حدث في رمضان

7

العدد 200 الصادر في مايو 2022

حدث في رمضان

لا شك أن كثيرًا من الأحداث التي تخص المسيحيين عادةً ما تقع وتجري أحداثها في رمضان من كل عام، وخاصةً تلك المتعلقة بالعنف والقتل وعمل موائد الرحمن. بعض هذه الأحداث يتكرر كل عام تقريبًا، منذ سنين هذا عددها، مع اختلاف طفيف في مكان الحدث أو القائمين به، ولا شك أيضًا أن بعضها يستجد ويختلف من عام إلى عام. والحقيقة أخذتني حيرة عند كتابتي لهذا المقال فيما يخص ترتيب كتابة الأحداث، فكلها أهم من بعضها، وكلها ينبغي أن تُذكر فهذا توقيتها، ولذلك قررتُ كتابتها دون قصد خاص في ترتيبها. ففي هذا العدد بالذات من جريدتنا “الطريق والحق”، أكتب فقط عن أهمها جميعًا، فعلى سبيل المثال لا الحصر:

أ- عيد القيامة المجيد:

أهنئ الشعب المسيحي في بلادنا الشرق أوسطية بعيد القيامة المجيد السعيد، وأصلي أن يختبر القريب والبعيد، المسيحي وغير المسيحي، قوة عمل قيامة سيد الأرض والسماء الرب، المخلّص يسوع المسيح، في حياته بطريقة روحية عملية إلهية، فلا يكون الاحتفال بعيد القيامة مجرد احتفال وذكرى وملابس وأكل وشرب وهدايا وغيرها من مظاهر العيد التي تعوَّدنا عليها جميعًا، وخاصةً في بلادنا المعروفة بالعربية، بل يكون عيد القيامة هو قبول واختبار شخصي لحقيقة القيامة، وخلاص وقوة وتحرير المقام من الأموات، له العظمة والسجود، في حياتنا اليومية، وليكن دافعًا قويًا لنحيا ما تبقى من الحياة لأجله، والتفاني في خدمته، وتوصيل كلمته للعالم أجمع من خلال الكرازة بالإنجيل للخليقة كلها. فكل عام وكل مَنْ اختبر خلاص وفداء المسيح المقام من الأموات لحياته بكل خير.

ب- العدد 200 من جريدة “الطريق والحق”:

نتقدم كمجلس تحرير جريدة (الطريق والحق) بكل الشكر والعرفان بالجميل لسيد كل الأرض، القادر على كل شيء، الساهر على كلمته ليجريها، المتسلط في مملكة الناس، الذي يقول فيكون ويأمر فيصير، على معونته لنا وتمكينه لنا من إصدار 200 عدد من جريدة “الطريق والحق” دون توقف حتى لعدد واحد، والحفاظ على كتابة كل ما يبني ويثقف ويعلم ويرشد أحباءنا القراء، وكل ما هو مفيد ونافع لهم بكل صراحة وجرأة وصدق وحرفية.

كما نتقدم بالشكر للأحباء والأصدقاء والقراء الذين لولا قراءتهم للجريدة وتفاعلهم معها ومشاركتها مع الآخرين لقراءتها لما كان ممكنًا أن تستمر الجريدة في الوجود، ولما كانت هناك أهمية لإصدارها وتحمُّل المتاعب المختلفة لإخراجها في أحسن صورة ممكنة. بارك الله فيكم جميعًا، وشكرًا لكم لأجل تعضيدكم المعنوي والروحي لنا.

وبهذه المناسبة، وكرئيس تحرير جريدة “الطريق والحق”، أتقدم بالشكر والعرفان بالجميل لكل العاملين والمحررين والكُتاب على مجهوداتهم المشكورة المستمرة في الكتابة والإخراج والإصدار والطباعة والتوزيع، وأخص بالذكر الدكتور ثروت صموئيل، مدير تحرير الجريدة، الذي رافق الجريدة لمدة 16 عامًا، منذ عددها الأول إلى العدد 200. نصلي طالبين بركة له وللعاملين معه وللقراء الأعزاء حتى مجيء الفادي.

ج- أما الحدث الثالث فهو مقتل القمص أرسانيوس وديد رزق، كاهن كنيسة العذراء بمحرم بك في الإسكندرية، والذي قتله مجرم سفاح منتمي لجماعة إسلامية متطرفة ومدفوع منها.

وباسمي، ونيابةً عن جريدة “الطريق والحق”، والعاملين والمحررين بها، نتقدم بخالص العزاء لأسرة القمص أرسانيوس ولكنيسته المحلية وللكنيسة العامة في مصر بكل طوائفها وشعبها.

