في عام 1995، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يكون هذا العام هو عام التسامح. وتمهيدًا لذلك أصدرت اليونسكو وثيقة عنوانها التسامح اليوم وزعتها على المشاركين في المؤتمر الفلسفي العالمي التاسع عشر الذي انعقد في موسكو في نهاية شهر أغسطس من عام 1993. والوثيقة عبارة عن جملة أبحاث حررها ثلاثة عشر فيلسوفًا. والذي دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى اتخاذ هذا القرار هو بزوغ النزعات العرقية بعد الحرب العالمية الثانية التي أفضت إلى شيوع روح التعصب.
والمفارقة هنا أنه مع نشأة البروتستانتية على يد لوثر الذي دعا إلى الإصلاح الديني اشتعلت الحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومن ثمَّ فقد كان من اللازم إثارة قضية التسامح وقد كان، إذ أصدر الفيلسوف الإنجليزي جون لوك رسالة عنوانها «التسامح» في عام 1689 وكان يقصد التسامح الديني بمعنى أنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية. ولهذا فإن فن الحكم يستلزم ألا يكون للدولة دين لأن خلاص النفوس من شأن الله وحده. ثم إن الله لم يفوض أحدًا في أن يفرض على أي إنسان دينًا معينًا. ثم إن قوة الدين الحق كامنة في اقتناع العقل، أي كامنة في باطن الإنسان. ومع ذلك فإنه بسبب الهجوم على لوك فقد انتهي إلى إصدار رسالة ثانية في التسامح في يونيو 1690، ورسالة ثالثة في يونيو 1692.
والرسائل الثلاث في مجملها تقرر أن العقل صفحة بيضاء وأن ما هو مكتوب فيه مصدره التجربة، وأن مواد هذه التجربة هي مواد يشتغل عليها العقل كما تشتغل عليها المعرفة، ومن ثم فإن المعرفة ذاتها ليست ثمرة الحواس، إنما هي ثمرة العقل أثناء ربطه الأفكار بعضها ببعض. ومن هنا كانت التجريبية عنده ممتزجة بعقلانية المعرفة. ومن هنا أيضًا يقال إنه من غير العقل فلن يكون لدينا سوى معتقدات. وإذا كان ذلك كذلك فمعنى ذلك أن المعتقد يفضي بدوره إلى الدخول في تناقض مع العقل أو بالأدق يفضي إلى عدم التسامح، أي إلى التعصب. ومن هنا التزم لوك بالبحث عن أسباب التعصب.
والرأي الشائع عن التعصب أنه على علاقة عضوية مع الاعتقاد. وعند الشكاك اليونانيين كان يقال على صاحب الاعتقاد إنه دوجماطيقي، وكان موضع سخرية لأنه يمثل امتناعًا عن إعمال العقل. ومن هنا نبتت عند لوك فكرة البحث في المعرفة فوضع رسالة في «العقل الإنساني» ثم أتم كتابه الشهير المعنون: محاولة في الفهم الإنساني في تسعة عشر عامًا. وهو مقسم إلى أربع مقالات: المقالة الأولى في الرد على النظرية القائلة إن المعاني مغروزة في العقل. فإذا كان الأمر كذلك لما كنا في حاجة إلى البحث عن الحقيقة بالملاحظة والتجربة. ومن هنا تأتي المقالة الثانية التي تبين الأصل التجريبي للمعاني ومن ثم إلى أن العقل في الأصل لوح مصقول لم ينقش فيه شيء، وأن التجربة هي التي تنقش فيه. والتجربة عنده نوعان: تجربة ظاهرة واقعة على الأشياء الخارجية، وتجربة باطنة واقعة على أحوالنا النفسية. وتأسيسًا على هذين النوعين دعا لوك إلى التفرقة بين نوعين من الكيفيات أي الصفات. الكيفيات الأولية مثل الامتداد والشكل والحركة ملازمة للأشياء في جميع الأحوال. أما الكيفيات الثانوية مثل الطعم والرائحة والحرارة والبرودة فلا علاقة لها بالأشياء في أنفسها. وقد أضاف لوك إلى هذه الكيفيات الثانوية مبدأ العلية الذي يعني في رأيه أن تعاقب الظواهر يخلق بينها علاقات في العقل تدفع إلى الاعتقاد بأنه إذا وضعت ظواهر معينة وقعت ظواهر أخرى محددة وضرورية. إلا أن هذا الاعتقاد زائف، لأنه من صنع العقل وليس من صنع الظواهر ذاتها. وذلك بسبب أن فلسفة لوك محكومة بالحواس والتجربة، و رفضها لكل ما يتعلق بما هو غير ذلك وهو ما يسمى علم ما بعد الطبيعة الذي أسسه أرسطو وظل متحكمًا به حتى العصور الوسطى. ومع استبعاد هذا العلم نشأ عصر النهضة ومعه نشأ إنسان عصر النهضة.
إلا أن هذا الاستبعاد لم يكن كافيًا، إذ كان مستندًا إلى موروث من الإنسان البدائي وهو ما يسمى بلفظ التابو، أي المحرم والذي يعني أن ثمة أشخاصًا أو أشياء غير حية قد عُزلت عن العالم وأصبحت مقدسة غير قابلة للنقد وإلا فالتعذيب أو الموت لمن يجرؤ على نقدها. ومن هذه الوجهة فإن التابو ينطوي على أمر مطلق بالمعنى السلبي، أي لا تقتل، ومن ثم فإن أساس التابو هو الفعل الممنوع. إلا أن التابو مع ذلك ينطوي على معنى إيجابي وهو أن التعصب هو النتيجة الحتمية لمفهوم التابو.
والتاريخ البشري يدلنا على صحة هذه النتيجة. في اليونان قديمًا كان العقل حرًا في التفكير في الكون كما يحلو له، وكان حرًا في رفض التأويلات التقليدية، وكان حرًا في البحث عن الحقيقة من غير تقييد من سلطة خارجية. ومع ذلك فقد أحيل الفيلسوف السوفسطائي بروتاجوراس إلى المحكمة بسبب تشككه في وجود الحقيقة، وكذلك أٌحيل سقراط إلى المحكمة للسبب ذاته. وفي العصر الوسيط كان التعصب سائدًا. فقد تعددت محاكم التفتيش في إسبانيا وروما وخليج إيبيريا والمستعمرات الأمريكية.
وفي هذا السياق وُلد العالِم الفلكي البولندي “كوبرنيكوس” في عام 1473 وأتقن علوم زمانه ولكنه آثر عليها علم الفلك الذي كان محكومًا في حينه بنظرية بطليموس القائلة إن الشمس تدور حول الأرض وبتأييد من أرسطو إلا أنه ارتأي أن ثمة تغييرًا مطلوبًا. فماذا فعل؟ ألّف كتابًا عنوانه: حول دوران الأفلاك، ولكنه كان جبانًا فتردد في نشره لأنه كان مرعوبًا من التعصب السائد، ومع ذلك فقد سمح بنشره واستلم نسخة منه وهو على فراش الموت.
العقل صفحة بيضاء وأن ما هو مكتوب فيه مصدره التجربة، وأن مواد هذه التجربة هي مواد يشتغل عليها العقل كما تشتغل عليها المعرفة، ومن ثم فإن المعرفة ذاتها ليست ثمرة الحواس إنما هي ثمرة العقل أثناء ربطه الأفكار بعضها ببعض