تسير القافلة وتعوي الكلاب

5

العدد 37 ديسمبر 2008
تسير القافلة وتعوي الكلاب

     من منا لا يتذكر خبراته مع الكلاب، فمنا من عضه كلب وترك أثراً سلبياً في حياته لم تمحه الأيام برغم مرور الأعوام علي هذا الحدث، ومنا من كان يخاف أن يمر بأحد الشوارع أو أمام أحد البيوت المشهورة بوجود كلب أو أكثر، وقد ترددت كثير من القصص والخرافات والشائعات عن طبيعة هذه الكلاب المسعورة والمسحورة التي تقطع الطريق علي المارة بعوائها واندفاعها وراءهم. ومازلت أذكر تلك العربة الشهيرة المدعوة “عربة الكلاب” التي قليلاً ما رأيناها في إحدى المناطق الشعبية تقبض علي الكلاب الضالة في شوارع القاهرة الكبرى. من منا لا يذكر قصة أو أخرى عن وفاء الكلاب وإخلاصها لأصحابها ومحبيها، فهذا كلب أنقذ صاحبه الأعمى وقاده بين السيارات ليعبر به شارعاً يعجز عن عبوره المبصرون، وهذه كلبة تصرخ في وسط ظلام الليل لتنقذ عائلة أربابها النائمين من لص متسلل لعين، أو حريق زاحف من أحد أركان البيت الأمين.. وغيرها من طريف الروايات عن الكلاب.

     لقد تذكرت وتفكرت في هذا الموضوع، موضوع الكلاب، عندما اقتحم هذا المثل رأسى وعقلي “تسير القافلة وتعوي الكلاب” كنت وقتها أفكر في ردود أفعال كثير من الحكومات تجاه صراخ الكثير من أفراد شعوبها سواء في داخل الشارع العادي، أو في الصحافة والإذاعات ومحطات التليفزيونات. كنت أسأل نفسي لماذا لم تنتبه الحكومة لهذا التحذير أو ذاك، ولماذا لم تسمع صوت الاستغاثات والتأوهات، لماذا لم تناقش أصحاب الأصوات المختلفة المخلصة كانت أم المغرضة، هل غطت الحكومة في نوم عميق وسبات وانفصلت عما يحدث في شوارع مدنها وأقطارها والحارات، أم من كثرة ما سمعت من تظلمات وصرخات وأصوات مبحوحة ثقل سمعها ثم مات، أم أنها من كثرة المظالم والمفاسد والانحرافات يئست من تقديم حلول مؤثرة لمشاكل الجماهير والجماعات، أم لعلها هربت وانسحبت من المواجهات وانشغلت عنهم بما ينفعها وحدها، فأنا وبعدي الطوفان والمهلكات. أجاب العقل بمثل ومقولة معروفة للعرب منذ القديم والحكومات العربية تعمل به وتطبقه، ألا وهو: “تسير القافلة وتعوي الكلاب”.

     ومهما كان من وفاء الكلاب وإخلاصها وفوائدها إلا أنني أكره أن أشبه الناس بالكلاب ولست بفاعل في هذا المقال، فالكلاب كلاب، والناس هم بنو آدم، من خلقهم سبحانه وتعالى علي صورته كمثاله، لكن ما يعنيني في هذا المقام هو وجه الشبه بين حالة بعض الكلاب وردود أفعالها وأفعال من حولها وحالة الناس في هذه الأيام الغبراء التي نعيش فيها في هذا الزمان الردئ، وربما اكتشفت الحكومات أوجه الشبه هذه مع الكلاب، لذلك اقتنعت وطبقت علي شعوبها حرفية هذه المقولة “تسير القافلة وتعوي الكلاب”.

ويمكن تلخيص أوجه الشبه أو الاختلاف بين المجموعتين، مجموعة الكلاب ومجموعة البشر أو فئات معينة من الشعب، في ثلاثة نقاط: أولها: فوائد الكلاب. ثانيها: طرق التعامل مع الكلاب. ثالثاً: ما لابد أن تعمله الكلاب لتغيير واقعها المرير الذي تعيش فيه كى تجبر القافلة علي تغيير مسارها بما فيه خير شعوبها وخاصة الأقليات.