لقد أعاد حدث مقتل هذا الكاهن العزيز الكثير من الذكريات الأليمة المشابهة التي واجهها العديد من الكهنة في مثل هذا الاعتداء الغاشم، بدايةً بغرق كاهن طحا العمودين الأب إبراهيم ميخائيل بسبب رعونة ضابط بوليس كان يقود العربة النصف نقل والتي أصر أن يأخذ فيها الكاهن وأحد العاملين معه بسبب بناء جزء من سور الكنيسة كان قد تهدم، ولم تنفع الطلبات والتوسلات للحصول على ترخيص لبنائه، حيث أصر الضابط على أن يأخذه بعد منتصف الليل لتحرير محضر له في قسم بوليس طحا العمودين، مرورًا بالقمص سمعان شحاتة الذي قتله مجرم أثيم وهو يسير في الشارع، وانتهاءً بهذا القمص الذي قُتل في الإسكندرية بتاريخ 7 أبريل الماضي.

أثار حادث مقتل القمص أرسانيوس وديد في رأسي العديد من الأسئلة والتي منها: هل لا تزال هذه الجماعات الإسلامية تؤمن بالعنف وقتل كل معارضيها تنفيذًا لأحكام دينهم كما يفسرونها هم؟ وهل لا يزال أعضاؤها يؤمنون أن القتل للذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر كما يؤمنون هو جزء من جهادهم وطاعتهم لوصايا الدين؟ هل لا يزال هؤلاء القتلة المجرمين يتخيلون أنه ستكون لهم هناك في الجنة “حور مقصورات في الخيام لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان” إذ هم قاتلوا وقتلوا النصارى؟ هل لا تزال هذه الأعمال الإجرامية تحدث في عصرنا هذا وأيامنا هذه المختلفة تمامًا عما كان عليه عصر سيادة الإخوان المسلمين على حكم مصر؟ هل هناك تزامن مقصود وغاية محددة من وراء حدوث معظم هذه الأعمال في شهر رمضان بالذات، بالرغم من أن هذا الشهر بالنسبة للأحباء المسلمين هو شهر الصوم والصلاة وختم قراءة القرآن لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا، وهو أيضًا شهر السهر والمرح والمجاملات وزيارة الأهل والأصدقاء وتناول الإفطار أو السحور معهم؟ فهل هناك رابط روحي حقيقي بين الحرب الروحية الدائرة في السماويات، والتي تظهر علاماتها على الأرض في كثير من الأحداث والأماكن والأعمال كالقتل والعنف ضد المسيحيين، وبين روح شهر رمضان بالذات؟ هل لا تزال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة تعالج مثل هذه القضايا كما كانت تعالجها منذ 50 عامًا وأكثر؟ فكل مسلم معتدٍ وقاتل لمسيحي هو شخص مختل عقليًا، حتى لو خطط بعقله المختل، وعرف كيف يختار بعقله المختل توقيت وميعاد وطريقة ومكان القتل وحَمَل السكين التي لا يؤذي بها نفسه ولا معاونيه، بل يقتل بها الآخرين. بالطبع المتوقع منه، كمختل عقليًا، أن يفعل أي شيء حتى ضد نفسه ليؤذيها، ومع ذلك فهو يتقن إخفاء السكين وتصويبها لضحيته، ويحدد مكان غرسها في رقبته، والتي يعرف أنها المكان الذي سيقضي على الكاهن بضربه واحدة، كما أنه يعرف كيف يتظاهر بأنه متسول يطلب حسنة من الكاهن. كل هذا ولا بد لنا كشعب مصري، ولا أقول كمسيحيين فقط، أن نقبل هذه الأكذوبة الشريرة، ونقنع أنفسنا بها مرغمين وأن نصدق أنه مختل عقليًا، وبالتالي لا يُحاسب على فعله. ولا بد للمسيحيين عندها ألا يثوروا أو يطالبوا بدم القتيل وبمحاكمة سافكيه، لأن القاتل مسكين، مختل عقليًا، ومَنْ يطلب أن يحاسب مختلًا عقليًا على فعله وتصرفاته يكون هو المختل عقليًا. فهل يستخف المسئولون عن الصحافة والإعلام المصري بعقول الناس وخاصةً المسيحيين لهذه الدرجة؟ لذا فنصيحتي لهم أن يجدوا طريقة أخرى يخاطبوا بها رجل الشارع العادي لأنه هو بيت القصيد، وإن لم تكن لديهم معرفة لإيجاد طريقة أخرى فإنني أنصحهم بأن يتبعوا طريقة البلاد المتحضرة الديمقراطية في التعامل مع مثل هذه الأحداث الإرهابية، وهذه الطريقة لن تضرهم أبدًا، وهي أن يصدر بيان رسمي أو أن يظهر في مؤتمر صحفي على التليفزيون عقب الحادث مباشرةً أحد المسئولين الكبار عن أمن مصر وأمانها، ويعلن بنفسه عن وقوع الحدث حتى لا يسمعه عامة الناس من الفيسبوك أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، فيشعرون أن حكومتهم تحاول أن تخفي وتغطي على الأخبار والحوادث لكنهم اكتشفوها بأنفسهم بطرقهم الخاصة، لأن هذا يفقدهم الثقة في حكوماتهم وإخلاصها في مدهم بالمعلومات المؤكدة والصحيحة أولًا بأول ويؤكد لهم أنها لا تحارب الإرهاب بالفعل. لذا لا بد أن يخرج هذا المسئول ويشرح ما يعرفه وما وصل إليه من تفاصيل الحادث، ويؤكد للناس أنه قد تم القبض على الجاني أو جاري البحث عنه إن لم يكن قد قُبض عليه بالفعل، ويؤكد أيضًا للناس أن جهاز الأمن بمصر سيعمل كل ما في وسعه لتعقب الجناة وعقابهم، وأن العدالة بكل تأكيد سوف تأخذ مجراها، وسيُقَدَم القاتل للقضاء، ولا بد أن يؤكد وقوف قوات الأمن ضد هذه الجماعات المتطرفة وتتبعها لهؤلاء القتلة، ثم في النهاية يطلب من الشعب الوقوف ضد هؤلاء العناصر المفسدة للمجتمع ومساعدتهم في إيجاد المتهمين، ويقدم خالص العزاء لعائلة وأهل وأصدقاء الفقيد وكنيسته والمسئولين عنها.

