ثقافة الموت وثقافة الحياة

9

العدد 47 أغسطس 2009
ثقافة الموت وثقافة الحياة

    عجبت لبعض تصريحات السيد وزير الصحة حول موضوع الاستعدادات التي اتُخذت فيما يتعلق بوباء أنفلونزا الخنازير، فمن ضمن ما قاله سيادته أن الحكومة مستعدة بمقابر جماعية في حالة انتشار هذا النوع من الأنفلونزا وزيادة أعداد الموتى، وكأن ما يشغل بال العباد هو طريقة دفنهم بعد وفاتهم بالوباء، وكأن هذا التصريح الخطير سيحل أزماتهم ويطمئن قلوبهم أن الحكومة مستعدة لدفنهم في حالة وفاتهم. ولاشك أن مثل هذه التصريحات الغير مدروسة من حيث التأثير النفسي علي سامعيها تزيد من حالة الخوف والاضطراب لدى الخلق وتفتح عليهم أبواب التخيلات فيما سيواجههم من موت وما بعد الموت من الدفن في مقبرة جماعية.

     وما أكثر المقابر الجماعية التي تعدها الحكومات لشعوبها، فهناك مقابر للأقباط تلقي فيها الحكومات بكل قبطي مغضوب عليه خاصة إذا كان من الأحرار الذين يطالبون بحقوقهم، وهناك المقابر الجماعية للأحزاب والمعارضة، ومقابر الشرف وتلطيخ سمعة الأبرياء والنزهاء، ومقابر للمتنصرين العابرين التائبين المؤمنين بالمسيح يسوع تبارك اسمه رب الحياة يدفنون فيها أحياء وإن خرجوا منها خرجوا بلا اسم أو هوية أو عائلة، بلا ماضي أو حاضر أو مستقبل.

    لقد دفعني هذا التصريح وغيره مما يشابهه إلي التفكير فيما وراء هذه التصريحات، لعل ما وراء مثل هذه التصريحات هو ما يعرف “بثقافة الموت وثقافة الحياة”. فبعض الشعوب والقبائل والأمم قد تربوا علي ما يعرف بثقافة الموت، أما بعضها الآخر فقد تربى علي ما يعرف بثقافة الحياة.

     وما أبعد الفرق بين هؤلاء وأولئك في طريقة التفكير، طريقة الاستمتاع بالحياة، وطريقة تناول المشاكل التي تواجههم، ويبدو هذا واضحاً في تصرف كل من الفريقين وردود أفعالهم تجاه كل ما يصادفهم في الحياة.

      ولعل تحذير المولى تبارك اسمه لأبوينا الأولين آدم وحواء أن لا يأكلا من شجرة معرفة الخير والشر التي كانت في وسط الجنة قديماً كان تحذيراً ليس فقط ضد سقوط الإنسان وتوارثه الطبيعة البشرية الفاسدة بل من أن يتعرض لثقافة الموت، ويتأثر بها ويتبعها بدلاً من الاستمتاع بثقافة الحياة تلك التي خلقهما المولى تبارك اسمه عليها للحياة بها.

     ولا شك في أن أهم المظاهر التي تُرى في أولئك الذين تربوا علي ثقافة الحياة هي حبهم للحياة، والتفكير في كل ما هو جميل ومسر وبناء، والعكس تماماً مع الذين تربوا علي ثقافة الموت.

     فالموت هو الشيء الرئيسي الذي يشغل بالهم ويخافونه وفي كثير من الأحيان يشل تفكيرهم عن الاستمتاع بالحياة.

     أنفلونزا الخنازير تهدد العالم كله، شأنها في ذلك شأن أي وباء آخر، لكن أولئك الذين تربوا علي ثقافة الموت هم الذين يعدون المقابر الجماعية للخنازير من قبل انتشار الوباء، وهم فقط في كل العالم من يميتون الخنازير ويدفنونها حية أو قل يحرقونها في مقابر جماعية، فحل المشكلات عندهم يبدأ بالموت لا بالحياة، فهناك فرق في أن يفكر المسئولون في كيفية إحياء الخنازير والتأكد من سلامتها وإمداد أصحابها بما يضمن لهم الطمأنينة في الحياة، وبين إعدامها وليذهب أصحابها إلي الموت بعد أن فقدوا رجاء مكسبهم فالحل في مقبرة جماعية تلمهم.

