قيل إن الحرية تولد السلام. وفي خطاب الرئيس ريجان أمام البرلمان البريطاني في يونيو من عام 1982، أعلن أن الحكومات المؤسسة على احترام الحرية الفردية لا تضع قيودًا على السلام في سياستها الخارجية، ومن ثَمَّ أعلن أن الحرب لن تنشب من أجل الحرية ومن أجل الديمقراطية. وكذلك أعلن الرئيس بوتين أمام أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الدعوات المدعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان قد استعادت قوتها في كل مكان وشجعتنا على تأسيس عالم أكثر سلامًا وأكثر ثراءً. وسار كلينتون في هذا الاتجاه. ومن هنا، قيل إن الدول الليبرالية المستندة إلى حقوق الفردية مثل المساواة أمام القانون وحرية التعبير والحريات المدنية والملكية الخاصة كلها ضد الحرب. وعندما ينتخب المواطنون الذين يتحملون مسئولية الحرب حكوماتهم فإن الحرب تصبح أمرًا محالًا. وهكذا، يصبح المواطنون على وعي بفوائد التجارة ويستمتعون بها في زمن السلم.
وفي المقابل، ثمة أيديولوجيات أخرى تحث على خلق الديكتاتوريات. ومن هنا، تصطدم مع الشعوب. ويأتي موسوليني في مقدمة الرافضين الليبرالية عندما أعلن أنه يرفض السلام الدائم الذي كان يدعو إليه فيلسوف التنوير الألماني كانط. وهكذا، يكون لدينا متناقضان: الديمقراطية والديكتاتورية، ومن ثَمَّ يكون لدينا مسار من القومية إلى الديكتاتورية ومنه إلى اشتعال الحرب. ودليلنا على صحة هذا المسار هو موسوليني نفسه الذي كان يسخر من صناع السلام ويشتهي النضال الدموي. كما أن دليلنا أيضًا هو هتلر عندما ارتأى أن الحرب هي ثمرة علاقة حتمية بين أيديولوجيا النضال الدموي وقوة احتكار الدولة. ومع ذلك، فثمة فريق يرى أن السلام ممكن أن يتحقق مع دبلوماسية الديكتاتور الحكيم. ويأتي في مقدمة هذا الفريق الفيلسوف الإنجليزي هوبز الذي قال إن السلطة السياسية من واجبها الطبيعي عدم معاداة أسباب السلام من أجل الهروب من وحشية الحالة الطبيعية التي تعني حرب الكل ضد الكل والتي تنتج من المنافسة على سلع نادرة والخوف من أي هجوم، وبالتالي يلزم أن يكون من واجب السلطة السياسية المحافظة على سلامة البشر. وفي هذا السياق، قيل إن الديكتاتور الحكيم في إمكانه إنجاز هذه المحافظة، إلا أن ذلك القول ليس بالأمر الميسور. ولا أدل على ذلك من أن القومية وليست الديكتاتورية هي التي يمكن أن تكون كذلك. وكان الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو من أتباع هذا القول الذي كان يعني أن القومية الديمقراطية في سياق محكوم بما يسميه: الإرادة العامة. ومع ذلك، فإن الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ليس من أنصار هذا القول، إذ ارتأى أن الدول الليبرالية ليست بعيدة عن إشعال الحروب بدعوى أن الديمقراطية ومعها القيم الليبرالية ليست كافية لتحقيق السلام. وقد تبنى هذه الدعوة ثيوديدس من اليونان القديمة إلى ميكيافيللي من إيطاليا الحديثة. وفي هذا السياق، يلزم تناول ما يُسمى بالحرب الليبرالية، وهو الأمر الذي يلزمنا بفحص النظام الدولي، وفيه يكون المواطنون أفرادًا مستقلين وعقلاء وتكون الدول متسمة بالالتزام بالواجبات القانونية التي تولد الثقة المتبادلة التي هي لازمة لإجراء الاتفاقات الثابتة، ومن ثَمَّ تعيش الدول في سلام مع بعضها البعض إلا إذا واجهت حقوقها هجومًا مدمرًا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحدث إلا مع وجود مجرمين أو دول مجرمة. ومعنى ذلك أن النظام العالمي لا يحدث تلقائيًا بفضل المبادئ الليبرالية. وقد حاول الفيلسوف الألماني كانط ردم الفجوات في النظرية الليبرالية بإصدار كتاب عنوانه: «السلام الدائم» في عام 1795، حيث تكون الدول الليبرالية في سلام مع بعضها البعض وفي حرب مع الدول اللاليبرالية، ويكون مواطنو كانط أحرارًا ومتساوين وعقلاء.
ومع ذلك، يقال إن القرن العشرين هو أكثر القرون عنفًا في تاريخ البشرية، ولكنه عنف ضروري لإحداث التقدم. ومنذ الثورة الفرنسية، والمحدثون يرون أن العنف هو المولَد أو الداية باللغة العربية الدارجة، فالثورة الفرنسية منحتنا الإرهاب والمواطن المسلح. وفي هذا المعنى، ارتأى الفيلسوف الألماني هيجل من القرن التاسع عشر أن الإنسان مختلف عن الحيوان في أنه مستعد للموت في سبيل ما هو أعلى من الحياة. وقيل أيضًا إن الحرب الباردة هي المرحلة النهائية للحداثة. وقد نشأت الحداثة فيما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، وسمتها تقدم العلم والتكنولوجيا ونشأة الدولة الصناعية والحرب الحديثة. وأعني بالحرب الحديثة الحرب التي تقوم بين الدول وتديرها القوات المسلحة في سياق احتكارها العنف واحتكارها حدودها، ومن ثَمَ تقلص من حجم المتنافسين ومن التمييز الحاد بين ما هو حربي وما هو مدني وما هو عام وما هو خاص وما هو داخلي وما هو خارجي. ومن هنا، قيل إن الدول هي التي تصنع الحرب.
وبعد عام 1945، أصبح العالم عبارة عن دول منفردة، بمعنى أنه لكل منها عملتها الخاصة وقواتها المسلحة الخاصة. وكل دولة عضو في كتلة، ومن ثَمَّ يقال الغرب والشرق. وتتحدد فكرة الحرب لدى كل دولة بمشروعيتها السياسية، وأصبح الانتصار العسكري عسيرًا. وقيل عن العالم بعد ذلك إنه كوكبي، بمعنى الاعتماد المتبادل بين الدول وتقلص كل من الزمان والمكان بحكم تداخل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والطيران. وقيل إن العالم متجه إلى الوحدة، ولكن قيل أيضًا إن النزعة الحربية في القرن العشرين متميزة وأصولها تعود إلى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر عندما أصبحت الصناعة الخاصة تجري عقودًا حربية.