لكن من الملاحظ أن المسئولين لا يعملون شيئًا من ذلك كله، وقد لا ينشرون حتى مثل أخبار مثل هذه الحوادث في نشرة الأخبار، اللهم إلا إذا انتشر الخبر بسرعة كالنار في الهشيم حاملًا تفاصيل قد تكون صحيحة أو غير صحيحة لكنها في كلا الحالتين مضرة ومقلقة للسلطات، وإلا فإنهم يعتمدون على نسيان الناس للحوادث والأحداث مهما كانت فظاعتها، فالزمن كفيل بأن ينسى الناس كل شيء، وخاصةً إذا اختار القتلة التوقيت الصحيح لقتل ضحيتهم في رمضان، حيث انشغال الناس مسيحيين ومسلمين بالاحتفالات والمسلسلات الرمضانية والتي قد تكون السبب وراء هذا القتل للكاهن بشكل خاص هذا العام، فالجماعة التي يتكلم عنها مسلسل “الاختيار 3” ربما خططت لكي ترد على الإعلام المصري بعمل دموي واضح لا بالكلام فقط، وأرادت أن تلفت نظر الناس وتقول لهم: “لا تصدقوا ما ترونه في هذا المسلسل، فنحن لا نزال موجودين في مصر، ونمارس خططنا فيها وفي العالم أجمع، ونستطيع أن نغتال كاهنًا في وضح النهار، وأن نضرم النار في الكنائس، ونختطف البنات المسيحيات ونزعج الأمن العام تمامًا كما كنا نفعل في أيام حكمنا لمصر. نحن لم نختف من الأرض كما تظنون وكما يحاول المسئولون أن يقنعوكم، فالحرب بيننا وبين حكوماتنا باقية وقائمة منذ أن أطلقنا الرصاص على عبد الناصر في حادث المنشية ولن تنتهي، فالحرب سجال، مرة لنا ومرة علينا، فعين بعين، وسن بسن، ورجل برجل، وكسر بكسر، والبادئ أظلم.”

