ليس أصعب على طبيعتنا البشرية من سلب إرادتها نُصب أعينها دون القدرة على استرداد المسلوب أو حتى تعويضه بأي شكل كان، وليس أرهب من إرغامنا على ما لا رغبة لنا فيه دون التعبير نطقًا عما يدور بداخلنا تمردًا ورفضًا وعنادًا، فالإرادة هي الخلفية المعبِّرة عن وجودنا، وعدم التعبير عن وجودنا وكياننا هو الموت حيًا كما الحياة موتًا. قد تحتمل نفوسنا الصعب في سبيل الخير، وقد تستثقل أرواحنا حمل الألم واضعةً نظرها على طريق المجد، لكن أن تشاهد نهايتها دون نهاية وتستبصر موتها دون موت فهذه هي المعاناة عندما تستجلب من بئر التوجع كل مفردات التأوه تعذبًا والعذاب تأوهًا.
لكن استهجان ورفض زيادة المطلوب عما هو مطلوب وزيادة الحد عما هو محدد هو واحدة من قواعد الحياة وسنن الوجود التي يتبناها ويحتضنها كل إنسان يحمل قدرًا من العقل وشيئًا من الحكمة، فإن تستخف بالإرادة غير مكتفٍ بها في إبداء رأى ما، مخالفًا قاعدة الحق، سائرًا في قنوات غير شرعية لتحقيق ما ترغبه وتريده قهرًا وعنوةً واغتصابًا، فهذا ما يحمِّل الإرادة أكثر مما تحمله وتحيط به، ويعطي للإرادة ومفهومها بعدًا آخر يُخرِجها من دائرتها إلى أخرى، فتختلط بها بعض الشوائب لتصير ما من شأنه أن يُنتِج كمًا لا بأس به من الخصامات والتنازعات والمشاحنات، فتتحول فيه الإرادة تباعًا من فحواها، حيث تحمل المعنى الحقيقي للحرية، إلى الفظاظة والمشاكسة والمخالفة والعناد!!! فهل يوجد ما يتعارض فيه مفهوم الإرادة مع العناد؟!
الإرادة هي حرية التعبير والإبداء، والمعنى الحقيقي للإفصاح والإدلاء، وهي تحمل عند ظهورها إشراقة وجودنا وشمس المعنى الحقيقي للكيان؛ أما العناد فهو شيء من الإرادة مع قدر كبير من البغضة، وعندما تختلط الإرادة بالبغضة تصبح هي البغضة المريدة والإرادة المبغضة، فيتجلى التعنت والعناد في أردأ صورة وبيان.
الإرادة تصاحبها الأفعال والتغير لما يحقق الراحة للفاعل لما أنجزه من رغبة ضامرة وأمنية باطنة بالقلب، أما العناد فهو يرتكن إلى السكون والجمود لحراك الإرادة، بل يبقى ناظرًا إلى الشر ليتركه هو الفاعل والعامل والمؤثر والمستخدم، كلٌ في مجاله ودربه وطريقه وسبيله.
تنشأ الإرادة وتولد من باطن العقل في الذهن، وتتخذ من الفكرة وسيلة لاستعراض كينونتها الحية، فتشق وتعمل وتنجز لتُظهِر للغير طريقًا وعملًا وإنجازًا؛ أما العناد فهو يأخذ من الإرادة متكأً ومسندًا للوصول إلى نقطة بدء لهدف ما، ويعمل مستغلًا الأحداث فيظهر كحجر عثرة دون وصول الغير إلى مأربه أو مقصده.
الإرادة كائن حي ينشأ فينمو فيزداد فيتحول إلى أكثر صوره نضجًا ورشدًا وبلوغًا ليصبح العزيمة التي تصر وتتحدى وتعمل المستحيل وغير الممكن، أما العناد فهو كائن يحمل شيئًا من الحياة، لكنه يرتد متقهقرًا إلى صور أدنى نوعًا وأقل رتبةً إلى أن يقبع طريحًا جاثمًا قابعًا بين مثوى الفساد وعالم الجنوح والتلوي والانحراف.
الإرادة طائر دائم التحليق في فضاء الحريات وسماء الوجود الفاعل والمؤثر في كل ما يحيط به، ينشر أريج الحياة فيعبق أينما تواجد ويملأ الدنيا فكاكًا وعتقًا وتسريحًا، بينما العناد هو طائر كسير الجناح، يظل باقيًا في دورانه حول محوره، أسير فكره وأفكاره التي لا تعدو كونها فيروس دمار للعلاقات بل مرضًا عضالًا يستلزم دواء فعالًا.
الإرادة والعناد هما كلمتان قلما تم إدراك اتساع الفرق بينهما؛ يظنهما الكثيرون مرادفين لنفس الكلمة ووجهين لعملة واحدة، لكن حينما تجتمع نقاوة القلب المدرك وفراسة العقل الحاني معًا تدركان ما هو مغزى كل منهما؛ تجداهما الضيق والاتساع، الارتفاع والدنو، القوة والضعف، الغلبة والهزيمة، الإقدام والتقهقر، التقدم والقبوع، النهوض والانبطاح، التعافي والانطراح، البناء والدمار، الصرح والخراب.