ويسألونك عزيزى القارئ عن أسباب انتشار سلوكيات الخبص والغيبة والنميمة والافتنان بصناعة الشائعات وفنون صياغاتها الماكرة الخبيثة الشريرة التي قد تساهم بدورها في نسج المؤامرات والتحايل على امتلاك القلوب والعقول بمعلومات مغشوشة عبر تسريبها بنعومة وبعبارات ملونة مصوغة برومانسية لا تخلو من دهاء.. فقل لهم بلا تردد هي سلوكيات سلبية كريهة تُعد في الغالب نتاجًا طبيعيًا لاعتماد مجتمعي للكثير من منتجات الثقافة السمعية..
لقد عانينا كمواطنين من رجع صدى تلك الثقافة التي تنزع نحو التزويق الشكلي وتعظيم الذات في آن واحد، فثمة ارتباط مظهري بين الثقافة الشكلية القشرية وبين دعاة التأليه والتضخيم الذاتي المرضي، وهنا تكمن مأساتنا بشكل حصري في مدى ما يحصده هؤلاء من مكاسب بضم أتباع جدد كل يوم من المخدوعين البسطاء بقشور معارفهم الزائفة.
إنها «ثقافة النقل الشفاهي» وهي ليست بالجديدة في مجتمعاتنا، فهي علل تناولها بالنقد والتوصيف أهل المعرفة والدراية بقضايا التنوير والرأي والكلمة حديثًا، فلطالما عانى المناخ الفكري لدينا من أهل ثقافة جلسات المقاهي ومتابعي برامج الراديو والتلفزيون ذات المواد الساذجة والأفكار المثيرة لعقول وأفئدة البسطاء منا، ومحل استهلاك زبائن حوارات التواصل الاجتماعي المزجنجية بما يفتكسونه من المداومة على طرح عناوين وبراويز ملونة لعبارات وصور لمشاهير يفاخرون بنشرها دون الغوص في متن المدركات الأولية لمخزون ثقافي متكامل لديهم.
في أزمنة الحضارات التاريخية الكبرى وفي الصدارة منها الحضارة المصرية القديمة، ومنذ بداية التاريخ الإنساني، كان حرص الإنسان البدائي هائلًا على التدوين والكتابة والرصد لكل ما يحيط به ويعيش وقائعه، ولعل من أروع الأمثلة على ذلك الرسوم التي أبدعها على جدران الكهوف من الداخل وهي التي سجل بها معاركه مع كل الموجودات في زمانه، منها صراعاته مع الحيوانات المفترسة، ورغم مشاعر الخوف والرعب التي كانت تمتلكه فقد حرص على رصد تفاصيل تلك المعارك على الجدران الداخلية لتلك الكهوف المظلمة تمامًا وبأدوات بدائية قام بتصنيعها ليبدع أجمل الأعمال التي اتسمت بروعة استيعابه قواعد وأساسيات علوم التشريح للجسم الإنساني، وكذلك أجساد الحيوانات، بل الأهم رسمها وهي في حالة الحركة السريعة وكأننا أمام مشاهد سينمائية متلاحقة، ولم يرصد أي دارس للفنون أي أخطاء حرفية في تلك الرسوم سوى ملاحظتهم في بعض الكهوف وجود رسوم فوق رسوم نتيجة العمل في عتمة حالكة!.
وها هي تلك الجداريات أمامنا الآن -بعد مرور كل تلك الآلاف من السنين- تنقل لنا بكل أمانة وصدق رسومًا هي أبجدية حروف قد تم فك شفرتها لتسرد لنا حكاوى حضارة بشرية مكتوبة ومرسومة رغم كل تلك الصعوبات، يقابلها الآن في واقع الأمم المتراجعة حضاريًا وإنسانيًا ثقافة الاستسهال إلى حد الاستهبال في بعض الأحيان باعتماد آليات العنعنة والنقل والاتباع دون إبداع أساليب جديدة للرصد والتقييم والتأريخ لتتماهى وتتواصل مع منجزات العصر الحديث من تقنيات أبدعها الغرب المتقدم حاليًا، لنقصرها على أهداف استهلاكية ساذجة لتبقى ثقافة الشفاهة تمثل حالة مخزية للأسف.
ولعل من أمثلة شيوع ثقافة الخرافة والقابلية لتصديقها، ما حدث في عدد من الوقائع التي لم يكن يناسب تناولها إلا أيام العصر الحجري، حين تحلق جمع هائل من البشر بجوار شجرة وصفها البعض بأنها معجزة ونسجوا حول بركاتها الحواديت!.
تحت عنوان «مصر في حاجة لثورة ثقافية» كتب المفكر عادل حمودة في جريدته الفجر غاضبًا مقاله بعناوين فرعية كرؤوس أقلام:
– فقراء ومتعصبون ولا ننتج ونميل للتسول ونؤمن بالخرافة.
– لدينا أكثر من ١٠٨ آلاف مسجد وزاوية و١٠ آلاف معهد أزهرى مقابل ١٤٠ جمعية ثقافية و٥٠ ألف قارئ سنويًا فقط.
– ٥ ملايين لاجئ من ٦٠ دولة يعيشون في مصر ويحولون مليارًا ونصف المليار دولار سنويًا إلى بلادهم بسبب تقاعسنا عن العمل.