د- أما آخر ما لا بد أن أكتب عنه مما حدث في رمضان فهو انضمام كثير من رعاة الكنائس، المشهورين، كبار السن والخبرة، للقيام بنفس الأمر الذي كتبتُ عنه محذرًا في عدة مقالات سابقة وخصة في مقال سابق بعنوان “تشويش”، وهو تجاهل القادة الروحيين للكنيسة وجل قسوسها، وعدم الربط الروحي بين الحرب الروحية التي تدور في السموات وبين ما يحدث من شرور على الأرض، تلك الحرب الروحية وصراع السماويات التي قال عنها كتابنا الموحى به والمنزَّه عن كل باطل: “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم، على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات”. يتجاهل القادة تأثير هذه الحرب على كنيسة الله في مصر، وبالتبعية على الكنيسة في البلاد العربية جمعاء، من خلال الاشتراك في أعمال الظلمة غير المثمرة، من أعمال جسدية خيرية حبية يبدو أنه لا غبار على ممارستها لكنها مرتبطة بممارسات روحية حسب تقييم السماء لها، كعمل موائد الرحمن في رمضان في بيوتنا وكنائسنا وقاعاتنا، والذي لا بد معه من صلاة مَنْ يخالفوننا في العقيدة والدين، وفي ما علَّمه لنا سيد الأرض والسماء المسيح يسوع تبارك اسمه، وتممه على الصليب بنفسه، صلاتهم في كنائسنا ودور عباداتنا وفوق منابرنا. والمصيبة الأكبر أن يشترك كبار القادة والقسوس، سنًا وخبرةً ووظيفةً وكراسي وشهرة ومقامًا كما يتخيلهم البعض، في مثل هذا العمل، ناسين أو متناسين أن ما يعملونه سيشجع الأجيال المعاصرة لهم والقادمة بعدهم على عمل نفس الشيء، لثقتهم في كبارهم ومسئوليهم ومحبتهم لهم وتمثلهم بهم في كل شيء. والعجيب أنه من بين أولئك الذين قاموا بهذا العمل في هذا العام قس صديق مخلص يعلِّمنا على الفضائيات كيف نفهم أصعب الآيات في الكتاب المقدس، ولذا سأكتفي بأن أطلب منه أن يتكرم ويشرح لنا في برنامجه الآيات الصعبة وعسرة الفهم، على الأقل بالنسبة لي، والواردة في رسالة يوحنا الرسول الثانية والإصحاح الأول والأعداد 7 و10 و11، مذكِّرًا إياك بأن مَنْ كتب لنا هذه الآيات التالية هو رسول المحبة، يوحنا الحبيب، فهو ليس متطرفًا ولم يكن يومًا منتميًا أو قائدًا أو مؤسِسًا لجماعة متطرفة تكره الذين يخالفونها في الدين أو القناعات الروحية، تلك الآيات التي نصها:

“لأنه قد دخل إلى العالم مضلون كثيرون، لا يعترفون بيسوع المسيح آتيًا في الجسد. هذا هو المضل، والضد للمسيح.” (2يو1: 7)

“إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا تقولوا له سلام. لأن مَنْ يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة.” (2يو1: 10-11).

ألم يحذِّرنا رسول المحبة هذا نفسه من أن نصدق كل روح فنشترك، حتى وإن كنا مخلصين، مع أعداء صليب المسيح، في أي عمل مشترك؟ فكم وكم لو أعطيناهم أماكن في كنائسنا وعلى منابرنا تصلي لروح ضد المسيح، وتعلن كل ما هو مخالف لأقوال المسيح وتعاليمه؟ ألم يكتب لنا الروح القدس في رسالة يوحنا الأولى والإصحاح الرابع في الأعداد من 1 إلى 3 ما نصه:

(1يو4: 1) “أيها الأحباء، لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم”.

 (1يو4: 2) “بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله”.

 (1يو4: 3) “وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم”.

ولعل خير ما أختم به مقالي هذا هو أن أعيد نشر نفس القصة التي نشرتها سابقًا على صفحات جريدتنا “الطريق والحق” والتي لا تزال منشورة في أرشيف الجريدة في مقال بعنوان “تشويش”. كتبتُ يومها:

