العدد 15 الصادر في ديسمبر 2006 سيادة الرئيس.. عفواً وشكراً.. ولكن
ترددت كثيراً في كتابة هذا المقال، والسبب ببساطة أنني أفكر كثيراً قبل الكتابة في أية قضية، في مدى أهمية هذا الموضوع بالنسبة للقارئ، ما الذي سيضيفه من جديد، وما سيغيره من سلوك وفكر وتطلعات. أمر آخر هو ردود الأفعال لما أكتبه، وتركيبة القراء الفكرية التي يستقبلون بها ما يُكتب في الصحف والجرائد اليوم. والسبب في ترددي في كتابة هذا المقال بالذات هو أنني أعلم أن إسقاطات كثيرة لنفوس مريضة سوف تسقط علىّ، كل حسب حالته. فالجبناء الخائفون سيرون في هذا المقال متنفساً لهم وربما يتطاولون ويحسبونني في صفوفهم، الحاقدون الكارهون المتعصبون المغيبون سيرونها فرصتهم في توجيه التهم والأحكام المسبقة على كل خلق الله. أما الفاهمون المتنورون العاقلون وحدهم الذين سيقرءونها ويفهمونها تماماً كما قصدت كتابتها.
لندخل في الموضوع، لقد أنعم المولى تبارك اسمه على بابنين، أحدهما مازال صغيراً يكفيه من العيش ما يأكله ويلبسه وكثير من play station games وهذه كل دنياه، فهو قليل الكلام والاعتراض، وبالرغم من صغر سنه فهو هادئ رزين محب شاكر على كل ما لديه، متكيف مع كل المستجدات والظروف حلوها ومرها. أما الابن الأكبر فهو في سن الشباب الناشئ، أو ما يعرف بسن المراهقة، وهو كثير الكلام والحركة والتفكير والمناقشة والجدل والوفاق والخلاف، قائد بطبيعته برغم صغر سنه، لا يكتفي بما هو فيه. ومع اختلاف الاثنين في طباعهما فإنهما متفقان على أن بابا (الذي هو أنا) لابد أنه يعرف كل شيء، ويملك كل شيء، وقادر على كل شيء. وهم لا يقبلون من بابا دون هذا التوقع، وإلا فكيف يكون بابا؟ فإذا ما اعترضهم سؤال ما أو بحثا عن شيء، فلابد أن بابا يعلم، فبابا في نظرهم يفهم كل شيء في الدين، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والموسيقى، والرياضة. وهم يطالبونني أن أكون عند حسن ظنهم. وهم يرون أنني قادر على كل شيء، حتى أن كبيرهم عندما كان لديه من العمر 4 سنوات جاءني في أحد اجتماعات كنيستنا في شبرا، وبكل ثقة سحبني من يدي وقال لي: تعال معي، وأخذني أمام عساكر البوليس الواقفين أمام الكنيسة والمفترض فيهم أنهم يحرسونها، وقال لي بغضب شديد مشيراً إلى أحد هؤلاء العساكر: “الراجل ده شخط في، لازم تضربه دلوقتي” وأسقط في يدي، وكان على أن أتصنع الغضب وأرفع صوتي على العسكري المسكين حتى لا يصاب ابني بخيبة الأمل في أبيه الذي يرى الصغير أنه قادر على كل شيء. سألني لماذا لم تضربه، لم أقل له إنني لا أقدر أن أضربه، بل قلت له عيب نضرب حد إحنا مؤدبين، لا نضرب الناس حتى الذين يخالفوننا في الرأي أو الدين أو اللون. ويظن أولادي أنني أملك العالم كله فكل طلباتهم لابد أن تجاب، فكل دخل الأسرة تحت تصرفي، وأنا بابا الذي أمتلك آلاف الدولارات التي تهبط على من السماء (كما يعتقدون) فالكبير يطلب عربية BMW325i وهو في سن السادسة عشرة وقبل أن يحصل على رخصة قيادتها، والصغير ذو العشر سنوات يسألني عن ماركة السيارة التي سأشتريها له عندما يبلغ السادسة عشرة، وبالطبع فهو يؤكد على أنها ستكون على الأقل BMW اللهم لا اعتراض فأنا بابا الذي لا أستطيع أن أقول أنني لا أملك، وإن ملكت فلا أقدر وإن قدرت فعندي من الأمور الأهم أطنان ينبغي أن أنفق فيها نقودي أيضاً. توارد كل هذا في ذهني وأنا أتصفح عناوين معظم الجرائد والمجلات التي تصدر في مصر اليوم والتي تتناول بالنقد واللوم، بل وأقول الشتائم وقلة الأدب التي يكتبها صحفيونا ضد الرئيس حسني مبارك وابنه جمال وغيرهم من أسرته. وشاهدت تسجيلاً لوالد فتاة مسيحية اختطفت في الإسكندرية وقت سماعه نبأ خطفها، فوجدته يبكي ويصرخ بأعلى صوته: أدى حكومتك يا مبارك، يا مبارك اللي انتخبناك. ومع أنني لا ألومه على ما كان يقول أو يفعل بسبب فقدانه لعقله نظراً لمرارة الموقف، ولأن فلذة كبده قد خطفها الغوغاء المجرمون واعتبروها ممن ملكت أيمانهم واستباحوها لأنفسهم، ففي عرفهم أنه مادامت الفتاة وأهلها من المسيحيين إذن فهم كفار ومالهم ونساؤهم غنيمة للمسلمين، فهكذا يعلمونهم ويربونهم في جماعاتهم المتطرفة وأروقتهم المظلمة، وفلسفتهم التي لا ترضى بها إلا الشياطين. لكن ما لفت نظري أن والد الفتاة لم يتذكر في محنته إلا مبارك وحكومة مبارك، وكأنهم هم المحرضون على خطف ابنته، وترحمت على الأيام الخوالي التي لم يكن يسمح فيها للمصري أن يفكر في سره في سب الرئيس أو ضابط بوليس. تذكرت يوم كانت توضع قيادات (الإخوان المسلمون) في قاع المصعد ويهرسونهم بنزول المصعد عليهم في عهد رئيس أسبق. تذكرت أيام حمامات (البوتاسة الكاوية) والماء الساخن الذي كان صلاح نصر يلقي فيه المعارضين له أو للحكومة أو لزبانيته فيتخلص من أعدائه للأبد ولا يُبقى لهم فرعاً ولا أصلاً، تذكرت أيام النبوي إسماعيل وإعلانه نتائج الانتخابات التي لم تقل إحداها على نسبة 98.9%، ولم نسمع من أولئك المتزعمين حركة الشتيمة والإهانات صوتاً معترضاً على ما كان يجري في عهد رؤساء سابقين. أما اليوم فقد كثر القادة والزعماء والمتشنجون والإرهابيون والمطالبون بما يعلمون وما لا يعلمون، والسبب هو محاولة ممارسة الديمقراطية واستغلال الحرية التي لا نفهم معناها الحقيقي في مصر حتى الآن. ولست أعرف بالضبط هل أحيي الرئيس مبارك على محاولته إعطاء الفرصة للرأي الآخر أن يعلو ويعبر عن نفسه، أم ألومه على ما وصلنا إليه من فشل ذريع في محاولة فهمنا وممارستنا للديمقراطية، مع أن المرء لا يلام إذا ما اتخذ جانب الحرية والديمقراطية حتى لو أسيء استخدامها من الآخرين فهذا ليس ذنبه. والعجيب أن الصحافة والإعلام اليوم لا يرى سوى السلبيات والإعاقات والانحراف والشؤم الذي ينتظرنا جميعاً. ومن يقرأ جرائدنا اليوم لا يجد مدحاً واحداً حتى ولو لأمر واحد، أو شكراً يقدم لحكومة مبارك على أي شيء وكأنه لم يعمل شيئاً واحداً حسناً في مدة رئاسته حتى الآن. فنحن شعب بطبيعته لا يرى سوى السلبيات كما قلت، وهو دائم الإشفاق على نفسه، وخبير في إلقاء اللوم وإدانة الآخرين حتى على أخطائه الشخصية. ونحن شعب مستسلم لتعليم القضاء والقدر وغيره من الخرافات التي ملأت عقولنا، فشلت حركتنا وعوقتنا وأصبحنا بفضلها من المتخلفين. لذا دعني أقولها صراحة يا سيادة الرئيس، إن معظم طبقات شعب مصر اليوم ليست مستعدة لممارسة الديمقراطية، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع الحرية التي يتشدق الكثيرون بطلبها. أقولها وأنا أعلم أنني سأثير سخط الأحباء والأعداء، وسيخرج علىّ فرسان الديمقراطية المزعومة وأصحاب الشعارات والتصريحات ليلوموني كما لاموا الدكتور نظيف عندما قال نفس الكلام بأسلوب آخر. لكن هذه هي الحقيقة، فالديمقراطية والحرية التي تُمنح لمن يصفون غيرهم بالكفرة والقردة والخنازير ستكون السكين التي يقتلون بها أنفسهم وغيرهم. والديمقراطية والحرية التي تمنح لقوم يؤمنون ويطبقون مبدأ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ستأكل الأخضر واليابس في بلادنا ولن تبقى على الإخوة أو الأعداء في ديارنا، والحرية والديمقراطية التي تمنح لقادة وزعماء وأمراء وشيوخ يظنون أن تفجير النفس وقتل الأبرياء وخطف القسوس والنساء عمل يثابون عليه يوم القيامة ستكون ناراً تشعل الدنيا بلظى سيشمل الجميع، الفقراء والأغنياء الكبار والصغار الرجال والنساء. ولبرهنة ما قلت وأقول ثانية من أن جُل شعبنا اليوم ليس ناضجاً ولا مستعداً ولا يعرف كيف يستخدم الديمقراطية والحرية المقننة الممنوحة له، أسوق مظاهر عدم النضوج فيما يلي: أولاً: يغلب على شعبنا طريقة النقد الشخصي العاطفي لا المنطقي الموضوعي، ومثالي على ذلك تلك الأصوات التي تنادي بالشعارات “لا توريث ولا ملكية، مصر دولة جمهورية” في اعتراض على فكرة إمكانية ترشيح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية خلفاً لوالده. وسؤالي هو، هل فكر هؤلاء الذين يطلقون مثل هذه الشعارات بطريقة موضوعية في الأمر؟ فلماذا يعترض الناس على ترشيح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية، ألأنه ابن للرجل الذي خدم مصر طيلة هذه الأعوام يصبح مجرداً من حقه كمواطن عادي في هذا البلد أن يرشح نفسه لأي منصب يرى. أعلم أن مبارك وابنه ليسا من الملائكة وهما لا يدعيان ذلك. ما الذي يريده المصريون في رئيسهم القادم ولا يتوفر في جمال مبارك، أليس أقصى ما نتطلع إليه أن يكون رئيساً شاباً متعلماً مثقفاً وصادقاً، تربى وتمرس في المطبخ السياسي سنين طويلة ويعرف خبايا الأمور التي يصعب على غيره إدراكها. لقد رأيته منذ سنوات على إحدى القنوات التلفزيونية الأمريكية يجيب على أسئلة كبار الشخصيات الأمريكية، يومها لم أكن أعرف من هو ولم أكن قد رأيته من قبل، انهالت عليه الأسئلة الصعبة المحرجة، فقلت في نفسي من هو هذا الشاب الذي يمكنه أن يُجيب على هذا الكم من الأسئلة، لم ينكر مشكلة واحدة من المشاكل التي نعاني منها، لا على المستوى السياسي أو الأمني أو الاقتصادي أو الديني، اعترف بتواضع ووضوح وصراحة أن لدينا هذه المشاكل، أعطى تفصيلاً بالتواريخ والأرقام عن مساعي الحكومة في حل كل مشكلة، واعترف أن أمامنا مشواراً طويلاً للتغلب عليها أو بعضها، فنال احترام وإعجاب الجميع. لم يكن اسمه يومئذ مطروحاً على الساحة ليخلف والده. قلت في نفسي أتمنى أن يصبح هذا الشاب رئيساً لمصر فى يوم من الأيام. ورغم التيار المعاكس لرأيي هذا، لكنني مازلت مقتنعاً ومؤيداً أن يكون جمال مبارك الرئيس المقبل، وإلا فأقنعوني بالبديل.
ثانياً: عدم النضج يظهر في أصوات عالية بلا مضمون وعدم طرح بدائل تصلح لما هو متوفر لدينا الآن، فنحن نعرف كيف نصيح بأعلى أصواتنا قائلين “كفاية” لكننا لم نقدم البديل الذي يصلح لرئاسة الجمهورية، ولعل تجربة الانتخابات الرئاسية الماضية لخير دليل على أن “كفاية” كادت أن توقع مصر بأكملها في يد (الإخوان المسلمون) وما أدراك ما (الإخوان المسلمون)، ليس من ناحية تأثيرهم ومعاملتهم وتصريحاتهم وتهديدهم وتوعدهم للمسيحيين فقط بل للمسلمين أيضاً. ولست أعتقد أن أمريكا وحكومتها ولا الشعب المصري وقادته قد وعوا الدرس الذي لقنهم إياه الرئيس مبارك في الانتخابات الماضية. فأمريكا تغطية لتدخلها في سياسيات الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط تطالب رؤساء هذه الدول بمزيد من الديمقراطية والحرية في حكم بلادهم، والشعب متمثلاً في مخلصين ومغرضين يطالبون بمزيد من الديمقراطية والحرية، وكانت نتيجة المساحة المحدودة من الديمقراطية والحرية التي منحها حسنى مبارك للشعب المصري أن فازت الجماعة المحظورة (الإخوان المسلمون) بكل هذه المقاعد في مجلس الشعب. ولو فازت هذه الجماعة بهذه المقاعد نتيجة لممارسة نزيهة حقيقية للحرية والديمقراطية التي أعطيت لها لكنت أول المهنئين، لكن أن تفوز هذه الجماعة بشراء الأصوات من الناخبين، وتوزيع الهدايا والحلاوين، والتهديد باستخدام الأسلحة والسيوف والجنازير ضد من لا يمنحونها أصواتهم صاغرين، فهذا مرفوض مرفوض، وإن دل على شيء يدل على أننا غير قادرين على استيعاب التجربة الديمقراطية التي نحن لها سائلين.
ثالثاً: يبدو عدم النضج أيضاً في ممارسة الديمقراطية والاستفادة من الحرية عندما يُغير القادة والمتزعمون خطابهم وفقاً للضغوط الأمنية في البلاد، ويبدو أنه مضى عصر الشاعر الذي قال: “وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق” فالمؤمنون بالديمقراطية والحرية التي ينادون بها لا ترهبهم دروع الأمن المركزي، ولا حملات زائر الفجر، ولا اعتقالات قانون الطوارئ فهذه ضريبة الإيمان، فالإيمان أمر مكلف، ومن له إيمان بنظرية أو عقيدة أو دين يبقى ثابتاً عالي الصوت، مرفوع الرأس، حتى لو زُج به في غياهب السجون. أما أن نرى المتشدقين بالقيادة والزعامة وقد أخفوا أنفسهم في المغاير والكهوف عندما تطاردهم قوات الأمن، وزجوا بشباب الجامعات والزوايا والحواري في مظاهرات تطلق الشعارات وتقذف الحجارة والقاذورات على المصالح والمتاجر والوزارات، فهذا خير دليل على عدم نضج التجربة الديمقراطية في مصر.
رابعاً: نرى أيضاً عدم النضج في عدم الإطلاع على المتغيرات العالمية وعدم ربط بلادنا بما يحدث في العالم ككل. فإذا ارتفع سعر البنزين قلنا (حكومة مبارك غلت حتى البنزين)، وإذا تراجع الاقتصاد عن معدلاته ألصقناها بحكومة مبارك وترحمنا على أيام كانت فيها البيضة بتعريفة، وإذا ارتفع سعر الدواء كفرنا بحكومة مبارك. ولسنا نعلم أن ارتفاع البنزين هو أمر عالمي لا مفر من الاكتواء به في كل الدنيا، والبيضة أم تعريفة كانت بتنزل من فرخة كان ثمنها خمسة قروش لكنها أصبحت بعشرين جنيهاً اليوم، وبدلاً من أن كانت الفراخ ترضى بنصيبها من أكل الردة والذرة والعيش الناشف أصبحت هي الأخرى متمردة على حكومة مبارك وتريد أن تأخذ الهرمونات والمنشطات وإلا رفضت وامتنعت عن وضع البيض، وبما أن مبارك ومن معه يملكون ميزانية الدولة وهم الذين يأتون بالفلوس من الدول الغنية وصندوق النقد الدولي فلابد لهم أن يوفروا لنا كل السلع والاحتياجات وإلا لن يصلح أن يكون بابا مبارك، تماماً كما يفكر ولداي القاصران.
خامساً: عدم النضج يظهر في السلبية الرهيبة التي يتسم بها شعبنا في تفاعله مع الديمقراطية وصناديق الانتخابات وبخاصة المسيحيين منهم، فنحن أكثر من نصرخ طلباً للديمقراطية والحرية لكننا نتقاعس عن الذهاب إلى صناديق الانتخابات للإدلاء بأصواتنا حتى في اختيار الرجل الذي سيحكمنا. وللأسف أقول إن الجماعات الإسلامية على اختلافها قد أدركت ذلك وهي تشجع وتدفع أعضاءها إلى صناديق الانتخابات بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة. لكن المسيحيين هم أكثر الناس تقاعساً عن تأدية واجباتهم الانتخابية. أعلم أن هناك أسباباً كثيرة وشائكة ومعقدة تدفعهم لذلك، فكثير من المسيحيين يشعرون أنهم لا يعيشون في بلادهم، فهم لا وجود لهم ولا لرأيهم وصوتهم في أي شيء يحدث في مصر، يشعرون أن بلادهم قد سرقت منهم وخطفت من أحضانهم. فكيف أذهب لأنتخب وأعطي صوتي لمن خطف بلادي مني وأقصاني عن مختلف المناصب القيادية وهم جميعاً سواء. ربما يتقاعس المصريون المسيحيون عن تأدية واجبهم الانتخابي أيضاً لأنهم غير مصدقين أن صوتهم سيعمل فرقاً في الانتخابات، فخبراتهم السابقة جميعها سيئة، فإن قالوا لا فالزعيم موجود وإن قالوا نعم فالزعيم أيضاً موجود، فمادامت (لا) لن تعرف من (نعم) فالأفضل عند البعض أن لا يقول (لا) أو (نعم)، ويوفر وقته وجهده حتى لا يصاب بالإحباط ويجلس في بيته ولا يذهب لمهزلة الانتخابات. ربما أيضاً لا يذهب المسيحيون لتأدية واجبهم الانتخابي بسبب الفشل واليأس من أن يكون هناك إصلاح حقيقي في البلد، ففي رأيهم مادامت البلاد تقع في قبضة المسلمين الذين يكرهونهم كمسيحيين فلن تتحسن الأحوال ولن يُرجى خير منها إلى يوم القيامة. ربما أيضاً لعدم المعرفة بأهمية أصواتهم وأن الأمور تختلف اليوم عن البارحة وأن هناك محاولات جادة لخوض التجربة الديمقراطية ولاستخدام أكثر للحرية في مصر. كل هذا أفهمه كمسيحي لكن ما لا أفهمه أن يصرخ المسيحيون لمزيد من الديمقراطية والحرية ومع ذلك لا يذهبون لانتخاب رئيسهم وممثليهم. وقد قيلت لي هذه المعلومة أنه في الانتخابات الماضية كان عدد المقيدين المسيحيين بإحدى الدوائر الانتخابية بمدينة نصر (110000) ناخب مسيحي وقد رسب فيها المرشح المسيحي بينما فاز عليه مرشح (الإخوان المسلمون) لأنه حصل على 8000 صوت، فلو ذهب 10% فقط من مسيحيي مدينة نصر وانتخبوا مرشحهم المسيحي لكانوا من الرابحين.
دعني أقول لك يا سيادة الرئيس مبارك، وسأتبع معك تماماً تلك الطريقة التي علمها لنا سيد الخلق وأعظم المرسلين سيدنا يسوع المسيح، فلقد كان من عادته تبارك اسمه عندما يتكلم إلى البشر أن يذكر لهم حسناتهم ويشكرهم عليها ثم يوجه لهم عتابه في كلمات نبعها المحبة والإخلاص، لم يعمل هذا مع أصحابه ومريديه فحسب، أو مع المخلصين الأمناء منهم فحسب بل حتى مع أعدائه لم يتخل عن طريقته الرائعة. لم يكن السيد تبارك اسمه يعرف المداهنة والرياء فلم يكن محتاجاً لأحد، ولا خائفاً من أحد، ولا مجاملاً على حساب الحق والحقيقة بل كان صادقاً وأميناً، وبهذاً الأسلوب عينه أقول لك عفواً عن كل مرة انتقدناك فيها ولم نقدر ظروفك التي تمر بها داخلياً وخارجياً ولم نفكر إلا في أنك بابا مبارك الذي ينبغي أن تكون عارفاً بكل شيء وتقدر على كل شيء وتملك كل شيء، وعندما لم تشرح لنا موقفك اتهمناك وحكومتك بالعجز والتقصير، عفواً عن كل مرة انتقدناك فيها أو أسأنا إليك ولم نقدم الحل البديل أو الحل أو الرأي الذي يعينك على تحمل مسئولياتك، عفواً عن كل مرة تطاول أحد المصريين عليكم وعلى ابنكم وعائلتكم ونسينا أنه ليس بيننا خلافات عائلية بل خلافات موضوعية حول حبيبة الكل وست الكل مصر. أقول لك أيضاً شكراً لأنك ارتضيت أن ترث ممن كان قبلك تركة خربة مثقلة بالديون والمشاكل، وجماعات متناحرة متصارعة وأعداء متربصين بك وبنا، واستطعت حتى الآن أن ترفع رؤوسنا في المحافل الدولية، وأصبحت الرجل الذي يلجأ إليه في كل القضايا العربية، فأنا كثير الأسفار واللقاءات مع الناس في بلاد عربية مختلفة تُجمع فيها الغالبية العظمى على تقديرك واحترامك.
نشكرك لأجل المشروعات المختلفة التي أتممتها في عهدك، ونحن كمسيحيين نصلي لأجلك كما علمنا كتابنا المقدس أنت وكل الذين هم في منصب. نشكرك لأنك لم تتخل عن الحكم في الانتخابات الماضية وإلا لكنت أسلمت مصر إلى يدي من لا يرحم، وأضعت من الحريات والامتيازات ما استمتع به المصريون وخاصة في الخمس سنوات الماضية.
نشكرك لأنك ارتضيت أن تدرب جمال على لعبة السياسة، ولو كنت مكانك، ورغم (غلاوة) مصر في قلبي، لما أسلمت ابني لهذا المستقبل المجهول، ولكنت قد منعته بالقوة عن الدخول في هذه الحلبة، فحسب معلوماتي أن جمال يمكنه أن يعيش في أية دولة عربية أو أجنبية في رغد وراحة ويستمتع بحياته كإنسان طبيعي، دون هم المسئولية، ومحدودية الحركة، وكلام الجرائد التي تثقل وتحني ظهر أي رجل مهما كانت صلابته وقوته.
نعلم يا سيادة الرئيس أنك إنسان مخلوق من طين مثلنا، لك نقاط عظمتك ونقاط ضعفك، نعلم أنك لست كلي العلم، فالقادر الوهاب العليم بكل شيء لا إله إلا هو سبحانه وتعالى وحده كلي العلم. لكنني اقترح عليك أن تضع واحداً أو أكثر من المسيحيين ليكونوا مستشاريك في الشئون الدينية المسيحية، فليس من العدل أن يكون جميع المسئولين عن شئون الكنائس في مبنى لاظوغلي من المسلمين، وليس من المنطقي أن تحصل على معلوماتك فيما يخص المسيحيين من جماعة من المسلمين حتى ولو كانوا مخلصين. فالمسيحيون وحدهم هم القادرون على توصيل أصواتهم وقضاياهم لك أنت شخصياً. هل تعلم يا سيادة الرئيس أن هناك من أودعوا السجون والمعتقلات المصرية لا لشيء إلا لأنهم مسيحيون (كما يُعرفهم رجال أمنك نشطون). هل تعلم يا سيادة الرئيس أن مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية تضم شباناً مسيحيين محكوماً عليهم بالجنون لأنهم نشطون. هل تعلم يا سيادة الرئيس أن السجون عامرة بمن شرح لهم المولى صدورهم وقبلوا المسيح (لا المسيحية) مخلصاً شخصياً لحياتهم من المسلمين، لا لشيء إلا لهذا السبب، وأحدهم يوجد في زنزانة تحت الأرض بأربعة عشر قدماً في سجن وقد قبض عليه في نفس اليوم الذي أفرجت عنه النيابة بقرار من المحكمة. أكاد أجزم أنك لا تعلم كل هذا، لأنك بشر ولست كلي العلم، لكن إن أردت أن تعلم فنحن على استعداد للقيام بهذا العمل.
نعم عفواً، وشكراً، ولكن. اللهم نشكرك لأجل رئيسنا وحكومتنا وشعبنا. اللهم أطل سلام بلادنا وأمتنا. اللهم أنعم علينا وأحسن إلينا واهدنا، اللهم لا تحمل علينا وزراً ارتكبناه دون إدراكنا، واغفر لنا وارحمنا فأنت إلهنا وربنا. اللهم أبعد عنا الظالمين والطغاة، وجنبنا عذاب القبر الذي كتبته للأشرار والعتاة، إنك المحب الودود الغفور ولك كل الحمد والثناء.