين به يتدخل في شئون السلطة القضائية ويفرض آراءه الشخصية عليهم، وهو ما لن يغفره له القضاة، بالرغم من حقه القانوني والشرعي والوطني في أن يتدخل بقرار واضح صارم يطاع وينفذ في حالة تعرض المجتمع المصري لخطر ما، فمن غيره يجب أن يتدخل في مثل هذه الأمور؟ ومَنْ غيره في البلاد يمكن أن تكون له الكلمة المسموعة في الشارع المصري؟ لكنه إن تدخل في هذا الأمر فسيعتبر غير الفاهمين والمغرضون من المسلمين أنه قد خذلهم ونصر أعداءهم من النصارى فيثور عليه رجال الدين والمتأسلمين، وخاصةً من رجال الأزهر. وإذا سكت ولم يفعل شيئًا بالمرة اعتبر المسيحيون أنه لم يقف في صفهم، ولم يسمع لصرخاتهم وتوسلاتهم، وأنه لا يهمه العنصر المسيحي في مصر، لأنه رئيس مسلم لدولة مسلمة كما وصف غيره من الرؤساء نفسه في الماضي. وبالتالي فإن اتخذ أي قرار في صالح أو ضد الولد سيكون ملامًا، وإن سكت سيكون ملامًا أيضًا. لكن الحقيقة والنتيجة هي أن جميع المتحدثين والمدافعين والمهاجمين في هذا الأمر ليسوا إلا أطباء غير متخصصين في حالات التبني، وهم يعالجون العرض لا المرض، فمرض عدم التبني هو مثل أي مرض يصاب به الفرد أو المجتمع، ولعلاج هذا المرض لا بد أن يرجع العلم لأصل الميكروب المسبب له، وفي هذه الحالة إن اكتشفنا أصل الداء فلا بد من العلاج الصحيح. أما هذا المرض المجتمعي الذي طفح تحت جلد الطفل شنودة فهو أشبه بڤيرس فتاك يكمن في الإصرار على تطبيق القوانين ومبادئ وتعاليم الشريعة الإسلامية على المسيحيين في مصر، أصحاب البلاد الأصليين. هذا هو السبب الحقيقي للمرض، وهو ما لا بد من استئصاله تمامًا من الجسد المسيحي المصري. ولكل عملية جراحية لاستئصال ورم ما في جسد مريض خطورتها وآثارها الجانبية، وحيث إن الضرر الروحي والجسدي والنفسي أيضًا قد حدث بالفعل للمسيحيين و للطفل شنودة، ولن تستطيع قوة إنسانية بشرية معالجته كل أيام حياته، لذلك ستبقى آثار هذا المرض المجتمعي الخطير مع المسيحيين وخاصةً مع شنودة، وسيبقى معه هذا الضرر إلى أن يكبر ويختار بمحض إرادته الحرة، إما أن يكون مسيحيًا حقيقيًا تابعًا وعابدًا للمسيح يسوع، تبارك اسمه، إله المسيحيين الحقيقيين، والذي ألزم نفسه تعالى بأنه لن يستطيع ولن يقبل أن يقرر بمزاجه، تبارك اسمه، مصير الإنسان، وأين سيقضى أبديته، لذا ترك، سبحانه، هذا الأمر الخطير للإنسان نفسه، ليختار بنفسه أين ومع مَنْ يريد أن يقضي أبديته، ووضع سبحانه أمام الإنسان الخيار، وقال له: “اختر الحياة فتحيا”، والحياة هنا هي شخص المسيح بذاته الذي قال عن نفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة، مَنْ آمن بي ولو مات فسيحيا” والذي قيل عنه: “فيه كانت الحياة”، وحذَّر جل شأنه الإنسان قائلًا له: “إن اخترت الموت والبعد والانفصال عن المسيح، تبارك اسمه، في الأرض فستموت وتنفصل عنه إلى الأبد، وستقضي أبديتك في جهنم نار ما أعدها المولى لك بل أعدها لإبليس وجنوده.” إله المسيحية هذا الذي هو الوحيد القادر على شفاء شنودة من كل أمراضه الجسدية والروحية والنفسية التي حصدها، وسيحصدها، هو ومَنْ تبنياه وربياه صغيرًا، من جراء ما حدث معه في هذه الأيام، إلى أن يُدخِله، تبارك اسمه، معه لسماء أعدها للأبرار الذين وُلِدوا من الله وعاشوا في الأرض مع الله وسيذهبون في الآخرة ليكونوا معه سبحانه. فعلى شنودة عندما يكبر إما أن يختار الإله سابق الذكر وإما أن يختار اله الإسلام وينتظر إلى يوم أن يُنصب له الميزان، ويقرر له إله الإسلام، بناءً على أعمال شنودة أعماله الصالحة أو السيئة الطالحة، أين سيكون في أبديته. ولا شك أنه في هذه الحالة سيقضي أبديته مع إله الإسلام الذي يقرر ما يشاء للإنسان بعد موته، حتى أنه يمكن أن يحسب للإنسان الحسنة بعشرة أمثالها وهو يضاعف الحسنات لمن يشاء. فالقانون السماوي ينص على أن الإله الذي يختاره الإنسان ليعيش معه ويعيش من أتباعه ومؤمنيه في الأرض هو ذات الإله الذي سيقضي معه الإنسان أبديته في الآخرة إلى أبد الآبدين. لخلاصك انتظرتُ يا رب.
لكن الواقع الحالي في هذه القضية هو أن الأمر قد تعدى ما حدث مع شنودة من خلاف حول مَنْ هو المستحق أن يحتضنه ويربيه، والداه بالتبني أم دار رعاية إسلامية، فالأمر أصبح مرضًا مجتمعيًا يقبله ويفرضه المسلمون، حسب شريعتهم، على المسيحيين، لا في أمر التبني فحسب لكن في العديد من الأمراض المجتمعية الأخرى، والتي تحتاج جميعها إلى وقفة ومراجعة وعلاج حاسم على يد المتخصصين من رجال الدين والسياسة والاجتماع والتربية وغيرهم.
أما الطفل شنودة، ففي النهاية لن يكون إلا ذبيحة قُدمت على مذبح الأحداث الدينية الطائفية في مصر، قُدمت وذُبحت إما لكي تفدي كل مَنْ هم في وضعه، والذين سيسيرون على دربه، حيث لا غفران للخطايا والمعاصي والقرارات العشوائية المضرة بخلق الله، ولا إصلاح يمكن أن يحدث للفرد والمجتمع إلا بعد تقديم ذبيحة، وخاصةً في أمر التبني في الإسلام، ولا سيما في مصر. وفي هذه الحالة، إذا ما أصلحت ذبيحة شنودة أمر التبني بصدور قانون يسمح للمسيحيين بالتبني في مصر وفقًا لشريعتهم الإلهية السماوية، شريعة الرحمة والمحبة ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأرض من إنجاب أطفال، فستكون ذبيحة شنودة قد أتت بثمارها، وإما أن تكون ذبيحة شنودة لم تأتِ بثمر، اللهم إلا بمزيد من الشوك والعداء والغدر والقتل بين المسلمين والمسيحيين، ويظل الحال كما هو عليه ويضيع هباءً شنودة وحقه في العيش الكريم مع أبوين أحباه وربياه صغيرًا، إلى أن أُخذ منهما، وعندها سيكون لشنودة عندما يكبر أن يفعل ما يريد لإيذاء هذا الوطن العبثي الفوضوي الذي لعب به وبمصيره وبمن ربياه صغيرًا وبالمسيحيين جميعًا فيما يختص بقضية تبنيه. أما الوضع الحالي، فهذا ما لا بد ألا يقبله المسيحيون والعقلاء من المسلمين على جميع المستويات الدينية والحكومية والمجتمعية.