لا أدري لماذا تركتُ لنفسي العنان في التفكير والتخيل، وتخيلت أن المسيح تبارك اسمه قرر أن يزور ميدان التحرير في رمضان متخفيًا حتى لا تزحمه الجموع. كانت زيارته في ليلة الخميس، وقبل أن يحين وقت الإفطار بساعة كاملة، نزل تبارك اسمه للميدان المكتظ بالناس؛ الكل مشغول بإعداد المكان للإفطار، الكل يسرع الخطى ويتعجل الترتيبات، فدقائق وينطلق مدفع الإفطار. بدأ الناس يتوافدون من كل صوب وفج؛ الأعصاب مشدودة، والبطون خاوية. اقترب السيد من جماعة يجلسون على طاولة يتطلعون للطعام المُعَد أمامهم. قال لهم: “سلام لكم.” لم ينتبه أحد لكلمات السلام، فعند الجوع وانتظار تناول الطعام بعد يوم حار من الصيام، لا يدقق الناس فيما يقولون أو يسمعون. أجاب الحضور: “سلام ورحمة الله وبركاته، اتفضل يا أخي المسلم. نحن جميعًا في ضيافة الرحمن. صوم مقبول بإذن الله.” الميكرفونات المعلقة في الميدان بدأت في إذاعة القرآن، كما هي العادة قبل انطلاق المدفع والإذن بالإفطار. لفيف من المسيحيين الحقيقيين المحبين جاءوا بالطعام لإخوانهم المسلمين، التقت عيونهم بعيني السيد، التهبت قلوبهم داخلهم، نظروا إليه وكأنهم يعرفونه من عشرات السنين. قال أحدهم للآخر: “هل تعرف هذا الشخص؟ يبدو أنه مختلف. أنا متأكد أنني قابلته قبل اليوم.” نظر إليهما المسيح وقال لهما: “من أين أنتما؟ ولماذا جئتما إلى هنا؟” نظر أحدهم للآخر وأكدا لبعضهما البعض بنظراتهما أن كلًا منهما قابل هذا الشخص قبل اليوم، فحتى صوته ليس غريبًا عليهما. أجاب أحدهما: “نحن شباب مسيحي قررنا أن نأتي ونخدم إخواننا المسلمين، ونظهر لهم محبة المسيح ونطعمهم بعد يوم من الحر والجفاف والصوم.” علا صوت مكبر الصوت “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.” بكى يسوع، اقترب منه الشابان يواسيانه: “لماذا تبكي؟ إحنا في أيام مفترجة، كل سنة وأنت طيب، صوم مقبول وربنا يعود عليك الأيام بخير.” سألهما يسوع: “ما رأيكما فيما تسمعان؟” أجاب أحدهما: “هذا ما يؤمن به أحباؤنا المسلمين.” قال يسوع: “وأنتما ماذا تقولان عن المسيح؟” نظر الشابان بعضهما لبعض وقال أحدهما: “هذا ليس وقته ولا مكانه. نحن في مهمة محددة، ولا يصح لنا أن نتحدث في الدين. الوقت غير مناسب.” أجاب يسوع: “أليس مكتوبًا في كتابكم: “وبخ وانتهر وعظ، اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب؟” أجابه أحدهم: “مَنْ أنت؟ هل أنت مسلم أم متنصر أم مسيحي؟” أجاب يسوع: “مكتوب عني: رئيس هذا العالم قد جاء وليس له في شيء، تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون.” كان الشابان يسمعانه في قلوبهما، وأنظارهما تتعلق به. يضرب المدفع، ويسارع الجميع بإلقاء الطعام في أفواههم. المسيح ما زال يبكي. تسمر الشابان في مكانهما. سألاه: “لماذا لا تأكل؟” أجاب: “إن لي طعامًا آخر ليس من هذا العالم. يا قاهرة يا قاهرة، كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك أنتِ أيضًا، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولكنك لم تريدي؟” ثم التفت إلى الشابان وقال لهما: “أما أنتما فاعملا للطعام الباقي لا للطعام البائد للحياة الأبدية. اذهبا للعالم أجمع واكرزا بالإنجيل للخليقة كلها. مَنْ آمن واعتمد خلص، ومَنْ لم يؤمن يدن. اذهبا وقولا لكنيستي: “أنا آتٍ سريعًا وأجرتي معي، وسأجازي كل واحد حسب عمله، فهوذا الفأس قد وُضِعت على أصل الشجر، كل شجرة تصنع ثمرًا أنقيها لتأتي بثمر أكثر، وكل شجرة لا تصنع ثمرًا تُقطع وتلقى في النار.” انفتحت أعين الشابين وعرفاه، لم يدعهما يلمساه واختفى يسوع. نسي الشابان عملهما على موائد الرحمن، ورجعا إلى كنيستهما وقالا لقادتهما: “لا يصح لنا أن نخدم موائد، فقد قال لنا: “اذهبا واكرزا بالإنجيل”، ولم يقل لنا: “ساهما في تغييبهم وإبقائهم على صلاتهم وصيامهم وطقوسهم، لا هم ولا غيرهم من أمثالهم حتى من المسيحيين أنفسهم.” أفقتُ من تخيلاتي وقررتُ أن أضاعف صرخاتي لهذا العالم المسيحي الأصم والمشوش، محذرًا إياهم من أعمالهم وقناعاتهم التي تقلدوها من أرواح الغي والتدين.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا