لا شك في أن ما يحدث هذه الأيام في مدينة غزة وما حولها شيء لا يصدقه عقل، وخاصة إذا كان هذا العقل لديه أقل درجة من التركيز والتفكير والمنطق، فموت الأبرياء من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي أمر لا يقبله العقل السليم، فالعقل والضمير الإنساني يقول إن الناس لابد أن تحيا معاً في سلام ووفاق، وأن تحل مشاكلها بالتي هي أحسن وليس بالدبابات والمدافع والصواريخ، فلغة الحوار انعدمت في شرقنا الأوسط وحلت محلها لغة الحرب والقهر والإرهاب، فالبقاء للأقوى والأغنى.
فما ذنب الأم العجوز الفلسطينية وهي ترى بيتها وقد تفجر بقنبلة غاشمة لا تعرف الرحمة فتتناثر أمامها أشلاء ابنها وحيدها ويتخضب وجهها بدمائه التي تحتار في كيفية التعامل معها، فدماء ابنها وقطع لحمه الصغيرة المتناثرة هي أغلى وأقدس ما تملك، فهل تغسلها وتلقيها كما تلقي القاذورات أم تحتفظ بها ككنز تبقى لها من وحيدها على مدى الأيام؟ وما ذنب الأم الإسرائيلية التي تعيش أكثر من نصف عمرها في الخنادق والملاجئ تجمع أولادها حولها كما تجمع الدجاجة فراخها، تبكي على زوج خرج ولم يعد أم ابنة جندت للدفاع عن أهلها وعرضها؟ ما ذنب الصغار من الفلسطينيين واليهود حتى تصم آذانهم الصغيرة وتتخرق طبلتها الرقيقة من صوت الانفجارات، وتلتاع قلوبهم البريئة التي ما صنعت خيراً أو شراً وهم لا يعرفون سبباً واضحاً بسيطاً لكل هذه الأهوال الحادثة لهم؟ فصناع قررات الحرب والسلام يبدو أنهم بلا قلوب، بلا رحمة وبلا ضمير بل وبلا عقول للتفكير القويم.
وما لم يوجد منطق أو تفكير سليم يحدد أصل المشكلة الغزاوية الفلسطينية الإسرائيلية وكيفية حلها حلاً عادلاً نهائياً إذن فلابد من البحث في كتب التاريخ، والسياسة، والدين، والروحانيات، والماديات، في أي شيء وكل شيء للوقوف على أصل المشكلة وطرق حلها، ولست أدعي أنني أعرف كل الحقائق حول هذه القضية أو أعرف كل الحلول، لا أنا ولا غيري مهما أوتينا من علم، فمدينة غزة هي واحدة من أقدم عشرة بلدان في العالم، ومنذ وجودها وهي مسرح للمشاحنات والحروب والكروب، بناها الكنعانيون وهم أحد أقطاب الفلسطينيين الخمس منذ آلاف السنين، ثم احتلال اليهود لغزة القديمة، فلابد للأمور أن تفهم في سياقها التاريخي والبيئي والاجتماعي وغيرها، لم تكن غزة تلك التي بناها الكنعانيون هي كما نراها اليوم، ولم يكن العالم كله يومئذ كما نعرفه الآن، فتقسيم البلاد إلى ممالك وأقطار تحرسها حدود وبوابات ومجالات أرضية وبحرية وجوية حديث جداً بالمقارنة بزمان بناء مدينة غزة، فأرض الله كانت واسعة مفتوحة أمام عباد الله، وكانت العائلات والقبائل بل والمدن بأكملها تتحرك لتغير مكانها، إما بشراء أرض الغير، أو التراضي معهم للسكن في حسن الجوار وإما بالحرب والنصر، وكثيراً ما كانت الأمة والقبيلة المنتصرة تبيد القرى أو المدن بأكملها بما فيها ومن فيها وتبني أخرى على هواها وتصبح المدينة والأرض ملكاً للغالب المنتصر. ومن الواضح أن نبي الله إبراهيم عاش في هذه الأرض عندما دعاه المولى تبارك اسمه أن يترك أرضه وبيته وعشيرته فجاء وسكن في تلك الأرض، وبعدما تغرب اليهود في مصر لمدة تزيد على الـ400 سنة عادوا مرة أخرى وحاربوا من كانوا في هذه البقعة من الأرض، وتوالت على غزة وما حولها من مدن الحروب والدمار، فقد احتلها سرجون ملك الأشوريين سنة 720 ثم احتلها فرعون نخو ملك مصر سنة 608 ق.م، وقهرها أيضاً وأساء معاملة أهلها الإسكندر الأكبر، ثم سمعان المكابي في القرن الثاني الميلادي، ثم الرومان سنة 62 ق.م، وتوالت عليها الممالك والملوك حتى صارت على ما هي عليه اليوم من التشدد الإسلامي. ومن الملاحظ أن قضية غزة وفلسطين اليوم لم تعد هي القضية السياسية التي يهتم بها الساسة والمفكرون وصناع القرار فيها، بل تأسلمت وأصبحت قضية إسلامية لابد لكل مسلم أن يشترك فيها. ولقد زايد عليها الكثيرون، ففي العصر الحالي ناصب عبد الناصر العداء لليهود وحلم أن يحرر غزة وفلسطين التي أسماها المحتلة ولم يفلح، وكانت النتيجة أن غزة راحت فلم تعد تحت الحماية المصرية ولا السيادة الفلسطينية، بل خاضعة للسلطان اليهودي، على أن الغريب أننا لم نسمع بمقاومة شعبية لإسرائيل من غزة ولم تحدث مصادمات لسنين عديدة يومئذ كما تحدث الآن. والقضية ليست بسيطة ولا واضحة، فغزة وفلسطين كما يراها العرب هي ملك للفلسطينيين، الكنعانيين في الأصل، ولكن أين هم الكنعانيون اليوم، وماذا كانت حدودهم وديانتهم، ولابد من التسليم أن الإسرائيليين وافدون على غزة، لكن كيف وفد الإسرائيليون وكيف احتلوا فلسطين القديمة. يقول أقدم الكتب التي يعرفها الإنسان وأعظمها وأصدقها التوراة، أن شعب إسرائيل يبدأ بإبراهيم ثم إسحق ويعقوب والأسباط ويقول تنزيل الحكيم أن المولى تبارك اسمه وهو صاحب ومالك السموات والأرض بما فيها فلسطين قد كلم نبي المولى إبراهيم أن يترك أور الكلدانيين ويذهب إلى أرض كنعان، ووعده أنه يعطيها له ولنسله إلى الأبد، وسافر إبراهيم من أرضه وعشيرته وذهب إلى كنعان.. أغناه المولى مادياً فاشترى الأرض من أصحابها وأراض كثيرة حول هذه المدن لم يكن لها مالك أو صاحب، فسكن بها إبراهيم وبنى هو وأولاده وأحفاده وسلالته من بعده مدناً كثيرة في فلسطين اليوم ولم يجرد إبراهيم جيشاً ولا حارب أهلها وسبى نساءها ورمل أطفالها ودخلها بالسيوف وبقر بطون أمهاتها، ثم نزل نسله إلى مصر متغرباً حتى أصعدهم المولى منها بذراع رفيعة ويد قوية وضع أحكاماً بآلهة المصريين، وكان توجيه المولى لشعبه واضحاً، وحسب طبيعة الزمان في ذلك الوقت نصرهم المولى تبارك اسمه على الشعوب الذين حولهم فامتلكوا أراضيهم، وينص الوحي المقدس بوضوح أن المولى لم يهب اليهود هذه الأرض لأنه فضلهم على شعوبها، لا بل زرعهم في هذه الأراضي لشر أصحابها وعبادتهم الأصنام والأوثان دون عبادته سبحانه فغضب عليهم وأباد أنسالهم. أليست الأرض هي ملك الملك جل شأنه يعطيها لمن يشاء كيفما يشاء وحيثما يشاء والفلسطينيون لا يؤمنون ولا يعترفون بذلك مع أن هذا ما يمارسونه مع غيرهم، فلو بقيت قضية فلسطين وغزة قضية سياسية وأرض وملك لرجعنا لكتب التاريخ لحلها، لكن أن تتحول القضية إلى قضية دينية والدفاع عنها دفاعاً عن دين ما كان بموجود لا يوم تأسيس غزة وفلسطين ولا يوم احتلالها وتدميرها من شعوب وقادة وحروب كثيرة فهذا ما لا يصدقه العقل، فغاية ابن لادن وأتباعه تحرير فلسطين وغزة وفتح بيت المقدس، وهدف حزب الله في لبنان أن يحرر فلسطين وغزة، وإرسالية وسياسة إيران في المنطقة مبنية على معادتها لإسرائيل ومحاولة محوها من الوجود، والإخوان المسلمون في مصر والبلاد العربية رسالتها أن تدافع عن فلسطين والمسلمين في فلسطين وتطالب الحكومة المصرية في مجلس الشعب، مع أنهم لا يمثلون الشعب فطرق دخولهم للمجلس معروفة للجميع، ولكنهم يطالبون بالتدخل بل وبالحرب مع إسرائيل لنصرة الإسلام والمسلمين وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لغزة وفلسطين، ونسوا أن ما يطالبون به العالم قد عملوه ويعملونه مع كل الشعوب والأقطار مع الفارق الكبير، فالمولى تبارك اسمه هو الذي طلب من إبراهيم ونسله أن يسكنوا أرض كنعان، لكننا لم نسمع أو نقرأ أمراً من المولى القدير للمسلمين أن يحتلوا البلاد وأن يجبروا أهلها على تغيير عقائدهم وإيمانهم ويستعبدوهم ويضطهدوهم على مدى أربعة عشر قرناً حتى الآن، حتى إسرائيل الحديثة بكل قوتها وجبروتها لم تجبر الفلسطينيين على تغيير ديانتهم إلى اليهودية، ولم تضع يهودياً واحداً في السجن إذا اختار أن يصبح مسيحياً أو مسلماً.
إسرائيل أعطت الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية والباسبور الإسرائيلي عندما ارتضوا أن يسكنوا معها في أمان وسلام أما أولئك الذين يريدون أن يمحوا إسرائيل من الأرض فتمتلئ قوانينهم وممارساتهم اليومية بالكثير من الظلم والقهر والحبس والاضطهاد اليومي لمن عداهم ممن لا يؤمنون بدينهم. تُرى ماذا سيفعل العرب إذا قمنا نحن المسيحيين المصريين بالمطالبة برجوع مصر إلينا وإلى ما كانت عليه قبل الاحتلال الإسلامي وطلبنا أن تكون لنا أرضنا ومدننا وحكومتنا الخاصة وجيشنا المسلح وإن لم نحصل على كل ذلك لأمطرنا القاهرة بالقنابل والصواريخ كما تفعل حماس اليوم ووحدنا كلمة المسيحيين في العالم أجمع لمساعدتنا لرد ما سلب منا على يد عمر بن العاص ومن جاء بعده من أمراء وخلفاء، تُرى ماذا كان سيحدث في لبنان إن طالب المسيحيون بإنهاء تواجد حزب الله وهو المفروض بالقوة على لبنان المسيحية سابقاً، أعود فأكرر أن الأمر لو اقتصر على أرض مغتصبة لكانت المشكلة وحلها أبسط كثيراً جداً مما نحن عليه الآن، إذن فلابد من الفصل بين القضية الفلسطينية والقضية الإسلامية إن كانت فلسطين تريد أن تحيا في سلام مع إسرائيل.
على العرب أن يتعلموا الدرس من أخطائهم الماضية، فالدفاع عن فلسطين ودخول العرب الحرب المسلحة ضد إسرائيل في 67 كان سبباً في احتلال إسرائيل وامتدادها إلى ما هي عليه اليوم، وأكثر من الأراضي التي تخلت عنها إسرائيل بمحض إرادتها طلبا للسلام مع العرب، فسيناء كانت محتلة من إسرائيل، غزة كانت تحت سيطرتها، الجولان مازالت في حضن إسرائيل والضفة الغربية و…و….و… وغيرها، لم يتعلم العرب الدرس من صواريخ الأطفال التي ألقى بها حزب الله من لبنان على إسرائيل بعد أسرهم لجنديين إسرائيليين، تهدمت لبنان ورجعت عشرات السنين إلى الخلف، واليوم تقف حماس في نفس المركب، تبدأ في قصف إسرائيل من غزة وتظن أن إسرائيل ستقف مكتوفة الأيدي أمام صواريخها وقنابلها، ترى أين المخ والتفكير العربي اليوم، لماذا بدأت حماس في عمل هذه الزوبعة التي حطمتها وقتلت أبناءها وشعبها، هل يمكن أن يكون السبب وراء كل ذلك أن حماس رأت أنها تاجرت بالقضية أكثر من اللازم فلابد لها أن تحركها بعدة صواريخ تلقيها على إسرائيل فتكتسب حماس تأييداً جماهيرياً لها، هل قامت بهذا لتثبت لتلك البلاد التي تمولها أنها مازالت مستحقة لمساعدتها فها هي تضرب إسرائيل في عقر دارها، هل أرادت أن تتخذ خطاً مختلفاً عن منظمة التحرير وأن تشد الأنظار إليها، أم أن هناك بعض الممولين لحماس هم الذين أملوا عليها ودفعوها للدخول في هذه المهمة؟ هل لقادة حماس الخبرة السياسية والعسكرية والدبلوماسية لخوض مثل هذه المعركة؟ هل حقاً تسحق الدول العربية وحماس عقولهم عندما يخططون لإزالة إسرائيل من أرضها؟ هل تظن حماس والبلاد العربية أن إسرائيل ستخرج من فلسطين وتتشرد بين الأمم مرة أخرى، وستعطي القدس للمسلمين وغزة لحماس وتل أبيب لإيران؟ هل من عاقل في هذا الزمان يمكن أن يوقظ العرب من أحلامهم وغفلتهم وتخلفهم حتى عن التفكير السليم؟ ألا تحل حماس مشاكلها مع منظمة التحرير والكتائب والفصائل الأخرى الفلسطينية وإخوتها المسلمين أولاً ثم تتفرغ لإسرائيل، فالمثل يقول: “اللي بيته من زجاج لا يحدف الناس بالطوب” إن مسألة تحرير فلسطين لم تعد تصلح إلا لكتب التاريخ في المدارس الابتدائية، ولعظات أئمة يبتغون تحميس الناس وإشغالهم بما لا ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، أو لقادة يتاجرون بمثل هذه الأمور ويشبعون رغباتهم المحمومة في الشهرة وجمع المال.
على حماس والعالم الإسلامي أن يعرف أن هناك فرقاً بين تعاليم يهوه القدير في زمن نزول التوراة تلك التي فيها رحمة للناس وهدى والتي علم فيها المولى الناس أن العين بالعين والسن بالسن والكسر بالكسر والرض بالرض، وبين تعاليم المسيح ملك السلام الذي علم البشرية أن العيش في سلام مع النفس ومع الجار ومع الله هو أسمى ما ينبغي أن يصبوا إليه الإنسان، فلا سلام يمكن أن يتحقق على الأرض بعيداً عن شخص السلام سيد الخليقة كلها المسيح يسوع تبارك اسمه الذي ترنمت الملائكة يوم مولده: “وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة”.
فإن كانت الحرب ورمي إسرائيل بالصواريخ طريقة أثبتت فشلها في حل النزاعات، فعلى الفلسطنيين الكف عن استخدام هذه الوسيلة والتفاوض بعقل ومنطق وحكمة لحل هذه القضية.
اللهم أنر لنا عقولنا وقلوبنا حتى نبتعد عن الحرب ونحيا في سلام، وأرح ضمائرنا المريضة واشفها وامنحنا الحب والوئام، اللهم أنقذ الأبرياء من الدمار والحرب والموت وقتام الظلام، وأطعم أطفال الفلسطينيين واليهود من سلامك يا رب السلام، اللهم جنبنا الانسياق والإذعان للسفهاء منا، واحم مصرنا من كل مخطط يرمي لدمارها واقشع الغمام، اللهم حرك عقولنا لنفهم، وقلوبنا لنرحم واحمنا من أنفسنا وأحلامنا في الصحو والمنام، فإنك أنت سيدنا وربنا وقائدنا الهمام.