     أولاً: فوائد الكلاب:

    يقولون أن الكلاب أوفى أصدقاء وأخلص الأصحاب ومصدر للمسرة والتسلية لأصحابها، لكنها إذا أصيبت بداء السعار أصبحت أخطر أعداء لهم، فعضة واحدة بسيطة من كلب هائج مسعور للإنسان تأتي علي حياته في غضون أيام قليلة. والكلاب خير حارس أعطي للناس، فسمعها مرهف حتى أنها تسمع ذبذبات لأصوات لا يتمكن الإنسان من سماعها، وهي لا تنام نوماً عميقاً كما ينام البشر، وساعات نومها أقل بكثير منهم لذلك يستعملها الإنسان في تنبيهه وحمايته عندما يتوقع الخطر. ولقد حبا الله سبحانه وتعالى الكلاب خاصية أن تعلن عن اقتراب وقوع الزلازل والهزات الأرضية بعوائها قبل حدوثها.

     ولقد اكتشفت الحكومات هذه الفوائد في الكلاب فأحاطت أنفسها بمن يعرفون في كل أمة وشعب وحكومة بكلاب السلطة، وتعاملت معهم بناء علي استحساناتها، شجعت فيهم بعض فضائلهم وتجاهلت كثيراً من خصائصهم، تلك التي لا تتفق مع مخططاتها ومقاصد قافلتها.

     فنبض الشارع وإحساس الرجل العادي وقوة سماعه للأحداث والتنبأ بزلزال قادم علي هذه المنطقة من الأرض يفوق إحساس الحكومات والسلطات، فرجل الشارع هو حجر الأساس في بناء أي دولة وإن لم تنتبه السلطات لتحذيراته وتنبؤاته حتماً سيحدث الزلزال في يوم لا تتوقعه الحكومات وسيأتي علي الأخضر واليابس في البلاد، وعدم انتباه السلطات إلي حالة السعار التي أصابت رجل الشارع العادي الذي أصبح مسعوراً في ممارسة الجريمة والتحرشات الجنسية وإدمان المخدرات، مسعوراً في مجال الرشوة والمحسوبية والفساد، ككلب مسعور يجول ملتمساً من يغرس فيه أنيابه. ستتضاعف حالات السعار بين الموظفين والكلاب، وستزيد الطينة بلة، فليس من الحسن أن تسير القافلة وتعوي الكلاب.

     كما أنها وأقصد الحكومات قد قسمت شعوبها إلي كلاب السلطة وكلاب ضد السلطة أو الكلاب المعارضة، كما قسمت الكلاب المعارضة إلي جماعات دينية أو سياسية أو عسكرية وغيرها. إلي جانب طبقة ما في نظر الحكومات هم كلاب الشوارع الذين لا طعم لهم ولا لون ولا رائحة ولا هوية ولا غد ولا حلم ولا مطالب ولا تطلعات، وهؤلاء يسهل التعامل معهم جميعهم وتفريقهم واستعمالهم في كل الظروف والمناسبات.

     كما قسمت الكلاب المعارضة إلي كلاب الداخل وكلاب المهجر وتفننت الحكومات في طرق التعامل معهم.

     ثانياً: طرق التعامل مع الكلاب:

     من الكلاب من تكسبهم بالأكل والشرب والمناصب. أو ما يشغل انتباههم، فمن أسهل الطرق التي يمكن بها أن تسيطر عليهم أن تلقي للكلب عندما يعوي قطعه من العظم أو سمكة ليتلهي بها عن سبب العواء. تذكرت الأيام السالفة عندما كانت الحكومة تخشى التجمعات خارج البيوت في بعض الأعياد القومية وبالذات في شم النسيم، كان التليفزيون يعرض مسرحية مدرسة المشاغبين حتى يلهي الناس عن الخروج للشوارع. تذكرت العم حمدان الذي كان يبث برنامجاً إسرائيلياً لمدة عشرة دقائق يومياً ويقول للمصريين: “يا أهل مصر يا طيب عبد الناصر.. يفطركم فول ويغديكم كورة ويعشيكم أم كلثوم”. إذا اعترض الأقباط علي الاضطهاد أو التمييز الديني الذي يعانون منه في مصر أهدتهم الحكومة تصريحاً أمنياً رئاسياً لبناء عشرة كنائس فيوقفون الصراخ، وتستمر القافلة في المسير.

     أما أولئك الذين لا تصلح معهم المغريات فتنتظرهم الفلكة والسوط والعصى، وحتى عهد قريب كان الفلاح عندما يخرج من بيته لابد أن يحمل معه عصا لزجر الكلاب والدفاع عن نفسه بها، فالكلاب تخاف العصا وخاصة إذا كانت قوية وطويلة حتى تنال الكلب في مقتل قبل أن يقترب من حاملها، لقد نجحت سياسة العصا في تفريق وتشتيت الغالبية العظمى من الكلاب لمدة طويلة، أما أولئك الذين لم تنجح معهم فالتصفية الجسدية أو النفسية أو الاجتماعية هي الخطوة التالية لمن لا يخاف أو يرتدع بالعصي.

     وتبدأ هذه التصفية إما بالرصاصات في الشوارع والطرقات أو بزيارة من عربة الكلاب التي تفاجئ الكلب دون إنذار أو محاكمة أو سؤال بأن يلف بوليس الكلاب الحبل حول رقبة الكلب المسكين ويجره حتى يصعده إلي صندوق العربة الحديدي ليجد معه كثيراً من الكلاب رفقاءه، لكل تهمته لكن للجميع مصير واحد، ثم يمر كل منهم بطريقة التصفية، جسدية كانت أم نفسية أو اجتماعية أم عقلية وغيرها من التصفيات.

     ولعل أسوأ طرق التعامل مع الكلاب هي طريقة إهمالهم وتركهم يعوون كما يشاءون “فتسير القافلة وتعوي الكلاب”. ومن الكلاب من يعوي منذ عشرات السنين ومازال يعوي دون أن يلتفت له أحد، فمجرد العواء لا يخيف القافلة ومن فيها فقد تعودوا علي ذلك، بل وفي مرات كثيرة هم الذين يهيجون الكلاب لتعوي وتركض وراء القافلة دون زجرها أو انتهارها ليثبتوا للعالم كله كم هم ديمقراطيون ومتسامحون ومتحضرون حتى أنهم يتركون الكلاب تعوي ضدهم وهم لا يأبهون.

     ثالثاً: أخيراً أقول أليس من طريقة مؤثرة تضمن حق الكلاب في سماع صوتها وتغيير أوضاعها وإجبار القافلة علي تغيير مسارها والالتفات إلي مطالبها وعوائها.

نعم هناك شروط لابد أن تعيها وتنفذها الكلاب حتى يسمع صوتها ويؤخذ برأيها:

     أولاً: لابد للكلاب أن تنسى طوائفها وعقائدها ومصالحها الشخصية وتتنازل عن كبريائها وتصلفها وعنادها وتقبل الاتحاد مع غيرها من الكلاب، ففي النهاية يا صديقي كلنا كلاب، فالقافلة التي يعترضها كلبان ينبحان ويعويان يكون رد فعلها مختلفاًً عن تلك التي يصادفها مائة كلب متحد في العواء والمقاومة، وهذا الاتحاد يكون علي مستوى القادة والمسئولين أولاً ثم ينزل إلي كلب الشارع العادي. اتحاد ليس بالقول أو اللسان أو الأحضان فحسب بل اتحاد حقيقي مصيري بكل الكيان.

     ثانياً: علي الكلاب أن تفهم أنه ليس بالعواء وحده يحيا الكلاب، وأن القافلة لن تلتفت إلي كلاب لا تعرف إلا أن تعوي وتنبح، لن تنتبه القافلة إلا إذا استعملت الكلاب أنيابها وأظافرها إلي جانب عوائها، فما يعجز عن تنفيذه العواء من تغيير في مسار القافلة، قد تنفع فيه أسنان الكلاب.

     ثالثاً: لابد للكلاب أن تحدد أهدافها ومطالبها وتواجه القافلة بإصرار علي تحقيق غاياتها، تذهب لتتراءى لقادة القافلة، تصر علي مقابلتهم والجلوس معهم حول مائدة مستديرة، تطالب بتغيير مسارها وإلا لن تسكت عن العواء ومتابعة القافلة بأنيابها وأظافرها وكل ما بها حتى تجاب طلباتها.

     رابعاً: لابد للكلاب أن تتحدى العصا ولا تخاف من عربة الكلاب ورصاصات التصفيات فللحرية الحمراء باب بكل يد مدرجة تدق.

وإذا الكلاب يوماً أرادت الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر.

     فإذا لم تتحقق هذه الشروط الأربعة للكلاب فستظل “القافلة تسير وتعوي الكلاب”.

وإليكم هذه القصة الطريفة في طرق التعامل مع الكلاب: قالت لي إحدى الأخوات العراقيات أنه عند وصولها لأمريكا (وبالمناسبة لاحترام الناس في أمريكا للكلاب فإن الكلب يأخذ نفس اسم العائلة الذي لصاحبه.. عجبي). كانت تقتني كلباً، ثم كبر الكلب وشاخ وأرادت هذه السيدة أن تتخلص منه، حملته في سيارتها إلي مكان بعيد حتى لا يعرف الكلب طريق عودته لبيتها مرة أخرى. أنزلت الكلب من السيارة، وضعته علي رصيف في الشارع وأدارت محرك السيارة ومضت، حاول الكلب الجري وراءها فارتطم بالسيارة وقتل بعجلات سيارة  صاحبته، سمعت المرأة صوت ارتطام الكلب وعلمت بموته لكنها لم تتوقف وذهبت لبيتها، في صباح اليوم التالي فوجئت بالبوليس يقرع بابها ويسألها عن هذه الواقعة. سألها البوليس هل تعلمين أن الكلب ارتطم بالعربة ومات؟ قالت: نعم أعلم، سألها البوليس ولماذا لم تنزلي من السيارة وتحاولي إسعافه، قالت: “شو أسوي له، هادا مجرد كلب”. حينئذ قال لها ضابط البوليس سيدتي أنت مقبوض عليك، فأنت مريضة نفسية، وخطرة حتى علي جيرانك من البشر.

      قالت لي هذه السيدة وبعد دقائق وجدتُ نفسي في زنزانة سجناء وأنا مقيدة اليدين وبوابة الزنزانة تغلق خلفي، في اليوم التالي قدمت للمحاكمة وخرجت من السجن بكفالة كبيرة، ثم جاء حكم المحكمة بأن أدفع غرامة ليست بقليلة وأن أكمل اثنتا عشرة جلسة علاج نفسي تتكلف الواحدة 50 دولاراً وإلا كنت معرضة لعقوبة سجن طويلة. (وعجبي).

اللهم اجعل حكوماتنا تعاملنا كما تعامل أمريكا الكلاب، واحمنا من نفوسنا وأولي الأمر وأنقذنا من العذاب، واعف عنا وارحمنا ونجنا من العقاب.

     اللهم إنا لا نسألك عش الغراب أو الكباب بل أعطنا خبزنا كفافنا من طعامنا وحريتنا المسلوبة منا فإنك أنت الوهاب.

     اللهم نشكرك لأنك لم تخلقنا كلاباً بل خلقتنا بشر، اللهم علمنا أوجه الشبه والاختلاف بيننا وبينها حتى نعتبر، اللهم لا تجعل عواءنا يضيع هباءً ويندثر، اللهم افتح أذهاننا لنفهم أن عواءنا وحده لن يدفع الخطر وأن في اتحادنا وإصرارنا علي تغيير اتجاه القافلة لابد من أن يستجيب القدر.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا