العدد 40 الصادر في يناير 2009 دروس من الحذاء الطائر
بعد أن فاجأ الصحفي العراقي العالم كله بحذائه الطائر نحو الرئيس الأمريكي جورج بوش في مؤتمره الصحفي الذي عقده مع رئيس الوزراء العراقي، المشهد الذي أعادته التليفزيونات العربية آلاف المرات وانشغلت به محطات البث لعدة أسابيع وكأنه الفتح العربي المبين الذي حقق النصر للعرب أجمعين وأنهى الاستعمار الأمريكي اللعين للشرق الأوسط وفلسطين والعراق وسائر الأقطار العربية ومن بها من المضللين المغيبين، جلست أتأمل هذا الحدث المهين وأستخلص منه ما استطعت من دروس وحكم في السياسة والدين.
والحقيقة أنني رأيت أن هذا الحدث ينطوي على دروس كثيرة حاولت تلخيصها لضيق الوقت ومساحة النشر إلى ثلاث مجموعات وهي: دروس للأمريكان، ودروس عن عقلية العربي كإنسان، وأخيراً دروس للحكام العرب في هذا الزمان.
أما الدروس التي لابد للأمريكان أن يتعلموها – وخاصة الرئيس المنتخب أوباما – من حادث الحذاء فهي أن العرب كل العرب كشعوب وأفراد وجماعات سياسية أو دينية يكرهونهم وقد تأصلت الكراهية داخلهم إلى الدرجة التي تبحث فيها عن متنفس لتنطلق من صدروهم إلى رأس وقلب أمريكا ومن فيها، فتارة تأخذ هذه الكراهية طريقة الحذاء الطائر كما حدث أخيراً، وتارة تأخذ طريقة الطائرات التي صدمت برجي التجارة الأمريكية والتي هللت لها الشعوب العربية وهنأت بعضها البعض ورقص الرجال والنساء في الشوارع لقتل الأبرياء والتي كانت نتيجتها أن أطاحت أمريكا بطالبان، وصدام وداست بحذائها كثيراً من الشعوب العربية والبلدان. وتارة تأخذ طريقة القنابل والرصاصات والصواريخ التي تفجر السفارات الأمريكية، وتارة أخرى طريقة خطف الرعايا الأمريكيين حيث ثقفتموهم، فالكراهية آلات فتاكة تدق تبحث عن وسيلة للانفجار والتدمير دون ضمير أو عقل أو حساب للنتائج والتداعيات. والواضح أن الأمريكان لم – ولست أظن أنهم في يوم من الأيام – سيتعلمون هذا الدرس أبداً، فهناك فرق بين تربية ونشأة الإنسان الأمريكي ونشأة الإنسان العربي، ومع أن المولى تبارك اسمه خلق الأطفال جميعاً في كل البلاد والأديان والخلفيات سواسية من حيث البراءة والنقاوة في الفكر والعمل، خلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويتحابوا ويتعاونوا على البر والتقوى ويلفظوا الإثم والعدوان، إلا أن هناك فرقاً بين طفل ترضعه أمه من صدرها كراهية المجتمع، كراهية الحاكم والسلطة، كراهية المخالفين له في الدين والعقيدة واللغة، كراهية ممتزجة بلبنها، ويربيه أبوه على العنف وأخذ حقه بيده وبالرصاصة والقنبلة والجنزير والسنجة والحذاء الطائر إن لزم الأمر، طفل يبدأ حياته في بيئة تقدس العنف والقتل والإرهاب، ويبدأ دراسته محشوراً في فصل قد لا يجد فيه مقعداً للجلوس عليه من كثرة الطلبة، ومُدرسة لا تظهر في حصة الدرس بغير عصا غليظة طويلة وقد التصقت بيدها من كثرة ما أمسكت بها كل يوم وكل اليوم، طفل يعلمونه أن فتح البلاد وقتل وقهر أهلها وإجبارهم على دفع الجزية عن يدهم وهم صاغرون هي أوامر المولى تبارك اسمه وأن قصص الغزاة والفاتحين والقاتلين والسفاحين هي قصص البطولات المخلدات على مر العصور وطول السنين، ثم يبدأ حياته العملية الدراسية الجامعية بهذا الكم الهائل من الإحباط واليأس وعدم الأمل وخاصة لو كان من الأقليات العرقية أو الدينية في الوطن العربي، وبين طفل يولد ويرضع في الحرية والديمقراطية وعدم الخوف من البوليس والحاكم والرئيس، فمنذ صغره وفي أوائل حياته الدراسية يعلمونه أن أعظم شرف حباك الله إياه أنك أمريكي الجنسية وأن أعظم امتياز يجب أن تستمتع به هو حق تعبيرك عن نفسك، وحرية الكلام مكفولة بالقانون ومفعلة، ومن حقك انتخاب عمدة قريتك أو مدينتك ومجلس معاونيه، ومن يمثلونك في مجلس الشيوخ والنواب، بل ورئيس البلاد نفسه، ولا أدل على ذلك من نتائج الانتخابات الأخيرة التي حددت مصيرها النهائي أصوات الناخبين من سن 18 وحتى 24 سنة، شباب مقتبل العمر الذي أصر على المشاركة في الحياة السياسية والمطالبة بحقوقه لأن هذه هي طريقة تربيته ونشأته.
إذاً فعلى الرئيس الأمريكي المنتخب أن يعلم أنه مكروه مكروه مكروه يا ولدي، مهما عمل ومهما قدم للعرب، ومهما كان اختلافه عن سابقه بوش، فالأمريكي أي أمريكي سيظل مكروهاً في الشرق الأوسط، وسيظل الحذاء الطائر ينتظره في كل مناسبة، يمكن فيها استخدامه ومن جميع فئات المجتمع.
الدرس الثاني الذي لابد أن يتعلمه الأمريكان أن الديمقراطية سلعة ومبدأ لا يمكن تطبيقه في الشرق الأوسط مهما حاولت الشعوب وادعت الحكومات، وهذا ما تجسم من خلال الحذاء الطائر ورسالته التي أتمنى أن يعيها الأمريكان.
لقد عاش هذا الصحفي طوال حياته هو وعائلته وبلده كلها لأكثر من ثلاثين عاماً تحت حذاء صدام حسين، بلا حركة أو همس أو كلمة واحدة تعبر عن وجود أحياء من أصله تحت حذاء الطاغية، وكان هذا الصحفي وأمثاله يستخدمون أقلامهم في التعبير عن إكرام وإحسان صدام حسين لهم بوضعهم تحت حذائه لكل هذه السنين، تماماً كما يفعل الكثيرون اليوم ممن يُدعون صحافيين في كل بلاد العرب، والعجيب أن بوش والأمريكان هم الذين أزاحوا الطاغية وأخرجوا الشعب العراقي من تحت حذائه ظانين أن العراقيين سيتمتعون بالحرية والديمقراطية ويكونون أصحاب سيادة وكلمة حرة في بلادهم، فبدلاً من أن يضرب الصحفي العراقي رؤساء العصابات والجماعات الدينية والعرقية بقلمه وهم المسئولون عن ما وصل إليه العراق الآن، قذف بحذائه رئيس الدولة التي أعطته الفرصة ليخرج من تحت الحذاء الذي طالما حطم أنفه ورأسه وكتم أنفاسه.
علي الأمريكان أن يدركوا أنهم إذا أرادوا أن يطبقوا ديمقراطيتهم وحريتهم وحبهم للحياة في بلاد أخرى وخاصة البلاد العربية، عليهم أن يبدأوا بتنظيف صدور الأمهات ونطفات الرجال من الكراهية لهم ولحريتهم وديمقراطيتهم وإلا ستظل الكراهية تفرز من هذه الصدور وترضع للأطفال الصغار، وحيث أن هذا من المحال فعلى الأمريكان التعامل مع الشعوب العربية علي قدر عقولها وأن تراعي مصالحها في الشرق الأوسط بالتعامل مع الدكتاتوريين من الرؤساء والحكام، والنتيجة بالنسبة للأمريكان واحدة في النهاية، ففي النهاية أمريكا مكروهة، ومصالحها في الشرق الأوسط لن تأخذ بالحرية والديمقراطية للشعوب العربية بل بالمعاهدات وتبادل المصالح والاتفاقات مع الرئاسات بالرغم عن أنفم الشعوب والجماعات.
أما الدروس المستخلصة من عقلية الإنسان العربي فهي كثيرة تقشعر لها الأبدان، ولا تحليل أو تفسير أو وصول للأسباب التي تجعل العقلية العربية تتصرف بهذا الكم الهائل من التطرف إلا إذا فهمنا الأرواح الشريرة التي تسيطر علي هذه المنطقة الغريبة التي تجمع كل المتناقضات في العالم. فالشرق الأوسط مركز أقدم وأعرق الحضارات، والشرق الأوسط مهد الديانات سماوية كانت أم أرضية، بل والشرق الأوسط مكان ميلاد الإنسان، آدم وحواء، الشرق الأوسط أرض الرسل والأنبياء، فما من نبي جاء من الأمريكتين أو أوروبا وأستراليا، الشرق الأوسط مكان أول جنة عرفها الإنسان، مكان التقاء الإله الخالق الجبار بالإنسان المخلوق، الشرق الأوسط أرض التضحية والفداء، فداء إسحق وفداء سيد الخلق أجمعين المسيح يسوع تبارك اسمه للإنسان، لكن الشرق الأوسط اليوم ومنذ القديم محل النزاعات والصراعات والقتل والإرهاب والظلم والقهر والعدوان، أما الأرواح الشريرة التي تسيطر علي هذه المنطقة فهي كثيرة بدءاً بروح فرعون الذي كان يكره أن يطلق شعب الله ويعطيهم حريتهم لعبادته سبحانه وتعالى، ففرعون في الكتاب المقدس رمز لكل ما هو مقاوم لله وعبادته واضطهاد شعبه ومحاولة إذلالهم وإفنائهم. ثم روح ملك فارس، ذلك الروح الشرير الذي أراد أن يقطع الطريق علي توصيل رسالة المولى تبارك اسمه إلي نبيه دانيال (اقرأ سفر دانيال لتعرفه) وتوصيلها اليوم للمؤمنين الحقيقيين به. أما الروح الذي عمل في حادثة الحذاء الطائر فهو روح هاجر – وقد أفردت له مقالة خاصة سابقة – ذلك الروح الذي يقبل تقسيم الحياة إلي مرحلة الاستضعاف ثم مرحلة الحرب والفتح والإرهاب. فهاجر الأمة، العبدة، التي تباع وتشترى بالمال والتي كان مكانها طوال حياتها تحت حذاء سارة سيدتها امرأة خليل المولى إبراهيم، عندما أحسنت إليها سارة بجعلها ضرتها وإعطائها لإبراهيم فدخل عليها وحبلت بإسماعيل، يقول تنزيل الحكيم العليم الكتاب المقدس، أنه لما علمت أنها حبلى، صغرت مولاتها في عينيها، أي احتقرت مولاتها، أهانت مولاتها، تماماً كما فعل هذا الصحفي الطائش عندما ألقى بحذائه علي من أخرجه من تحت حذاء صدام كما ذكرت سابقاً. وروح هاجر مازال يعمل في أبناء هاجر وإسماعيل حتي اليوم، فعندما تعطي هاجر حريتها، وتشجع علي استخدام الديمقراطية الحقيقية لابد أن يظهر أصلها الذي لا يمكن أن تتخلى عنه، تلك الروح المسيطرة علي الإنسان العربي والأمثلة عديدة متكررة علي ذلك، عندما كان محظوراً علي الصحافيين المصريين كتابة غير ما يملى عليهم من الحكومة والسادة الكبار، ومحظوراً إنشاء الصحف والمجلات، وكتابة المقالات والمنشورات كانت الصحافة تهلل وتصفق للطاغية الجبار، وعندما تعددت الأحزاب، وأعطيت التراخيص لإصدار الصحف والمجلات قذف الصحافيون أحذيتهم علي أشخاص وعائلات من أعطوا لهم الأمان وأرادوا أن يطبقوا ولو قدراً بسيطاً من الحرية والديمقراطية وما إلي ذلك من شعارات، ولو استخدم الصحافيون أقلامهم للكتابة والتنوير والنصح والإرشاد كما هي رسالة الصحافة الحقيقية غير المأجورة لكان هذا خيراً لها ولهم وللأمة جمعاء، أما أن يستغل الصحافيون جرائدهم للقذف بأحذيتهم علي أفراد وعائلات في نقاش غير موضوعي فهذا ما تفعله روح هاجر المسيطرة علي أبناء إسماعيل وعقلياتهم، وإن لم يدرس الأمريكان هذه العقلية بدءاً من روح هاجر لن يصلوا إلي الطريقة المثلى للتعامل مع الشعوب العربية.
أخيراً أقول إن هناك الكثير من الدروس المستفادة لحكام المنطقة العربية نفسها، فالحذاء الطائر الذي لم يصب الرئيس بوش لم يصل بعد إلي نهاية المطاف بل مازال طائراً محاولاً الالتصاق بهم وقذفهم بغض النظر عن ما يعمله هؤلاء الحكام مع شعوبهم إن أحسنوا أو أساءوا، فالحذاء الطائر لا يتعرف إلا علي الإساءات فقط ولا يذكر للحكام إلا أسوأ أعمالهم في فترات رئاستهم، علي الحكام العرب أن يدركوا أن وضع الشعوب تحت أحذيتهم لمدة طويلة لابد أن يترتب عليه ما حدث مع الرئيس بوش، فالذين يضعون الحذاء علي الشعوب بالحذاء يضربون، والذين يكسرون أقلام الكتاب والصحافيين بالأقلام يهانون، فبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم وبالدينونة التي بها تدينون تدانون، الذين يكممون الناس عن الكلام في بلادهم لابد لهم أن يهانوا من الفضائيات والمنتديات والإنترنت والستالايتات.
إن الذين يمنعون بناء الكنائس ودور العبادة لابد لهم أن يقبلوا خاضعين مغلوبين علي أمرهم أن عشرات الكنائس تدخل إلي بيوتهم وفي حجرات نومهم من التليفزيون والإذاعات، وأن المئات أو الآلاف أو الملايين من كل قبيلة وأمة ولسان ودين تصل لها رسالة المسيح الحي إلي أبد الآبدين والملايين يقبلونها. ليتنا نتحرر من عقلية الحذاء الطائر وتفتح عقولنا وقلوبنا للمولى تبارك اسمه ليغيرنا ويحررنا فمكتوب: “إن حرركم المسيح فبالحقيقة تكونون أحراراً”.