“الدستور جُعِلَ لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل الدستور”
عندما بدأ الحديث عن تغيير بعض مواد الدستور المصري الحالي في الأيام القليلة الماضية، لا أدري لماذا قفزت إلى عقلي الآية الكتابية المسيحية الكريمة، التي نطق بها السيد المسيح يسوع تبارك اسمه، والتي نصها “السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت”.
أما لماذا هذه الآية بالذات ربما لتطابقها مع فكرة التعديل للدستور المصري الذي بين أيدينا، مع ملاحظة عدم مقارنتي للآيات الكتابية بأي موقف أو حدث أرضي مهما كان، فما ذكر آيات الله البينات سوى للتعلم والاتعاظ والهداية بها إلى سواء السبيل.
أما أسباب تدوين الآية الكريمة سابقة الذكر، فحدد لنا كتاب الله، الكتاب المقدس، تفاصيلها إذ يقول: “اجتاز (يسوع) بين الزروع. وكان تلاميذه يقطفون السنابل ويأكلون وهم يفركونها بأيديهم. فقال لهم قوم من الفريسيين: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟ فأجاب يسوع وقال لهم: أما قرأتم ولا هذا الذي فعله داود، حين جاع هو والذين كانوا معه؟ كيف دخل بيت الله وأخذ خبز التقدمة وأكل، وأعطى الذين معه أيضًا، الذي لا يحل أكله إلا للكهنة فقط، وقال لهم: إن ابن الإنسان هو رب السبت أيضا”. وهنا يذكر السيد المسيح – تبارك اسمه- للكتبة والفريسيين الذين كانوا حوله، الأساس في الأمر هو فائدة الإنسان وخيره، عندما لاموا تلاميذه – تبارك اسمه- على أنهم يقطفون سنابل القمح في يوم السبت، ويأكلونها بأيد غير مغسولة، الأمر الذي فهمه الفريسيون أنه “لا يحل لهم” أن يعملوه في يوم السبت، حيث أنهم كانوا قد تسلموا الناموس على يد موسى كليم الله، وكان الناموس يتضمن وصية واضحة من الوصايا العشر وهي “اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم. من دنسه يقتل قتلاً. إن كل من صنع فيه عملاً تقطع تلك النفس من بين شعبها”. وكان نتيجة نزول هذه الآية أن اليهود كتبوا مجلدات في تفسيرها، وقيدوا أنفسهم بقيود لم يقيدهم بها سبحانه وتعالى، وأصبحت الوصية والآية لحفظ يوم السبت بالنسبة لهم هدفًا في حد ذاته لا وسيلة ليستريح الناس من أعمالهم وأشغالهم وأتعابهم في اليوم السابع، يوم السبت، وأصبح التمسك بحرفية كلمات الآيات ونصوصها وأسباب نزولها، وهي الدستور المنزل المكتوب، أهم من تنفيذ روح الوصية وليس فقط حرفيتها، بالرغم من تحذير كلمة الله تعالى لهم في قوله تعالي: “لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي”. والكلام هنا عن التطبيق الحرفي لوصايا الله دون الاعتماد على روحه تعالى في فهم وتطبيق الحرف، وعليه فعمل الخير وشفاء الناس ومساعدة المحتاجين والمسؤولين عن الحكومة لتأدية عملهم بأكثر إتقان حتى في يوم السبت وتعديل الدستور مباح ومشكور، في حالة واحدة إن كان هذا هو بالحقيقة الهدف الأكيد والوحيد لتعديل الدستور المصري. أما إن كانت هناك أهداف أخرى غير معلنة كتلك المتداولة بين الكواليس غير مصلحة الأمة ومساعدة الغلابة والمساكين من شعبنا العظيم وإعلاء شأن مصر والمصريين بين العالمين، فعندها سيصبح المساس بالدستور جريمتين، جريمة التغيير والتعديل والعبث بالدستور في حد ذاتها، وجريمة النوايا الخفية التي لا يعلمها ويحاسب المرء عليها إلا علام الغيوب يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وبالطبع، فكعادة المصريين عند طرح أية فكرة جديدة، لابد أن تحتد وتتصادم آراء المصريين، بين مؤيد ومعارض، من يرى أنها مصيبة كبرى أن يتم تعديل الدستور، فهو في شرعهم القرآن الذي ينبغي أن يقبله الجميع، ويسير على نهجه وحرفية كلماته الجميع، مسلمين وأقباط ولا دينيين، ولا مبدل في عصرنا لكلماته من البشر مهما كانت الظروف والأحوال والضرورات لتعديله، بالرغم أنه ليس منزلاً من عند رب العالمين، وبالرغم من عدم اقتناع الكثيرين به، وخاصة المسيحيين، منذ اليوم الأول لوضعه وحتى بعد استفتاء الشعب وموافقتهم عليه، بحسب ما أعلن عن نتائج صندوق الانتخابات أو الاستفتاءات أو الموافقات، ويرى الغالبية العظمى من المثقفين الفاهمين ببواطن الأمور، ومعهم المغرضون الذين يرفضون التعديل لعلة ما في نفوسهم، والمغيبون الذين يمشون مع التيار بغض النظر إلى أين سيأخذهم هذا التيار، يرون جميعًا كل لأسبابه الخاصة، إنه رجس من الشيطان وإثم كبير أن يتم تفصيل بعض مواد الدستور حسب الحاجة لمصلحة شخص بعينه، أو حتى لفائدة الناس جميعًا، أو حسب ما تراه رئاسة الجمهورية المصرية، ولكن على الجانب الآخر، يوجد من هم أمثالي، الذين يرون أن الدستور المصري الذي يحوي من بين مواده أن مصر دولة إسلامية، وأن الإسلام هو دين الدولة، ويضرب بعرض الحائط، ويتجاهل ديانة أصحاب الأرض الأصليين، يكون مثل هذا الدستور وأمثاله دساتير باطلة من الأصل، ومبنية على الباطل، وكل ما هو مبني على الباطل فهو باطل، حتى لو كان القصد منه حق، فهؤلاء حيث أنه لا يهمهم الدستور الباطل في شيء فهم يرون أن “الدستور جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل الدستور”، لذا فلا مانع لتغييره أو تعديله أو تصحيح بعض مواده ما دام هذا الأمر سيأتي بفائدة للإنسان المصري وتلبية لاحتياجاته الملحة والتي تتطلبها المرحلة والحالة الراهنة في البلاد.
وهناك فرق في أن يكون الاعتراض على تغيير أو تعديل الدستور نابع من قلوب وعقول أغلبية الشعب المصري احترامًا للدستور ومحاولة لحفظه من أي عبث أو إفساد فحسب، وهذا أمر يمكن فهمه والاقتناع به بسهولة وتوجيه المخلصين المؤمنين به إلى القرار السليم، أو أن يكون السبب الرئيسي للاعتراض والاحتجاج والاختلاف حول تعديل الدستور نابع من كون التغييرات المقترحة تشمل مد فترة رئاسة رئيس الجمهورية المصرية، ابتداء من رئيسنا الحالي، واصطدام الساسة والكُتاب والمفكرين مع هذا المطلب.
والحقيقة التي لا يجب أن تغيب عن أعين الأقباط، أي الأقباط عقائديًا والأقباط بمعنى المصريين، أن عليهم أن ينظروا لأمر تعديل الدستور بنظرة مختلفة عن الأقباط المسلمين، أي المصريين المسلمين، ولا ينبغي أن يحدث أي فرق معهم ولا يهمهم في كثير أو قليل إن بقي الدستور على ما هو عليه أو لم يبق، وذلك للأسباب التالية:
1) فمصر لم تعد، كما كانت في القديم ولن تكون في يوم من الأيام، بلد الأقباط منذ أن فتحها واحتلها غزاة مكة، ودخلوها ضد إرادة الله آمنين، ونهبوا خيراتها وشردوا أهلها وربطوهم بالعصى خلف رقابهم، حتى أزرقت فأطلقوا عليهم أصحاب “العظمة الزرقاء”، وأقصوهم بعيدًا عن ديارهم ومساقط رؤوسهم وقطعوا، فعلاً ألسنة كل من تجرأ للحديث منهم باللغة القبطية، لغة البلاد والمسيحيين في ذلك الوقت، بحسب ما جاء برسالة دكتوراه للدكتورة سناء المصري تحت عنوان “حكايات الدخول”، التي حصلت بها على درجة الامتياز من جامعة القاهرة المصرية، الكتاب الذي تمت مصادرته حيث أنه اعتبر مهيجًا للمسيحيين والفتنة النائمة الملعون من يوقظها. وبالطبع حدث كل هذا بسبب تقاعس الأقباط، وعلى رأسهم قياداتهم الكنسية يومئذ، يوم الدخول، وعجزهم عن طلب المعونة السماوية، فوق الطبيعية، والنصرة الإلهية لصد المعتدي الزاحف لفتح بلادهم، وتقاعسهم عن الدفاع عن أنفسهم وأولادهم وممتلكاتهم، وفرار القسيسين والرهبان إلى الأديرة والمغاير والشقوق، فمن فقدوا بلادهم كلها، وفقدوا كونهم مواطنين أصليين كاملي الأهلية، وتركوا الوافدين على بلادهم يحددون لهم، بالدستور، ماهية ديانتها هل يهمه بعد كل هذا دستورها في شيء، إن كان دستورًا منصفًا لهم أم لا، وإن كان يجب أن يوافق على تغيير الدستور من عدمه، ألا يشبه هذا الأمر اليوم ما قالته أسماء بنت أبي بكر، وكانت ذات المائة عام يومها، قالت لابنها عبد الله بن الزبير، عندما أعلن لها عن خوفه من أن ينكل الأعداء، بني أمية، بجثته إذا حاربهم ومات بالقول: “يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني.
عندها قالت أسماء بنت أبي بكر قولتها الشهيرة: يا بني “لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها، فامض على بصيرتك واستعن بالله”. وعلى نفس هذا المقياس والمنوال، يبقى سؤال يحتاج إلى إجابة، ألا وهو: إذا سرقت واغتصبت منك أمك في وضح النهار، فهل سيصبح شغلك الشاغل بأي قانون أو دستور سيعاملها الخاطفون، ألم يعلمونا في القديم ونحن أطفال صغار أن:
مصر هي أمي،
نيلها جوى دمي،
شمسها في سماري،
شكلها ف ملامحي،
حتى لوني قمحي،
لون خيرك يا مصر؟
فهل مصر الحالية هي أمي؟ هل سيسمع لي أحد أو ينصفني إذا حاولت الدفاع عن أمي ضد مغتصبيها، حتى لو طلبت فقط اعتباري مواطن متساوي في الحقوق والواجبات؟، هل يمكن أن يتعدل الدستور لينص على أن “دين الدولة الإسلام والمسيحية” بدل من الإسلام فقط وبها أديان أخرى، فبأي قانون أو دستور سيسمحون لي بالدفاع عن أمي مصر وعن أهلها؟
٢) الأمر الثاني الذي لأجله ينبغي على الأقباط أن يكونوا في منتهى الحذر والانتباه عندما يأتي الأمر لتغيير أو تعديل الدستور، هو أنهم لابد أن يعرفوا حجمهم الحقيقي، وليس ذاك الذي يتخيلونه هم عن أنفسهم، أو ما يحاول أن تقنعهم به القيادات السياسية وفقًا للموقف ومدى الاحتياج إليهم في مناسبات مختلفة، فلقد كتبت أكثر من مرة وفي عدة مقالات، أن ما الأقباط في مصر والعالم أجمع إلا رمانة الميزان التي تحافظ على توازن القوى والمؤثرات في الشارع المصري، وبالتالي فهم ليسوا وزنًا خاصًا قائمًا بذاته ينبغي أن يوضع في الميزان أولاً، وفي كل وقت وكل الظروف على اختلافها، وما أبعد الفرق بين الاثنين!، فالوزن الأصلي القائم بذاته يوضع أولاً في الميزان ويعمل حسابه تمامًا في عملية وزن أي حدث أو مطلب مصري، وبعدها يتم التعامل مع بقية الأوزان، أما رمانة الميزان فهو الثقل الذي يوضع في الحسبان في آخر الوزن تمامًا، فقد يوضع أو لا يوضع من الأصل حسب الاحتياج له. فأي تأثير لقطاع من الشعب لا يتعدى عدده الـ١٧٪ وفقًا لإحصائيات غير رسمية بعد أن سافر الكثير منهم إلى خارج البلاد، وقد تمكن منهم اليأس من إمكانية الإصلاح المجتمعي، فعاشت الغالبية العظمى المتبقية في مصر في حالة من اللامبالاة والتخدير الجماعي.
٣- على الكنيسة بكافة طوائفها أن تدرس، كجماعة واحدة، الموقف الراهن من كل جوانبه، القومي، والأمني، والمجتمعي، والروحي، وأن تدرك أنها مؤسسة أو جسد روحي واحد ليس إلا، ومن المفروض أنها جماعة روحية مرتحلة ومتغربة، كما هو التعريف لكلمة كنيسة، ولذا يتحتم عليها بالتبعية أن لا يكون لها كجسد روحي واحد موقف خاص، لا من رئيس أو مرؤوس أو رئاسة، لذا فعلى رياساتها وكهنتها أن لا يستغلوا مناصبهم ومكاناتهم في قلوب الناس وبرامجهم التليفزيونية في الانحياز إلى الفريق المؤيد أو المعارض لتعديل الدستور، وعلى الكنيسة أن تعلم أن الفضائيات المسيحية والبرامج الدينية المذاعة عليها لا يدخل ضمن خدمتها أو صميم عملها أن تشجع سامعيها ومشاهديها على الانحياز لرأي بعينه، ولا يصح أن يعلن كاهن مبارك ذائع الصيت عن موقفه في كنيسته، وعلى الهواء مباشرة، من إعادة تعديل الدستور ويطالب بأن تمد مدة تولي رئيس جمهوريتنا المصرية منصبه إلى آخر حياته على الأرض، ثم يقول هذا رأيي الشخصي، فمع احترامي الكامل ومحبتي الشديدة للأب القمص مكاري يونان، إلا أنني أرى أنه ليس من حقه، أو يليق بمكانته، أن يستغل البرنامج الخاص به في المطالبة بتعديل الدستور ومد مدة تولي رئيس مصر الحالي إلى نهاية أجله على الأرض، فالرأي الشخصي لا ينبغي إذاعته على الملأ في الفضائيات، والرأي الشخصي لا يذاع من منبر كنيسة حتى لو كان إجابة على سؤال من أحد الحاضرين، وإلا أعتبر هذا رأي إدارة الكنيسة ككل، وحيث أنه من المعروف أن لا آراء شخصية ينبغي أن تلقن للرعية وخاصة في مجال السياسة والتعامل مع الدولة دون موافقة من كبير الطائفة الأرثوذكسية، لذا تصبح هناك الكثير من علامات الاستفهام والتعجب لما قاله الأب مكاري، في اجتماعه الأسبوعي، والحقيقة إنني لست أظن أن الأب الموقر القمص مكاري، قد فكر في العديد من الأسئلة التي ملأت رأسي عندما سمعت ما صرح به عن تعديل الدستور ومد مدة رئاسة الرئيس السيسي، مدى الحياة، فمثلاً هل تريد يا كاهن الله العلي أن تمتد مدة رئاسة كل رؤسائنا إلى مدى حياتهم أم أنك تخص رئيسنا الحالي فقط بهذا التعديل؟، وهل إذا قمنا بتغيير الدستور وجعلنا مدة رياسته لمدى الحياة هل لابد من تغيير الدستور مرة أخرى لمن يجئ بعده؟، أطال الله عمره، أم نتركه هو الآخر ليرأسنا مدى الحياة؟، وماذا لو لم يمش من يأتي بعده على خطى رئيسنا السيسي من محبة ظاهرة للأقباط؟، ماذا لو رفض خلفه أن يأتي في عيد الميلاد ليعيد علينا كأقباط في كاتدرائيتنا، أو يبني لنا كنيسة جديدة في مدينة حديثة الإنشاء؟ هل سنقوم بإلغاء بند بقائه إلى مدى الحياة؟، وهل يكفي لأن الرئيس السيسي، أظهر التفاته للشعب القبطي؟، الذي كان مهملاً لسنين عديدة، وجاء لسبب أو لآخر أن نعدل له الدستور ونبقيه مدة حياته، هل يتم التغيير في الدستور بالعواطف أو الأفعال والنوايا الحسنة، أم بالأسباب والدراسات والإحصائيات والقرارات الواعية المدروسة؟ نعم لا يستطيع أحد أن ينكر أن ما عمله الرئيس السيسي، مع الأقباط ولأجلهم لهو مختلف عن كل الذين قبله، لكن يبقى السؤال، أليس هذا وأكثر هو الطبيعي وما ينبغي على أي رئيس عمله مع الأقباط أصحاب الأرض؟ أليس من الواجب الحتمي معاملتهم كمواطنين كاملي الأهلية وليسوا رعايا دون أن ينتظر مقابل منهم بأي شكل من الأشكال؟.
٤- على الكنيسة أن تعلم أن ما يقوله رؤساؤها وكهنتها، يؤخذ من أحزاب المعارضة والجماعات الإسلامية المحلية والدولية كتحدٍ لها والوقوف مع أعدائها، كما حدث في موقفها العلني في جلسة تأييد خريطة الطريق، وعندها تصبح الكنيسة في عرف هذه الجماعات هي البادئة بالاعتداء عليهم، والوقوف ضدهم إلى جانب أعدائهم، فيستحلون قتل أولادها وهدم مبانيها وتشريد أهلها، عملاً بالنص القرآني “عين بعين وسن بسن والبادئ أظلم”، كما حدث في الفترة السابقة ومازال يحدث إلى الآن. فكما كتبت سابقًا، الكنيسة هي جسد روحي لا علاقة له بسياسة أو انتخابات، اللهم إلا كأفراد لا يمثلون المسيحيين بأي شكل من الأشكال، ولابد للكنيسة أن “تحسبها صح” وتترك لشعبها حرية اتخاذ القرار وإبداء الرأي في كل مجالات حياتهم دون التدخل من جانبها. فالشعب المسيحي المسكين لا رأي له في كل أمور حياته الروحية أو الزمنية، فكيف يكون لهم رأي في انتخاب رئيسه أو مد مدة رئاسته أو تعديل دستور البلاد، ففي أمور حياته الروحية تعود على السجود والركوع واتباع مبدأ الحل والربط وابن الطاعة تحل عليه البركة، وفي حياته الزمنية هو مضطهد مطارد في كنيسته وبيته وشارعه ومدينته وبلاده وهو يساق ليفعل ما لا يريد، والويل له إن اعترض على حاله، اللهم إلا فئة قليلة تمردت على الحياة والكنيسة وتمردت حتى على الله نفسه، سبحانه وتعالى، وأعلنوا إلحادهم وكفرهم به، وكرههم لدينه، وإنكارهم لوجوده.
ثم لماذا لا يفكر الناس في الأمر ويرونه كصورة واحدة متكاملة؟ فجانب من جوانب هذه الصورة هو رؤية هل يمكن أن تتحمل مصر قريبًا إجراء عملية انتخابية جديدة من مرشحين وجماعات محظورة ومباحة يتصارعون على المنصب، في هذه الظروف الأمنية والمادية والمجتمعية غير المستقرة لمصر، ولماذا يفترض بعض الناس أن من سيأتي بعد الرئيس السيسي، سيكون أفضل منه في أي مجال من المجالات أو أنه سيكون شريرًا مقصرًا في حق الشعب خائنًا للأمانة؟ حتى ينادوا بتعديل الدستور، لماذا لا يأتي شخص آخر جاد مخلص حكيم كالرئيس السيسي؟ ثم من سيضمن لنا أن الرئيس السيسي، قبل تعديل الدستور سيكون هو نفسه الرئيس السيسي، بعد تعديل الدستور وفوزه بسنين أكثر من البقاء في الحكم؟ نعم هناك آلاف الأسئلة التي يتحتم علينا كمصريين الإجابة عليها والتأكد من حقيقتها بالأرقام والإحصائيات والدراسات قبل القفز إلى قرار تعديل الدستور.
ولعل هذا هو سيناريو ما سيحدث في الأيام والأسابيع القليلة القادمة سيخرج علينا مقدمو كل البرامج الإذاعية والتليفزيونية ويؤيدون بشدة وبانفعال وصياح فكرة تعديل الدستور. وستمتلئ الجرائد والمجلات بصفحات التأييد أيضًا. وبعدها سيخرج الشعب في مظاهرات كبيرة ليترجوا الرئيس لمد مدة رئاسته وسيخرج علينا الرئيس ويقبل مطاليب الإرادة الشعبية طاعة وخدمة ونزولاً على رغبة الجماهير العريضة. لكن لابد له أن يطالب ويلتزم بصندوق الاقتراع، فلا صوت يعلو على صوت الصندوق، فالإرادة الشعبية مختبئة هناك لا تخرج إلا بإذن الشعب ولمصلحة الشعب وحده كما تنص كتب الوزارة. والشعب الذي سيتوجه إلى صناديق الانتخاب أو الاقتراع يعرف تمامًا ومتأكد يقينًا أن عملية تغيير أي رئيس مصري لا يتم على أحسن تقدير إلا، والعياذ بالله، بالموت على اختلاف أنواع الموت وتوقيتاته وأسبابه كما حدث مع جمال عبد الناصر، والسادات، أو بالثورة كما حدث مع مبارك، وأولاده، أو بالإطاحة والسجن كما حدث مع مرسي، فيما عدا ذلك فلم يسمع من قبل عن رئيس لمصر أتم مسؤوليات خدمته بسلام، في الوقت الدستوري المحدد له وترك الحكم من تلقاء نفسه لغيره بعيدًا عن الطرق السابقة، فلماذا يصر البعض على تغييرها؟ هذا الأمر لا يحدث إلا في أمريكا والقليل من الدول الديمقراطية الذين بالحقيقة يحكمون أنفسهم بأنفسهم، والذي لا يخاف الرئيس السابق من يأتي بعده ولا يفكر أنه سيرتكب ضده أية ممارسات غير قانونية، هذا لا يحدث في الشرق الأوسط الذي تحكمه شريعة الغابة حيث البقاء للأقوى، والأطول مخالب والأكثر ثراء وحراسة، ثم إن كان الرؤساء من عبد الناصر، إلى مبارك، لم يستطيعوا أن يحققوا الأمن والرخاء والحرية والعدالة الاجتماعية لمصر طيلة ٦٠ عام مضت، بالرغم من أن العالم حولهم كان أكثر أمانًا ومالاً وخيرًا، فلماذا نطالب السيسي، بترك مكانه بعد كل ما تحقق في عهده في مدة لا تزيد عن ٦ سنوات؟.
ثم لماذا لا يتعدل الدستور؟ والغالبية العظمى من الشعب، حتى لو كانوا لا يعرفون يمينهم من شماله يريدونه أن يتعدل، إما لأنهم يعيشون في عالمهم الخاص ويجترون الحصى مغيبين لا يتكلمون، فمن لا يجد لقمة العيش في يومه لا يفهم ما يقوله له السياسيون عن غده، وإما لأنهم يخافون التعبير عن أنفسهم وأفكارهم، فمازالت صورة الرؤساء القدامى ورجال أمنهم وزائري الفجر مسيطرة على عقولهم، وإما أن الغالبية العظمى منهم يأست من رحمة الله، والعياذ به من شر اليأس، وأقنعت نفسها “إن مفيش فايدة”، وعلى كل حال فصندوق الانتخابات لا يعرف سوى أعداد الناخبين، الموافقين والمعارضين، ولا يهمه في كثير أو قليل إذا كان المصوتون يفهمون ما يعملون أم لا، أو إن كانوا يعرفون القراءة والكتابة حتى يستطيعوا قراءة أسماء المرشحين أم لا، أو يعرفون على ما يصوتون أو حتى ما هو موضوع الانتخاب من أصله. ثم لماذا نرفض تعديل الدستور وهذا أمر طبيعي؟، كل الرؤساء العرب يغيرون دساتير بلادهم على مزاجهم ووفقًا لحاجتهم، ألم يتغير عمر رئيس الجمهورية السورية في الدستور السوري ليناسب عملية التوريث وليصبح بشار رئيسًا بعد أبيه الأسد؟، ألا تمر الجزائر بنفس الظروف وتطالب الحكومة بتغيير الدستور؟، ناهيك عن الدول العربية التي عاشت عقودًا دون دستور، وكان الكتاب الأخضر هو دستورها، والرئيس إمامها والناس المصلون وراءه والكل قائل آمين.
ثم لماذا لا يتم التصويت على تعديل الدستور وأمريكا لا تريد تغييرات وهزات جديدة في النظام المصري؟، ورئيسنا بحكمته هو الرجل الذي يضمن لهم استقرار المنطقة العربية، ويحافظ على ميزان القوى الدولية في الشرق الأوسط، وبالطبع ما يريده أو يقوله الأمريكان هو الذي يحدث في معظم الأحيان، ولذلك أمريكا ستقترح على الشعب المصري استعمال صندوق الانتخابات، ولا رادًا لصندوق الانتخابات وكلمته الأخيرة. فالحقيقة هي أن الانتخابات مصالح شخصية، دولية، عالمية، محكومة بأسس وقوانين مسبقة لا يمكن تغييرها على الهواء مباشرة.
وفي النهاية أقول، ليس الدستور المصري المكتوب وحده هو الذي يحتاج إلى تغيير أو تعديل، لكن دستور العقلية المصرية هو الذي يحتاج إلى التغيير في كل مجالات تعامله مع الواقع المعاش، بدأً من الأطفال الصغار، فالأطفال يحتاجون إلى تغيير دستور عقولهم ليعرفوا كيف ينشأون على محبة الآخر وكيف يتعاملون معه، ودستور المدارس يحتاج إلى تعديل ليحذف من مواده كل مادة شريرة تحث على الكراهية والقتل ووصف الآخر بالكافر، والكبار يحتاجون لتعديل دستور عقولهم ليعرفوا أن لا حياة ولا أمان للفرد إن لم يعرف كيف يتعايش مع من حوله، فيربون أولادهم وفقًا لدستور عقلي معتدل سليم، والعملية الديمقراطية بأكملها وبكل دقائقها تحتاج إلى تغيير وتعديل، ليس فقط الدستور، ليعرف المصريون كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم وكيف يقفون مدعمين ظهور قادتهم ورؤسائهم، وكيف يعبرون عن آرائهم ويتحملون تبعات الحرية التي يريدون الحصول عليها. الإنسان المصري كله، بكل مكوناته الجسمية والعقلية والروحية، يحتاج إلى تغيير جذري وهذا هو الحل الوحيد. وليعلم الجميع أن “الدستور جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل الدستور”، فلن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا دستور ما بقلوبهم وحياتهم. مع تمنياتي بالتوفيق الكامل لرئيس جمهورية مصر العربية المحبوب.