وثقافة الموت ترى أن حل المشكلات مع الغزاة أو المستعمرين أو حتى من يخالفوننا في العقيدة والرأي والدين هو تفجير النفس والسيارات المفخخة وقتل أكبر كمية من الكفار واليهود، ويتضح هذا جلياً في رد فعل بعض العامة في كثير من الأقطار الإسلامية رداً علي نشر الدانمارك لما أسماه المسلمون “الرسوم المسيئة الكاريكاتيرية لنبيهم”، خرج الناس في ماليزيا وإندونيسيا وغيرها يكسرون المحلات التجارية ويحرقون السيارات ويعتدون علي المارة الذين لم يكن من بينهم دانماركي واحد لكن جميعهم مسلمون، فما هو التفسير المقنع لهذه التصرفات؟ هو أن هؤلاء الناس قد تربوا علي ثقافة الموت.

     تتضح ثقافة الموت التي تربينا عليها والتي نعيشها في بلادنا العربية في الشرق الأوسط من طريقة تغيير أنظمة الحكم، فتولي نظام الحكم في بلادنا لابد أن يكون بانقلاب عسكري، أو القبض علي الملك أو الرئيس القديم وتولي آخر جديد، أو تفجير طائرة الرئيس في الهواء واتهام الأحوال الجوية بأنها سبب سقوطها، أو اغتيال الرئيس علي المنصة أو رئيس مجلس الشعب وغيرها. فثقافة الموت ترى أن الموت هو الحل الوحيد والنهاية الطبيعية لكل المشكلات. حتى أولئك الذين يهتفون للرؤساء والملوك العرب، تدل هتافاتهم علي تشبعهم بثقافة الموت، فالعبارة الشهيرة التي تهتف بها كل الشعوب العربية لحكامها هي بالروح والدم نفديك يا زعيم، وكأنه من المتوقع أن يموت هؤلاء الرؤساء بطريقة أو أخرى وأن الشعوب مستعدة أن تموت عوضاً عنهم، لم نسمع مثل هذه الهتافات من أية شعوب في العالم إلا من الدول العربية لأنها قد تربت علي ثقافة الموت وليس ثقافة الحياة.

     ثقافة الموت تقدس وتعظم القدرية والتواكلية، فالقضاء والقدر يحكم تفكير هذه الشعوب فكل ما يحل بهم من أمراض ومصائب وتجارب يواجهونها بالاستسلام والخنوع مؤمنين أنها من عند الله قد كتبها عليهم كتاباً موقوتاً وعلقها في أعناقهم ولا مفر منها، مع أن معظمها من عند غير الله، من أخطائنا وخطايانا وسلبيتنا.

     ثقافة الموت تجعل الناس دائماً تتوقع الأسوأ في كل شيء وتشكر المولى علي المصائب، فالمؤمنون أولئك إذا جاءتهم مصيبة قالوا إنا لله وإن إليه لراجعون، فمريض السرطان في الدول التي تربت علي ثقافة الموت بمجرد تشخيص مرضه تجد العائلة كلها جاءت من كل أنحاء العالم لتلقي عليه النظرة الأخيرة ويبدأ هو في التقوقع والاستسلام وتتوقف الحياة بالنسبة له ولمن حوله، أما مريض السرطان في الدول التي تربت علي ثقافة الحياة تجده يذهب إلي العمل حتى يومه الأخير، يحرص علي السير ويقبل علي الحياة ربما أكثر من غير المرضى، ومن المعروف أن نسبة موت المرضى بسبب هذا المرض من الذين يؤمنون بثقافة الحياة أقل كثيراً من نسبتها بين الذين يؤمنون بثقافة الموت.

     الإعاقات الذهنية أو الجسمانية أو النفسية عند المعوقين الذين يسيرون وفقاً لثقافة الموت، تجعل منهم عبأً علي أنفسهم وغيرهم وتحولهم إلي كم مهمل ينتظر الموت لينهي صراعه ومعاناته. أما المعوقين ممن يسيرون وفقاً لثقافة الحياة فتخصص لهم أماكن معينة للدراسة واللعب والمرح، أماكن معينة لإيقاف سياراتهم، أماكن مخصصة لهم في كل مؤسسة ورصيف في الشارع وحمام في البيت ليستمتعوا بحياتهم كما لو كانوا بدون إعاقة.

     ثقافة الموت تقطع الأشجار الخضراء وتجرف الأرض الزراعية وتطمس معالم النيل وتلقي به الحيوانات النافقة وتبني علي ضفافه ناطحات السحاب، تبني المدن السياحية الجميلة تحييها كأنها عروس مزينة لرجلها ثم تميتها في سنوات معدودات، أين هي معظم القرى السياحية التي بنيت في الساحل الشمالي اليوم مما كانت عليه وقت بنائها. أما ثقافة الحياة فتحافظ علي الورود والأشجار وتجرم قاطعيها حتى لو كانت ملكهم، تخلق من الصحراء الجرداء جنات تجري من تحتها الأنهار.

     ثقافة الموت لا تحترم الإنسان ولا الطيور والحيوان، فالطيور والحيوانات التي شاءت أقدارها العسرة أن تتربي في بلاد تتبع ثقافة الموت دائماً خائفة مطاردة تتوقع الهجوم ممن حولها فالعصافير لا تأتمن الإنسان والكلاب والقطط دائماً في انتظار عربة الكلاب، عجبت لهذا المنظر الجميل في بلد تطبق ثقافة الحياة، رأيت طفلاً وقد أمسك بيده بعض الحبوب الجافة فاجتمع إليه الحمام من كل صوب وفج. العصافير كانت تقترب من أصابعه لتلتقط الحب. الكلاب والقطط يأخذونها لمصففي الشعر ومدربي الحيوانات. عجبي!

     المتهم تحت تطبيق ثقافة الموت هو مدان حتى قبل محاكمته إلي أن يقدر أن يثبت براءته إن استطاع إلي ذلك سبيلاً، أما في ثقافة الحياة فالمتهم برىء وحر ومحترم حتى تثبت إدانته. تحت ثقافة الموت لا نعرف كيف نبتسم، وإن ضحكنا مرة في كل عام وضعنا أيدينا علي أفواهنا وقلنا لنفوسنا ومن حولنا “خير اللهم أجعله خير” وكأنه كتب علينا أن لا نضحك ولا نفرح فنحن نتوقع الشر في أوقات الخير، كما قال أهل قارون إن الله لا يحب الفرحين.

     إن الذين يمارسون ثقافة الموت تمتلأ حياتهم بالخوف من الموت وتوقعه كل حين ويعيشون في تصورات مما يحدث معهم في الآخرة من عذاب القبر والنار والملائكة المحاسبة والثعابين الزاحفة والرصاص المحمي لدرجة النار الذي يصب في آذانهم،كما تمتلأ حياتهم بالأمثلة والأقوال التي تربطهم بالموت أكثر من الحياة، هم دائماً يرددون عبارات مثل “الموت سترة”، “الموت علينا حق”، “كل نفس ذائقة الموت وأينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في قصور مشيدة”، تلك التي تقتل الأمل والإقبال علي الحياة وتدفع المرء إلي اليأس والفشل والاستسلام لسوء استخدامها مع أنها حكم لو وعيها الإنسان لنفع نفسه بها.

     ويحضرني الآن مثل عملي يدل علي اختلاف تفكير الفريقين، فريق الموت وفريق الحياة، فلقد ذهبت مع صديقي الذي كانت والدته قد لفظت أنفاسها الأخيرة في إحدى مستشفيات ولاية كاليفورنيا لنعد لدفنها في مثوى جسدها الأخير، كان صديقي في غاية الحزن والألم، ذهبنا للمكتب الذي كان سيقوم بإجراءات الدفن، قابلنا موظف أنيق قدم لنا الماء المثلج، أبلغناه بمأساتنا وطلبنا مساعدته، فتح الموظف درج مكتبه وأخرج لنا كراسة كانت تحتوي علي العديد من الأسئلة، والمفروض من خلال الإجابة عليها أن نكون قد وصلنا لاتفاقنا مع الموظف علي كل ما تحتاجه جنازة ودفن والدة صديقي، كانت هي المرة الأولى التي أتعرض فيها لمثل هذا الموقف. بدأ الموظف في الأسئلة، عن نوع الصندوق الذي نريده لدفنها، لونه، إن كانت قمته زجاجية مكشوفة أم خشبية، ما نوع القماش الذي سنلف فيه الوالدة، وما هي مواصفات القبر، هل هو قبر يحوي شخصاً واحداً أم شخصين، ثم سألنا هذا الموظف سؤالاً كان لابد لنا من الاستفسار عن معناه، سألنا الموظف هل تريدون القبر من قبلي أم بحري؟ قلت لنفسي ما هذا السؤال الغبي، ماذا سينتفع المقبور إذا كان قبره من الجهة القبلية أم البحرية، هل يتأثر بدرجة الحرارة، هل يتأثر بتيار الهواء أو رطوبة الجو؟ نظرت لصديقي وقلنا للموظف ولا مؤاخذة ماذا سيفرق مع المتوفى لو كان قبره قبلي أم بحري؟ ابتسم الموظف وقال بعض الأهالي احتراماً وحباً منهم لذويهم يصرون علي دفنهم في الهواء والنسيم العليل وكأنهم يدفعون لهم تشكراتهم علي ما بذلوه لأجلهم في حياتهم. قلنا لسعادته شكراً بارك الله فيك. ثم أكمل الموظف سؤالنا ما هي الورود التي تريدون أن تضعوها علي الميتة وأعدادها؟ في كل مرة كنت أستمع فيها لواحد من هذه الأسئلة كنت أنظر لصديقي المتألم ونكاد نبتسم لنوعية هذه الأسئلة إلي أن جاء السؤال الذي كان كالقشة التي قصمت ظهر البعير، سأل الموظف صديقي إذا كان يريد أن يضع ماكياجاً لوالدته أم يدفنها بدون ماكياج، وعندها لم نتمالك أنفسنا من الضحك بصوت عال كلانا، وقال صديقي للموظف “أنا جاي علشان أدفن أمي اللي ماتت مش علشان أجوزها، علشان تسألني علي الماكياج”؟ خرجت من مكتب الإعداد للجنازات وقلت في نفسي هؤلاء الناس يعيشون تحت مبدأ ثقافة الحياة حتى وهم يتعاملون مع الموتى.

     لقد ظهرت عبارات الحياة والحب والرجاء والأمل في تنزيل الحكيم العليم الكتاب المقدس أكثر بكثير من عبارات الموت واليأس والفشل. لقد قال السيد المسيح تبارك اسمه عن نفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة”، “أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حياً وآمن بي فلن يرى الموت إلي الأبد”. مكتوب عنه تبارك اسمه أنه لم يكن ممكناً أن يُمسك من الموت، وأنه أقامنا معه وأجلسنا في السماويات، قال أيضاً: “أنا حي فأنتم ستحيون” وخرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وأنا أعطيها حياة أبدية” وقيل فيه: “من له المسيح فله الحياة ومن ليس له المسيح ليست له الحياة. لم يسمح تبارك اسمه لبطرس تلميذه أن يستخدم السيف في الدفاع عنه، فالسيف آلة الموت لا يستعملها إلا من اختاروا ثقافة الموت في الدفاع عن أنفسهم، أو مهاجمة أعدائهم أو حتى من وضعوه كجزء من أعلامهم وثقافتهم.

     لم يوافق جل شأنه تلميذيه وانتهرهما عندما طلبا منه تبارك اسمه أن يسمح لهما باستنزال نار من السماء لتحرق مدينة للسامريين رفضوا استقباله وهو أكرم الأكرمين، فاستنزال النار علي الأعداء من أوضح الآلات المنفذة لثقافة الموت. لم ينتقم يوماً من عدو له، بقتله أو بالإيعاز لأحد أتباعه لقتله وتهنئته عندما فعل، وما شق يوماً مخالفاً لرأيه بين جملين أو شجرتين، فهذه كلها أساليب من استعذبوا العيش وفقاً لثقافة الموت.

     ما أطفأ يوماً  تبارك اسمه فتيلة مدخنة وما قصف قصبة مرضوضة لكنه نفخ في الفتيلة المدخنة فخلق منها نوراً ساطعاً يراه الناس فيمجدوا الآب الذي في السموات، وعضد القصبة المرضوضة فاستقامت واشتدت حتى صارت عكازاً يستند ويعتمد عليه الآخرون، هذا هو من عاش في الأرض وديعاً متواضعاً ينشر ثقافة الحياة بكل أشكالها، ويرفض ثقافة الموت بكل منطقها ووسائلها وصفاتها.

      أخيراً أقول لقد ترك المولى للإنسان حرية الاختيار حينما قال له: “قد وضعت أمامك الموت والحياة، اختر الحياة فتحيا” فقد تجسدت الحياة في المسيح من قيل عنه: “فيه كانت الحياة…”

     اللهم إننا نشكرك لأنك نقلتنا من الموت إلي الحياة، وأرسلت لنا في المسيح طوق النجاة، اللهم أنقذنا من ثقافة الموت واغرس فينا ثقافة الحياة وارحم من أضلونا من الأحياء وازرع في قلوبهم رحمة وحياء، واعف عنا واسمعنا يا أرحم الرحماء.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا