العدد 111 الصادر في ديسمبر 2014 الفرعون وطريقته في علاج قضية الأقلية الدينية في مصر
كتبت في مقال سابق تحت عنوان “أصل المرارة والعداء مع إسرائيل” أن أصل العداوة القائمة بين إسرائيل كشعب وبين العرب عامة، والمصريين خاصة، منذ آلاف السنين ترجع في معظمها، وليس بالطبع كلها، إلى يوسف ابن يعقوب، المعروف في المسيحية باسم “يوسف الصديق” بسبب طريقة معاملته واستعباده للمصريين وتفضيل إخوته بنى إسرائيل عليهم في كل شئ ونقلهم من بيوتهم وممتلكاتهم من أقصاء أرض مصر إلى أقصاها بعد أن أجبرهم الصديق مستغلاً حالة الجوع العظيم الذي عم أرض مصر، بل العالم كله المعروف يومئذ، أجبرهم على بيع كل ما يملكون ومن يملكون إلى فرعون، وفي النهاية انتهى بهم المطاف إلى بيعهم أنفسهم وأرضهم وكل ما لهم لفرعون عبيدًا في مقابل حصولهم على القمح ليأكلوا، القمح الذي أعطوه للصديق في سنى الغنى والإثمار والخير ولم يرده لهم في سنى الفقر والعوز والمجاعة، وهكذا عانى المصريون كل أيام حياتهم، وحتى اليوم، من العبودية لغير الله بل لحكام مصر جميعًا بغض النظر عن حديثهم أو قديمهم بالرغم من اختلاف هؤلاء الحكام في أديانهم وأشكالهم وأنواعهم وأصولهم ومدة وطريقة حكمهم لأرض مصر وأيضًا بغض النظر عن اختلاف أنواع العبودية وأشكالها وأنواعها وأصولها التى مارسها حكام مصر على المصريين.
والحقيقة أنه ليس من العدل والإنصاف في شئ أن نلقي بكل الذنب والجرم والمسؤلية على يوسف ابن يعقوب في استعباد المصريين وإخضاعهم بالقوة الجبرية لفرعونها وأن نبرئ ساحة الفرعون نفسه من مسؤليته فى مسألة إذلال وإخضاع المصريين له كعبيد والتصرف في أجسادهم وأموالهم وممتلكاتهم كما كان يحلو للسيد أن يستعمل ويلهو ويستمتع بعبيده وإمائه وملكات يمينه كيفما شاء، وفي المقابل يترك شعب إسرائيلى غريب الجنس عن المصريين ليتحكموا في كل خيرات أرض مصر وينموا ويتزايدوا حتى أصبحوا خطرًا يهدد أرض مصر نفسها ويقلق المصريين وفرعونهم ورجاله أنفسهم، الأمر الذي لم ينتبه له الفراعنة الذين تعاقبوا على حكم مصر منذ الفرعون الذي كان معاصرًا لحياة يوسف في مصر، ولم يحسبوا حسابه إلا بعد مرور ما يقرب من ٤٠٠ سنة على استيطان هذه الأقلية الإسرائيلية لمصر، عندما قام فرعون آخر لم يكن يعرف يوسف، فلو لم يسمح الفرعون المصرى المعاصر ليوسف بكل هذا لما كان لهذه العداوة بين المصريين، أو أن شئت فقل الأكثرية الدينية فيها، وبين شعب الله أو التى يمكن أن نطلق عليها “الأقلية الدينية” من وجود. ويا لها من مدة طويلة وطويلة جدًا استغرقها الفراعنة حكام مصر، الذين كانوا يتباهون بأنهم حكماء أولاد وحفدة الحكماء، في فترة الـ٤٠٠ سنة حتى انتبهوا لوجود هذه المشكلة الحقيقية بين الأقلية الدينية. ولست أدرى، واعتقد أن لا أحد يدرى إذا ما كان واحدًا أو أكثر من الفراعنة الحكام قد أدرك حجم هذه المشكلة أم لا فالكتاب لم يذكر شئ عن هذا، وما لم يذكره الكتاب صراحة لا أقرره أنا، ولكن من المرجح أن يكون أحدهم قد أدركها ومن المؤكد أنه لم يتخذ أي من هؤلاء الفراعنة الحكام أي إجراءات سياسية أو أمنية أو تدريبية لإعداد المصريين لمواجهة هذه المشكلة وإلا لما تفاقمت ووصلت إلى دراما الاستعباد والتسخير والإذلال والقتل للأطفال وتفريق العائلات وحرق الممتلكات، تلك الوسائل الشيطانية الدموية التى مارسها المصريون وفرعونهم الرئيس لحل هذه القضية الحياتية الخطيرة.
ولا عجب أن التاريخ يعيد نفسه إلى اليوم، فما أطول المدة التى يستغرقها المصريون حتى اليوم ليكتشفوا الأسباب الحقيقة وراء أى مشكلة أو قضية أو حتى مصيبة تلم بهم، وأن اكتشفوها سريعًا عادة ما يتركونها دون حل لمدة طويلة حتى تتفاقم الأمور وتتعثر الحلول وتصبح في كثير من الأحوال المشكلة غير قابلة للحل، فيرضى المصريون بالأمر الواقع وفي حالة مبادرة المصريين بالحل فهم عادة لا يحاولون حل المشكلة واقتلاعها من جذورها بل عادة يقبلون أنصاف الحلول، أو يستخدمون المهدئات أو المسكنات لعلاج أعراض المرض دون استخدام الطرق والعلاجات التى تعمل وتؤدي إلى شفاء الأمراض وخلو مصر والمصريين من النتائج، وينطبق هذا على تركهم الجماعات المتطرفة تنمو وتزداد دون علاج حتى وصلت إلى ما هى عليه اليوم، وينطبق هذا أيضًا على حلهم لمشاكل التعليم، والبنية التحتية، والبناء، والتعامل مع الطاقة ووضع سيناء والعلاقات المصرية الخارجية وجدولة ديون مصر، و.. و.. و..
والحقيقة أنه في كل مرة أرى وأقارن فيها كيف تصرف المصريون مع شعب الله في القديم وكيف يتصرفون مع شعبه تبارك اسمه الآن. أي منذ الفتح الإسلامي ودخولهم إلى مصر آمنين حتى وقتنا هذا أرى أن نفس العقلية والقناعات والسياسات والتصرفات وردود الأفعال والنتائج هي واحدة لم تتغير قيد أنملة مما يجعلنى اتأكد أن وراء كل هذا لا يمكن أن يكمن عقلاً إنسانيًا بشريًا على الإطلاق بل لا بد أن يكون هناك عقل شيطاني شرير مخططًا وممليًا إرادته وخطته لمن يهمه الأمر في تدمير شعبه تبارك اسمه، فالقضية ليست قضية يهودية مسيحية، أو إسرائيلية مصرية، وليست قضية إسلامية إسلامية، أو إسلامية مسيحية أو مسيحية مسيحية أو غيرها من التباديل والتوافيق الكثيرة التى يمكن أن يقترحها العقل البشرى، إنما هي قضية شيطانية مركزية واضعها ومنفذها والساهر على اتمامها بكل تفصيلاتها روح وليس بشرًا، وهذا الروح لا بد أن يكون روحًا شريرًا لأنه وحده الذي يأتي ليضطهد ويذبح ويهلك ويسرق ويشوش الأذهان ويعمى البصائر والقلوب فيقود الإنسان إلى تدمير نفسه وغيره باسم القومية أو الدين أو الأمة أو الجماعة، ولولا رحمة الله ولولا الرب الذي كان لنا، ليقل مفديو الرب، لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا، إذًا لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا، إذًا لجرفتنا المياه لعبر السيل على أنفسنا، إذًا لعبرت على إنفسنا المياه الطامية. مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم. انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين الفخ انكسر ونحن انفلتنا. عوننا باسم الرب الصانع السموات والأرض.
ولدراسة هذه القضية القديمة الجديدة المتجدده منذ أن حدثت أولاً في أيام يوسف بن يعقوب وتكررت مع كل حاكم حكم مصر، بلا استثناء، من يومها إلى هذا اليوم، يوم كتابة هذا المقال، اليوم الحالي الذي يحكم فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي أرض مصر، أقول لدراسة هذه القضية، قضية “طريقة تعامل الحاكم المصرى مع الأقلية الدينية فيها” هذه القضية المحورية الخطيرة والتى يبنى عليها نجاح وازدهار مصر وتقدمها وأمنها وسلامها أو عكس كل هذا لابد من دراسة النص الكتابي الذي تناول فيه المولى تبارك وتنازل إلينا الحديث عن “فرعون وطريقة تعامله مع قضية الأقلية الدينية في مصر”.
لقد ورد هذا الحديث الذي دونه لنا نبي الله وكليمه موسى في سفر الخروج والأصحاح الأول والآيات من ٦ إلى ١٧ إذ يقول تنزيل الحكيم العليم “ومات يوسف وكل إخوته وجميع ذلك الجيل. وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرًا جدًا وامتلأت الأرض منهم ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف. فقال لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض. فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم. فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس. ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا. فاختشوا من بني إسرائيل. فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف. ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل. كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما شفرة واسم الأخرى فوعة. وقال حينما تولدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي. إن كان ابنًا فاقتلاه وإن كانت بنتًا فتحيا. ولكن القابلتين خافتا الله ولم تفعلا كما كلمهما ملك مصر. بل استحيتا الأولاد.… وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتًا. ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلاً كل ابن يولد تطرحونه في النهر. لكن كل بنت تستحيونها”. وهنا نرى أن هذا الفرعون الذي كان معاصرًا لولادة موسى كليم الله وقع في كثير من الأخطاء المميتة التي أدت في النهاية حرفيًا وفعليًا بهلاك الجيش الفرعوني المصرى الذي كان معاصرًا لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، فما يزرعه الفرعون إياه يحصد أيضًا.
ولعل أول الأخطاء التي وقع فيها الفرعون وأخطرها هي:
١- إنه لم يدرس أو حتى يقرأ تاريخ بلاده مصر ولم يعرف ماضيها وتعاملات الله معها ومع شعبه المتغرب فيها من قبل توليه الحكم على هذه البلاد، ولم يهتم بهذه الدراسة، إذ يقول الكتاب عن هذا الفرعون “ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف”، ولست أدري كيف يمكن لفرعون أن يتولى حكم مصر، ولو بعد مئات السنين ولا يعرف من هو يوسف ومن هؤلاء الذين يدعون بنى إسرائيل الساكنين في مصر ومن أين أتوا بالرغم من قصر المدة الزمنية التى حدثت فيها كل الأحداث التى أنقذت مصر والعالم كله وسط مجاعة محققة والتى لا تزيد كثيرًا عن ٤٠٠ سنة، بينما نعرف نحن التفاصيل بعد مرور الآف السنين علي حدوثها، فبالرغم من أن مدة ٤٠٠ سنة في تاريخ الشعوب مدة طويلة جدًا حتى يتخذ فيها قرارات تصلح ما تواجهه البلاد من مشاكل إلا أنها مدة قصيرة جدًا في تاريخ الشعوب حتى تنسى أحداثًا أو معارك كانت سببًا في تغيير الحياة فيها من كل ناحية. وإذا كان ذلك الملك أو الفرعون لا يعرف يوسف، فلماذا لم يسأل عنه ولم يدرس عنه ولم يبحث في التاريخ الحقيقي غير المزيف لما حدث في مصر وكيف تواجد بنو إسرائيل في مصر وكيف تغلغلوا في كل شئونها، هذا ما لا إجابة له عندي سوى لأنه، أي الفرعون، أي فرعون، أو معظم حكام مصر، في القديم أو الجديد لا يبحث ولا يقرأ ولا يفتش عن أصل الأمور وبداية تكوينها في التاريخ، بدعوى أنه مشغول أو لا وقت عنده للقراءة والبحث والتنقيب، ويكتفي بالتعامل مع الواقع الحالى أو الأزمة المعاصرة التى يمر بها من خلال معطيات حديثة، قد تعطيها له جماعات مغرضة أو متملقة أو جاهلة أو حتى مخلصة، قد لا تمت للواقع التاريخي لهذه القضية أو الأزمة بصلة، ولهذا تتكرر أخطاء الحكام على اختلاف أحزابهم وحكوماتهم وتوجهاتهم وتظل تتكرر وتتكرر في كل عصر وآوان دون أن تعالج من جذورها علاجًا قاطعًا مانعًا. فقضية الأقلية المسيحية، شعب الله، في مصر على سبيل المثال تلعب بها وتتناولها وتستخدمها وتستغلها وقد تحجمها وتتجاهلها الحكومات المتعاقبة منذ أن دخل الإسلام وما قبله إلى مصر وحتى يومنا هذا، ولا يريد حاكم أو رئيس أو أكثرية أن تقوم بدراسة جادة لمن هم الأقباط في مصر، من هو إلههم، وما هو تاريخهم، وما هي معاناتهم الحقيقية، وما هو أصل المشكلة، وكيف بدأت، وكيف تعاقبت الحكومات على هذه القضية، والحلول أو اللاحلول التى اتخذتها الحكومات المتعاقبة على مصر منذ أن بدأت المسيحية بها، وما إذا كانت هذه الحلول أو اللاحلول أو المراوغة أو التأجيل قد أنتج أي بصيص من الأمل في معالجة قضية شعب الله في مصر اليوم الأقباط أم أن كل هذه المعالجات قد زادت الطين بلة، وتسببت فى الفشل واليأس والإحباط وكلها عوامل أولية لمركب حياتي يعرف بديناميت الإنفجار الدينى الذي نصلى أن يحفظ القادر على كل شئ مصر من تأثيره. فلو قرأ الحاكم تاريخ شعب الله فسيعلم يقينًا أن أمر شعب الله في أي مكان أو زمان ليس في يده كحاكم بل في يد القدير الذي وعد اتباعه المؤمنين أن من يمسهم يُمَس في حدقة عينه، أي في حدقة عين من يمسهم، وهو سبحانه من يعرف أن ينجي المتكلين عليه وينقذهم في وقت الضيق، فالمتكلون عليه مثل جبل صهيون الذي لا يتزعزع، وأن الذي يتعلق به سبحانه ينجيه ويُعْطَى أن لا تدنو ضربة من خيمته. لأنه يوصي ملائكته به لكي يحفظوه في كل طرقه. على الأيدي يحملونه لئلا تصدم بحجر رجله. على الأسد والصل يطأ. الشبل والثعبان يدوس. لأنه تعلق بي، يقول القدير، انجيه. أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فاستجيب له. معه أنا في الضيق. أنقذه وأمجده. من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي.
٢- الأمر الثاني الذي أخطأ فيه فرعون في طريقة تعامله مع الأقلية الدينية في مصر أنه لم يستشر أحدًا في اتخاذ قراراته، لا من الموالين له ولا من المعارضة التى يمكن أن تكون قد كانت حوله، فيما يتعلق بحل مشكلة تزايد عدد وتأثير الأقلية الدينية في مصر حتى كادت أن تصبح الأغلبية، واكتفى كمعظم حكام مصر بإتخاذ قرارات طائشات عشوائيات ليست مبنية على أسس دراسية علمية تقنية اجتماعية أو روحية مع أننى لست أشك إطلاقًا أن لكل فرعون حكم مصر كان لديه لفيف من المستشارين الذين كانوا يزينون صورة الحكومة وفرعونها أمام الناس، ولزوم الشئ لإظهار عظمة الدولة، وحكمتها وديمقراطيتها أمام من هم في الداخل والخارج، أولئك الذين كانوا يتشدقون بأنهم حكماء بل أحكم خلق الله، لكن معظمهم كانوا ولا يزالون يستخدمون في خدمة أغراض أي فرعون وهم يفتقرون إلى كل مقومات ومؤهلات المستشارين الحقيقيين. حتى خاطب الله سبحانه فرعون في سفر إشعياء والأصحاح التاسع عشر عندما توعده أنه سبحانه سيأتي إلى مصر راكبًا سحابة أي مسرعًا إليها ليهز أوثان مصر، تساءل المولى وهو العليم بكل شئ، مستنكرًا ومستخفًا وموبخًا لفرعون قائلاً:”إن رؤساء صوعن أغبياء. حكماء مشيري فرعون مشورتهم بهيمية. كيف تقولون لفرعون أنا ابن حكماء ابن ملوك قدماء. فأين هم حكماؤك فليخبروك ليعرفوا ماذا قضى به رب الجنود على مصر. رؤساء صوعن صاروا أغبياء. رؤساء نوف انخدعوا. وأضل مصر وجوه أسباطها”. ليس ذلك فحسب بل استخدم فرعون موضوع حديثنا نفس الخطة الشيطانية التى مازال بعض الحكام والحكومات في كل مكان وخاصة في مصر يستخدمونها حتى اليوم، تلك الخطة التى تبدو لأول وهلة خطة ديمقراطية عادلة وحضارية وهى خطة اللجوء إلى الشعب، خطة مخاطبة الشعب مباشرة، أو خطة صناديق الاقتراع أو قل دعابة صناديق الانتخابات السخيفة أو أكذوبة الشرعية التى لاكها المخلوع الثاني محمد مرسى في فمه لمدة طويلة عندما حاق به خطر الطرد من منصبه واستمر في ترديدها حتى صدق نفسه أنه رئيس منتخب، وإلى اليوم يتكلم عن صندوق الاقتراع والشرعية الشعبية في تمسكه بمنصبه الذي سرقته له جماعته من المصريين، وكأن اللجوء مباشرة إلى الشعب المسكين غير المطلع على الحقائق والأرقام والذي لا يعرف الغالبية العظمى منه يمينهم من شمالهم، والمستغل من قبل الحكام لتلبية أغراضهم مستخدمين احتياج الفقراء للبطاطس والسكر والزيت والورقة ذات الخمسين جنيه التى كان يحصل على نصفها فقط قبل الاقتراع ولا يحصل على نصفها الثاني إلا بعد أن يخرج من أمام صندوق الانتخابات ويثبت لأنصار الحاكم أنه انتخب رجلهم، وكأن هذه الخطة هي عين الديمقراطية والمشاركة الشعبية ولا صوت يعلو فوق صوت الشعب، وغيرها من الشعارات البراقة التى تنطوي على خداع محبك محنك يحصل فيه الفرعون على ما يريد متخطيًا رأي الحكماء والمتخصصين وخبرتهم وحكمتهم، يقول تنزيل الحكيم العليم “فقال (أي الفرعون) لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض”. ولا شك أنه يمكننا ملاحظة ثلاثة أمور في هذه الآية:
الأمر الأول هو كذب فرعون وليه للحقائق وتهويله في استخدام الألفاظ التى خاطب بها المصريين، وبلغة العصر الحديث استخدام “الفزاعة” ليخيف شعبه ويشحنهم ضد الأقلية الدينية في مصر، تلك الفزاعة التى اتقن السادات ومباحث أمنه هو ومبارك استخدامها للسيطرة على شعب الله المسيحيين في مصر والوصول إلى تحقيق خططهم الشيطانية في إذلال الشعب المسيحي المصري واستعباده والسيطرة عليه، وهي فزاعة الجماعات الإسلامية المتطرفة وما يمكن أن تعمله مع المسيحيين إن أعطت لهم الحكومة تصاريح ببناء الكنائس أو ترميمها، أو سمحت لهم ببدء الفضائيات أو حققت مطالبهم في إنشاء الجامعة القبطية على غرار جامعة الأزهر، تلك الفزاعة التى اتقنت أمريكا وحليفتها، الجماعة المحظورة، استخدامها مع المصريين والمجلس العسكرى لتمكين الإخوان المسلمين من السيطرة على مقاليد التحكم في مصر وشعبها، وهذه الفزاعة هي ما جعلت المخلوع مرسى يهدد الشعب المصرى ببحر من الدماء إن لم يفز بالانتخابات التمثيلية الرئاسية وكما هو معروف أجبرت أمريكا باستخدام نفس الفزاعة المجلس العسكرى بقيادة طنطاوي، الذي لا ذكر له اليوم في مصر، على إعلان فوز محمد مرسى بالرئاسة بالرغم من يقينها بفوز الفريق أحمد شفيق بها. فهل كان حقًا شعب إسرائيل في القديم شعب أعظم وأقوى من المصريين كما ادعى فرعون ليفزع المصريين ويضمن تحقيق خطته، لا لم يكن بنو إسرائيل شعبًا أعظم وأقوى من شعب مصر بأي حال من الأحوال لا من الناحية العددية أو المادية الطبيعية أو الحضارية والمدنية والعلمية والعسكرية أما من الناحية الروحية فكشعب كان، وهو الآن، وسيظل إلى الأبد أعظم وأقوى الشعوب لا لشئ فيهم لكن لأجل الآباء والعهود والاشتراع ولاختيار القدير لهم ودعوتهم لأن يكونوا شعبه لكي يظهر فيهم قوته ومن خلالهم عظمته وطول أناته عليهم بالرغم من شرورهم وفجورهم وعصيانهم له تبارك وتعالى، ولم يتفوق على هذا الشعب، ولن يتفوق عليه في يوم من الأيام شعب آخر، سوى شعب المسيح يسوع، فالأصغر في ملكوت السموات، أي من شعب المسيح، أعظم من أعظم من ولد من النساء من شعب إسرائيل، وهو يوحنا بن زكريا المعروف بيوحنا المعمدان، كما علمنا سيد كل الأرض المسيح يسوع، مع ملاحظة أنني لم أقل إن أعظم الشعوب هو الشعب المسيحي، بل أقول وفقًا لكلمة الله إن أعظم الشعوب الكائنة والتى كانت والتى قد تأتي هو شعب المسيح، وهذا الشعب هو شعب اقتناء وأمة مقدسة من كل قبيلة وشعب وأمة ولسان ودين وملة كل من نال خلاصه الثمين. أي كل من آمن بالمسيح يسوع ربًا ومخلصًا وسيدًا وفاديًا وحصل على خلاصه المجاني الذي قدمه بموته على صليب الجلجثة ودفنه وقيامته منتصرًا على الموت.
الأمر الثاني الذي نلاحظه في هذه الآية: أن الكتاب المقدس لم يقل (فسأل فرعون شعب مصر)، بل ما ذكره الوحي المقدس بالحرف الواحد هو “فقال (أي الفرعون) لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم…..”، ففرعون لم يسأل الشعب عن خطته في علاج قضية الأقلية الدينية في مصر، ولم يكترث بأن يعرف ما يريد شعبه أن يفعل لعلاج هذه القضية أو ما مدى معاناتهم في العيش مع شعب غريب يراه الفرعون شعب أعظم وأكثر من المصريين أنفسهم، بل أملى الفرعون خطته الشيطانية على الشعب دون أخذ رأيهم في الاعتبار. تمامًا كما دأب قادتنا على مفاجأة المصريين بقراراتهم المختلفة والتى كثيرًا ما كانت تمرر عبر مناقشات واقتراعات صورية بمجلس الشعب المفصل لخدمة الحاكم وحاشيته وبطانته ليس إلا.
الأمر الثالث: هو أن الكتاب لم يذكر القول “فقال الفرعون لشعب مصر..” بل ذكر: “فقال (أي الفرعون) لشعبه، أي لشعب الفرعون وليس لشعب مصر، وكأن شعب الفرعون مختلف تمامًا عن شعب مصر، فالأصل هو أن الشعب شعب الدولة لا شعب حاكمها، لكن هذا ما نراه حتى إلى اليوم، فعندما لا يلتف شعب الدولة حول حاكم ما ولا يوافقه على كل ما يعمل دون أن يناقش أو يجادل أو يعترض، يخلق هذا الحاكم لنفسه شعبه الخاص منهم فيصبحون شعبه هو لا شعب دولته، وما أكثرهم في كل زمان ومكان أولئك المستعدون أن ينخرطوا في شعب الحاكم ويتنصلوا من شعب مصر، أولئك المغيبون والماكرون المغرضون المستفيدون من هذا الحاكم أو الرئيس ويعملون لحسابه ويأتمرون بأمره مطبقين المبدأ الشيطاني لا تناقش ولا تجادل، وإن الطاعة للحاكم أو الأمير أو المبايع من الجماعة وأولي الأمر منا هى من طاعة الله سبحانه فأطيعوا الله وأولي الأمر منكم لهي من صحيح الدين، وغيرها مما لا داعى لذكره في هذا المقام، ألم يكن جل من يخدمون مع عبد الناصر من هذا النوع من الضباط الأشرار الذين عرفوا أنفسهم بالضباط الأحرار الذين أوصلونا إلى ما نحن عليه اليوم في مصر من شر عظيم وعار، ألم تكن الغالبية العظمى لبطانة السادات ومبارك وحزبهما الوطنى الديمقراطي منهم، ألم يخلق السادات ومبارك كل شعبه الخاص به الذين كانوا يصفقون لهم ويعضدونهم ويبصمون بالموافقة على كل ما يملياه عليهم؟، ألم يضع السادات الغالبية العظمى من معارضيه في السجون والمعتقلات ومستشفيات الأمراض النفسية والعقلية حتى يسكت أصواتهم؟، ألم يطلق على الانتفاضة الشعبية التى وقفت في وجهه يومًا ما عبارة “انتفاضة الحرامية”؟، ألم يحدد إقامة الراحل البابا شنودة الثالث في الدير لعدة سنوات بسبب اعتراضه على سياساته وإعلانه الحداد في أحد الأعياد وإلغاء الاحتفالات في تلك السنة؟، ألم يطلق الجماعات الإسلامية وخاصة الإخوان المسلمين على المسيحيين ليلهى الرأي العام حتى يطبع العلاقات مع إسرائيل؟، ونجح أن يخلق لنفسه شعبه المستقل عن شعب مصر مع أنهم كانوا يعيشون ويعيثون في مصر فسادًا، أما عمن أحاطوا بمرسى فحدث ولا حرج، فما قاموا به أكثر من أن تسعه مجلدات قد تضيق عن احتوائها الأكوان، وأنا أصلى من كل قلبى وأدعو القادر على كل شئ أن لا يكون أحدهم قريبًا من السيسى إلى يوم نهاية مدة حكمه بسلام وبحسب الدستور المصرى.
٣- الخطأ الثالث الذي ارتكبه فرعون مصر موضوع الحديث في هذا المقال، والذي زاد من العداوة بينه وبين شعب الله في مصر، هو أنه تعامل مع قضية الأقلية الدينية من دافع الخوف لا من دافع محاولة تفهم وضع ومطالب هذه الأقلية ومدى شرعية هذه المطالب والإحتياجات الملحة الأساسية بالنسبة لهم، مع أن هذه الأقلية الدينية لم تكن في ذلك الوقت تطالب بأي شئ حتى بحريتها الشخصية، لم يتعامل الفرعون مع القضية بالدراسة العملية والعلمية والاجتماعية والدينية للعوامل التى يمكنها أن تعالج هذه القضية، بل تعامل من منطلق خوفه منهم وتخوينه لهم، الأمر الذي عادة ما يدفع الخائف إلى الاحتماء وراء ما اتفق على تسميته بنظرية المؤامرة، وهي النظرية الشيطانية التى لا ترى في كل من يخالفنا الرأي أو التوجه أو التطلعات أو الدين إلا عدو يتربص بنا، ويحاول إيذاءنا ومحاربتنا والانتصار علينا. فمثلاً شماعة لوم أمريكا وإسرائيل والجماعات الدينية المتطرفة على كل ما يحدث من شرور في العالم العربي اليوم هي أسهل الطرق التى يستخدمها الحكام العربي للنأي بأنفسهم عن الملامة والهروب من تحملهم مسؤلياتهم وإهمالهم في حل مشاكلهم وقضاياهم التى أهملوا التعامل معها لمدة سنين وبدأت رائحتها العفنة تفوح، يقول تنزيل الحكيم “فقال (الفرعون) لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض.”
وهنا يعلم الفرعون أن الأقلية الدينية أصبح لها من التأثير الكبير على البلاد ولديها ما يمكن أن يسمح لها أن تكون كيانًا موحدًا مستقلاً قائمًا بذاته ولهم من العدد والمقومات ما يؤهلهم أن يكونوا أمة و دولة مستقلة كوحدة اللغة، والدين، والأصل، والمكان، والتاريخ والعادات والتقاليد وغيرها، وهذا ما اعتبره الفرعون مهددًا للبلاد في حالة اختلافهم مع حكامها، ورغبتهم في الإنفصال عنه وعن شعبه إلى الأبد، نعم هو يعلم أن هذه الأقلية الدينية تحب مصر ولا تريد أن تفارقها مهما حدث من المصريين، ويعلم أن هذه الأقلية لا وطن لهم الآن سوى مصر، لكنه يعلم أيضًا أن هذه الأقلية الدينية تبحث عن كيان موحد محتفظ بتاريخه ومميزاته ومقوماته حتى إن كانوا يعيشون بعيدًا عن أرض الموعد التى وعد الله آبائهم بامتلاكها والعيش فيها، وهو أيضًا يعلم أن لا إمكانيات لهذه الأقلية الدينية لمحاربة مصر بمفردهم، الأمر الذي يرفضونه بكل قلوبهم والذي لا وجود له إلا في ذهن الفرعون وأذهان عبيده فقط، بل ظن الفرعون أنهم يحتاجون فقط للاستقواء بأي شعب آخر يأتي ويحارب مصر، أو يدافع عنهم في المحافل الدولية، فينضمون له ويحاربون مصر ويخرجون منها، والسبب الذي لم يعرفه فرعون جيدًا أن الأقلية الدينية في مصر لا تريد سوى أن تعبد ربها وتتمتع بالحرية في العيش والخروج والدخول والعبادة والتنقل في أرض الله الواسعة ومد الجسور بين من هم في مصر منهم وبين أولئك الذين يقيمون في الخارج، الأمر الذي لا يحبه ولا يشجعه أو يقبله فرعون، فليست الحرية والديمقراطية في قاموس أو عقلية أو طبع فرعون، أي فرعون، على مدى العصور والأزمان، فالحرية الدينية في قاموس فرعون هي خروج عن شرع الله وأنه وشعبه المصريون هم أحكم وأعظم ما خلق الله وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأن عبادة يهوه الإله الذي لا يعتمده ولا يقره الفرعون هو خروج عن الولاء والطاعة له وتمردًا على (إلهه) وتطاولاً على المولى سبحانه الذي نستغفره ونتوب إليه، ومُنكَرًا يجب أن يقاوم باليد أو اللسان أو القلب وهذا أضعف الإيمان، وهو جرم يستحق عليه شعب الله العقاب بأن تحرق معابده وبيوته، وتخطف نساؤه وفتياته وأطفاله، وأن يسخر رجاله في عبودية قاسية في الطين واللبن ويذل الشعب كله ويساقون عنفًا ويعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وبناء على خوف فرعون من شعب الله، وبدلاً من أن يضع خطة للاستماع لهم ودراسة مطالبهم وبحث إمكانياتهم ووسائل حل مشاكلهم، ومحاولة رؤية ما هو إيجابي ومفيد في هذه الأقلية لأرض مصر وشعبها لم ير إلا كل ما هو سلبى فيهم وفي تاريخهم وأموالهم وإمكانياتهم وأعمالهم ولم يدرس كيف يستفيد من كل ذلك، فوضع فرعون خطة شيطانية لإضطهاد الأقلية الدينية في مصر، خطة غير مبنية على المكاشفة والمصارحة والسعى للعيش المشترك، بل مبنية على الاحتيال والخداع والغش والعنف، يقول عن هذه الخطة تنزيل الحكيم العليم، “فقال لشعبه هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم لئلا ينموا”. أليس من العجيب أن يقول فرعون لرجاله “هلم نحتال لهم” ولما الاحتيال، فإن كانوا أصحاب ذنب يعاقبون، وإن كانوا أصحاب فضل يكافئون، ألم تصبح خطط النصب والاحتيال والخداع هي الخطط المؤكدة والغالبة في هذه الأيام تلك التى يستخدمها الحكام والرؤساء والملوك في الوصول إلى أغراضهم الشخصية والتحكم في كل صوت للمعارضة ضدهم؟، ألم يشتهر السادات على سبيل المثال بممارسة هذه الخطط الشيطانية ويختبئ وراء زبيبته وعباءته والمسبحة ودخان البيب الكثيف والنظارة السوداء السميكة وإدعائه أنه كبير العائلة المصرية والرئيس المؤمن والمسلم لدولة مسلمة، وغيرها من الحيل الشيطانية حتى يفعل ما يريد في مصر، ألم يبك صدام حسين وأخرج منديلاً من جيبه ليمسح به دموعه التى كانت تملأ عينيه على رفاق الحكم الذين كان ينادي “عشماوى” على أسمائهم ليعدمهم وهو أي صدام نفسه هو الذي حكم عليهم بالإعدام زورًا وبهتانًا لا لشئ إلا لأنهم قد أعلنوا عن معارضتهم له ولبعض قراراته المجحفة في مجلس الشعب العراقي؟، هل يمكن أن تنجح دولة في تحقيق أي تقدم في أي من مجالاتها وهي تبنى خطط إصلاحها على النصب والاحتيال والقهر والذل والاستعباد وتمرير حياة الأقليات، أقول وأن بدا أنها تنجح وتتقدم إلى حين إلا أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا، فزارع الاحتيال لا يحصد إلا الغش والخداع مع ضربات ونكبات من القدير وفي النهاية موت مؤكد له ولجيشه ولأفخر مركباته الحربية تمامًا كما انتهى الأمر بفرعون مصر وجنوده في القديم ومن عاش مكرمًا ومات مخرمًا برصاصات قواته المسلحة في الحديث، ومن عاش في القصور ومات في الجحور، ومن لم يتعظ ويخشى ربه في الحرية وسيموت في مستشفيات السجون وغيرهم الكثير، وكما يقول المثل الشائع، إذا كان رب البيت بالدف ضارب فشيمة أهل البيت الرقص، لذا فبناء على خطة، رب البيت، فرعون، الشيطانية وتعطش المصريين للكراهية ضد الأقلية الدينية، يقول النص الكتابي “فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف. ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل. كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا” وكما قلت سابقًا في هذا المقال ما أشبه اليوم بالبارحة مع اختلاف الطرق والوسائل والأشكال لكن النهاية والنتيجة واحدة. فاليوم أصبح أصحاب الأرض عبيدًا مطاردين مذلين بعد أن أصبحوا الأقلية الدينية وأصبح الغرباء الوافدون هم الأغلبية ومازال ما حدث في القديم يطبق بتمامه على شعب الله الذين في مصر وهذا ما رأيته ومازلت أراه حولى في حياتي القصيرة التى مرت وتمر بي على الأرض حتى اليوم.
لازلت اتذكر المرة الأولى التى واجهت فيها هذه الحقيقة في حياتي، حقيقة أننا كشعب الرب في مصر الأقلية العديدة والمستعبدين الذين وضعت لنا الخطط التى تضمن أننا لن ننمو. كنت يومها في الثالثة الأبتدائية، الطفل الذي لم يكن يعرف الخوف أو الحزن إلى قلبه سبيلاً يعيش في أسرة سعيدة بمعنى الكلمة، أب محب يعمل بكد ونشاط ليوفر لنا كل ما نحتاج إليه وأم حكيمة لا تنقصها صفة من صفات المرأة الفاضلة المدونة في سفر الأمثال ٣١، كان أعظم ما يميز بيتنا هو الفرح الدائم والسعادة والسلام الذي كنت كطفل اتمتع به في طفولتى، وصوت الهتاف والترنيم والتسبيح الذي كان ينبعث باستمرار من أرجائه، كانت هذه هي المرة الأولى التى أرى فيها والدي يأتى إلى المنزل مهمومًا حزينًا يبدو وكأنه كان يبكي، استقبلته أمي بعيون ملئها التسائل والقلق والحيرة، علمت وقتها بداخلى أن هناك أمرًا خطيرًا محزنًا حادثًا في أسرتنا، حاولت أن اتلصص على أبي لأعرف ماذا جرى، تظاهرت بأننى لا أسمعهما لتركيزي فيما كنت ألعب به في يدي، سألته أمي بصوت منخفض، إيه الأخبار؟، ماذا قالوا لك؟، أجاب والدي في حزن ويأس واضح وكأنه فارس أخفق في الدفاع عن بيته وأهله، قالوا لي إنه لا يمكنها أن تلتحق بمعهد المعلمات، عرفت عندها أن الحديث كان يدور حول محاولة إلحاق أختى الكبرى نادية بمعهد معلمات السويس، استطردت أمي سائلة، ليه، ماقالولكش السبب، نظر إلى والدي بحذر شديد، بطرف عينه، وكأنه يريد أن يتأكد أننى لا اتابع حديثهما قبل أن يجيب، تظاهرت أنا بعدم الاكتراث وأعطيته القفا لا الوجه، ظن أننى لا أسمعه، أجابها أبي بصوت منخفض، قالوا لي لأنها مسيحية، ارتفع صوت أمي قليلاً وقالت بغضب “نعم” ماذا تقول؟، هل رفضوا قبولها بالمعهد لأنها مسيحية؟، وقالوها لك بالصراحة دي، أجاب والدي بصوت منخفض أسيف نعم، واستطرد قال لي مدير الإدارة التعليمية بعد إصرارى على رؤيته لأشكي له من عدم قبول نادية في المعهد أن نسبة الطالبات المسيحيات التى يمكن أن تقبل للالتحاق بمعهد المعلمات بكل دفعة هي ٥٪ من المقبولين فقط وأن عدد الطالبات المسيحيات الراغبات في دخول المعهد هذا العام والذين تم قبولهم بالفعل قد فاق هذه النسبة وأنه لا يستطيع أن يعمل أي شئ لمساعدتنا في هذا الأمر لأن هذه هي أوامر عليا. قالت أمي أوامر عليا من مين، أُمال لو كنا يهودًا وما كناش مصريين كانوا عملوا فينا إيه؟، أجاب أبي بحزن يا أم إسحق هو ده الواقع اللي لازم نتكيف معاه!، هي دي مصر اللى ما بقتش بلادنا!، وإحنا ما قدمناش غير ربنا نلجأ له، أنا هاصلى وأطلب من الرب أن يتدخل ويغير الأمور. وللإخلاص أقول إننى لم أفهم وقتها ماذا يحدث، وما معنى أن لا تدرس أختى بالمعهد الذي تريده لأنها مسيحية، ولماذا معهد المعلمات بالذات، ولماذا هذه النسبة ٥٪ وما معنى ٥٪ و..، و..، و… ولم أفهم يومها لماذا أصر أبي على أن يتأكد أننى لا أسمع هذه المحادثة بينه وبين أمي، لم أدرك كل هذا إلا بعد أن كبرت وعرفت أن أبي كان يخاف من ردة فعلى كطفل لهذا الحدث، وأنه كان يخشى أن أعرف القصة كاملة فلربما اتكلم في هذا الأمر، كطفل، أمام أحد الغرباء عن أسرتنا فيشي به إلى مباحث أمن دولة عبد الناصر فيعتقلونه، وما خفي على كان أعظم، وعلمت أن هناك خطة للسيطرة على عقول وقلوب التلاميذ عامة والمسيحيين منهم خاصة من خلال المدرسين والمدرسات، فإذا أردت أن تصلح أجيالاً من الناس أصلح المدرس والمدرسة أولاً والعكس صحيح تمامًا، ولا عجب أننا اليوم نحصد ما زرعنا لأجيال طويلة، فمعاهد وكليات التربية والتعليم كانت يومها تضم أكبر نسبة من الطلبة الفشلة الذين أخفقوا في الحصول على معدلات دراسية عالية نسبيًا في امتحان الثانوية العامة تمكنهم من الالتحاق بكلية أو معهد آخر سوى كلية التربية، ولم تتغير الأوضاع لسنين عديدة إلا بعد أن بدأ المدرسون في تجارة الدروس الخصوصية وأصبحوا أغنى طبقة من الموظفين الحكوميين في أي قطاع أو هيئة. وبعدها عرفت أن هناك مدارس للتعليم الأزهرى ثم كليات وجامعات للأزهر يحرم على المسيحيين الالتحاق بها فالأمر لم يعد بالنسبة لي ولشعب الله في مصر نسبة مئوية لعدد الملتحقين بالمدارس والمعاهد والكليات بل هي خطة شيطانية متكاملة في كل المجالات والوظائف والكراسى والممارسات والبرلمانات والحكومات المتعاقبة على مصر وضعها الرجيم وتبناها الفرعون الكبير وسلمها لكل الفراعنة والملوك والسلاطين والرؤساء من الآف السنين وحتى يومنا هذا الذي نعيش فيه. وقد يهاجمنى ناقد، مخلصًا كان أم مغرضًا، قائلاً إن ما تكتبه اليوم في هذه القضية قد انتهى مدة صلاحيته ولم يعد له وجود وتغير تمامًا في عصر ثورة ٣٠ يونيو، عصر الدستور الجديد والقوانين ومنظمات حقوق الإنسان والمواثيق والمعاهدات الدولية، مصر اليوم في عيد وعصر جديد عصر السيسي وتسلم الأيادي، في مصر اليوم ليس هناك فرق بين الأقلية والأكثرية الدينية، لم يعد هناك تمييز بين الأقلية والأكثرية في التعيينات والترقيات والوظائف وحرية ممارسة الشعائر الدينية والتحول بين دين وآخر وبناء الكنائس ودور العبادة ولدينا اليوم الجامعات الحرة التي تقبل المسيحي كالمسلم وحتى اليهودي نفسه إن أراد أن يدرس بها في مساواة عادلة ما دام قادرًا على دفع مصاريفها الباهظة، أما جوابي على المخلصين المخدوعين أو المغيبين بما يحدث في مصر الآن، إنه لدي مجلدات من الحقائق والإحصائيات والقصص والأخبار التى تؤكد أن لا فرق بين الأمس، يوم كنت صغيرًا غضًا في بداية العمر، واليوم وقد قاربت النهاية سوى في استخدام أساليب وتقنيات ووسائل مختلفة عن ما كان الفراعنة السابقين يستخدمونه للوصول إلى نفس النتائج وتنفيذ نفس الخطط الشيطانية القديمة، والسبب هو أن التقدم في استخدام وسائل الإعلام جعل من العالم قرية صغيرة يصعب معها الاختفاء خلف القوانين والممارسات الإجرامية لمعظم الحكومات العالمية ونتيجة لذلك قام الوسواس الخناس بتغيير إستراتيجيته وطرق تنفيذ خططه في استعباد وإذلال شعب الله ولكن ليس هناك من تغيير في الخطط نفسها وفي أسباب وضعها وتطبيقها على شعب الله في القديم والجديد. وإلى اللقاء في مقال آخر لاستكمال البحث في “الفرعون وطريقته في حل قضية الأقلية الدينية في مصر”.