العدد 12 الصادر في سبتمبر 2006 حزب الله.. أم شعب الله؟
لست أدري لماذا عاد بي التاريخ أدراجه إلي يوم النكسة العظيمة، 5 يونيو 1967م، بينما كنت أتابع المعركة التي احتدمت بين من أطلقوا على أنفسهم اسم حزب الله وبين من أطلقت عليهم التوراة شعب الله. تزاحمت الذكريات في رأسي الذي كان صغيراً، ذا اثنى عشر ربيعاً يومئذ. كان رأساً صغيراً لكنه كان مليئاً بحب كبير لمصر وكراهية كبيرة لإسرائيل. ومع أن الحب والكراهية لا يجتمعان كالنور والظلمة في مكان واحد، لكنه هذا ما كنت أشعر به، فمن منا قد تربى على شىء آخر غير الكراهية الشديدة لإسرائيل، فقد علمونا في الكتاتيب والمدارس أن أشد الناس عداوة لنا هم اليهود ومنهم الذين استولوا على أراضي العرب. شردوا أهلها. اعتدوا على نسائها. أغاروا علينا فيما عرفناه في المدارس بالعدوان الثلاثي. هم الذين أرادوا سرقة قناة السويس منا، وهم الذين يكرهون العرب ويريدون أن يذبحونا جميعاً. علمونا أنه كان لنا ملك يحب الإنجليز وهو الذي جلب الاستعمار إلى بلادنا، لكن هيهات فقد قمنا بالثورة وطردنا الملك، أممنا قناة السويس وهزمنا إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، أعلنا أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق. عقدنا المؤتمرات الصحفية وقلنا سنلقي إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل في البحر. أعلنا قبل يوم النكسة العظيم أن قواتنا المسلحة مستعدة ومدربة وقادرة على تحرير فلسطين، إلى الدرجة التي دفعت بقادة جيشنا في ليلة 5 يونيو المشئومة، وفي ثقة من أنفسهم، جعلتهم يسهرون في حفل صاخب إلى الصباح، ولم يفيقوا من سكرهم إلا على طلقات الصواريخ التي أنهت على سلاحنا الجوي في دقائق معدودات. كل هذا بالرغم من تحذير السوفيت للقيادة المصرية يومئذ وإبلاغهم بساعة الصفر التي وضعتها إسرائيل لضرب جيشنا المسكين. (يمكنك الرجوع إلى مذكرات محمد حسنين هيكل للتأكد من هذه الحقائق). تزاحمت في رأسي كل هذه الصور والحقائق والأفكار واستمرت الذكريات تتوارد إلى ذهني. يوم أفقت من نومي في صباح 5 يونيو الساعة 9 صباحاً على صوت انفجار قذيفة صاروخية في الهواء، جعلني أقفز من فراشي مذعوراً. وبدأت استمع إلى صوت ذلك المذيع الشهير أحمد سعيد وهو يلقي البيانات التي تملى عليه بكل حماس ويقول وكأنه يتغنى بانتصار ساحق لقواتنا المسلحة على العدو الإسرائيلي الجبان، وأن طائراتنا أغارت على مواقع العدو فدمرت له حصونه وبطاريات صواريخه، وقتلت جنوده وعادت إلى قواعدنا سالمة. ثم يأتي البيان الثاني: أغارت قوات العدو الصهيوني بعشرة طائرات على قواتنا فقامت طائراتنا بالتصدي لها وأسقطت منها ثمانية طائرات ولاذت الاثنتان بالفرار، وعادات طائراتنا إلى مواقعها سالمة. وكصغير أحب مصر وأكره إسرائيل كنت أقفز في منزلنا فرحاً وأسرع لأخبر الأهل والجيران بآخر الأنباء العسكرية فيكبر الكل، الله أكبر، الله أكبر، اللهم انصرنا على القوم الكافرين. وبين البيان والبيان تلهب أم كلثوم وعبد الحليم وفايدة كامل وشريفة فاضل وعبد الوهاب مشاعرنا وقلوبنا بأناشيدهم الوطنية، التي جعلتني وأنا في سن الثانية عشرة أكتب خطاباً لقائد الجيش الذي لم أكن أعرف اسمه ولا عنوانه، أخبره فيه بأنني أريد أن أموت شهيداً في حب مصر وأكرر فيه كلمات المغني عبد الحليم أموت أعيش مايهمنيش، دا كفاية أشوف علم العروبة عايش.
واستمرت هذه النشوة والبيانات تتوالى حتى مساء 5 يونيو 1967 حيث لم يسمح لنا أن نضئ أي أنوار لا في البيوت ولا في الشوارع، وقالوا هذه إجراءات ومتطلبات الحرب. وصبرنا فكله يهون في حب مصر. وبعدها بأربعة أيام وبالضبط في 9 يونيو 1967 كنت أتطلع من شباك حجرة الجلوس في منزلنا الذي كان وليس اليوم بشارع على عقدة بحى الأربعين في السويس، ورأيت ما كاد أن يصيبني بحالة من الإغماء والهستيريا في نفس الوقت، رأيت عسكريين يرتديان بذلة العسكرية، وقد تقطعت أكثرها. بأرجل متورمة، وشعر أشعث، ووجوه لم تغسل كما لدهر من الزمان. لست أدري من أين جاءا، لكني رأيتهما وقد أحاط بهما الناس وأتوا لهما بالماء البارد للشرب والطعام وأمطروهما بالأسئلة. ولا أذكر من إجاباتهما إلا قولهما إننا لم نحارب، دكت مطاراتنا في الخمسة دقائق الأولى من الحرب، انكشفنا في الجو، فهربنا كل إلى حال سبيله، نجا البعض ومات أغلب عسكرنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وبينما كان صوت المذيع العظيم يقرأ بياناً من بياناته المجلجلة ويطلقها من مذياع كان بيد واحد من الذين أحاطوا بالجنديين، انفجر أحد الجنديين في البكاء وقال: “دا كله كدب، طائرات إسرائيل تحصد رؤوسنا في صحراء سينا ولا تتصدى لها قواتنا، فليس لدينا طائرات تتصدى لها، وإن كان لدينا فلن ترجع سالمة ولا محطمة، لن ترجع على الإطلاق”. وانخرطا في بكاء ونحيب وصراخ وعويل وكأنهما امرأة ثكلى تبكي على فلذة كبدها. يومها فقدت الثقة بالراديو، ونشرة الأخبار والأغاني الوطنية والحكومة والقادة والثورة والضباط الأحرار والأسرى والأشرار.
لست أدري لماذا جاء كل هذا إلى رأسي وأنا أشاهد السيد نصر الله زعيم حزب الله وهو يعلن انتصار حزبه وشعبه ويردد نفس النغمات التي سمعتها في حرب يونيو 67، فعبارات النصر وتكبيد العدو الخسائر الجسام، وإجباره على الانسحاب والصمود، والكرامة والحرية والجهاد في سبيل الله، والشهداء الأحياء عند ربهم يرزقون، والمحاربون البواسل، والعدو الخسيس الجبان، ورجالنا الأبطال والشجعان، كلها عبارات فارغات محفوظات متكررات بنفس الرتابة ولنفس الأغراض والأسباب. فحزب الله قد كسرت شوكته، ولبنان قد ضاعت هيبته، والأبرياء القتلى والجرحى والمعوقين قد زادوا عن حد التصور والمعقول، وإسرائيل تحصل على المساعدات والأموال ويتعاطف معها العالم كله، ونصر الله وحزبه فقدوا مكانهم ومع ذلك يعلنون نصرهم!!
إن كانت الحكومة المصرية يومئذ استطاعت أن تخفي عنا الحقائق لعدة أيام فهذا أمر يسير يمكن فهمه، فلم تكن هناك وسائل الاتصال المتوفرة اليوم لمعرفة الحقائق، لكن أن تخفى الحقائق في عصر الأقمار الصناعية والإذاعة والتليفزيون بتكنولوجياتها المتقدمة فهذا ما لا أعرف له تحليلاً أو تفسيراً. فالأمر أبعد وأعمق من تحليل حرب بين حزب الله.. وشعب الله. فالأمر متعلق بالعقلية العربية والشرق أوسطية. عقليتنا جميعاً حكومات وشعوباً. والبحث في هذا المضمار ليس كفراً ولا خيانة لبلادنا العربية ولا تفضيلاً لإسرائيل على حزب الله، فالبحث ما هو إلا لنعرف أنفسنا ونحكم عليها قبل أن يحكم علينا من ليس منا، ونصحح مساراتنا عسى أن يرضى المولى علينا ويغير ما بأنفسنا بعد أن نحاول نحن أن نغير ما بها.
ولدراسة العقلية العربية والشرق أوسطية يرى العلماء والمحللون والمؤرخون المحليون والعالميون، على اختلاف طوائفهم، الأصدقاء منهم والأعداء، وهو في شبه إجماع، أن هناك سمات تتسم بها العقلية العربية والشرق أوسطية وقوالب صبت فيها عقولهم فلم تحد عنها لمئات السنين الماضية. ويرى بعض المحللين المسيحيين الروحيين للأمور أن العقول العربية والشرق أوسطية تتحكم فيها أرواح غي وشر وعداوة وكبرياء وتدين وقتل وإرهاب فينتهي بها الأمر إلى ما كانت عليه بالأمس وما هي عليه باليوم وما ستكون عليه غداً.
أما هذه السمات الواضحة في العقلية العربية أو الشرق أوسطية فهي كما يراها البعض، وأنا منهم والعهدة على الرائي، أنها موروثة من ملوك فارس. وتعبير ملوك فارس جاء في تنزيل الحكيم العليم في سفر دانيال النبي، الذي وصفه المولى تبارك اسمه أنه الرجل المحبوب، والأصحاح العاشر والعدد الثاني عشر، إذ يقول الوحي على لسان نبي المولى دانيال: “فقال لي لا تخف يا دانيال لأنه من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدام إلهك سمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك ورئيس مملكة فارس وقف مقابلي واحداً وعشرين يوماً”.
أما من هو رئيس مملكة فارس ومن هم ملوك فارس، فيجمع المفسرون على أنه شيطان ذو رتبة كبيرة في عالم الشياطين، وملوك فارس هم شياطين أو أرواح شريرة مسيطرة على منطقة المملكة الفارسية القديمة، إيران الحديثة.
والقصة ببساطة كما وردت في تنزيل الحكيم العليم أن نبي الله دانيال رأى رؤية من عند المولى تبارك اسمه ولم يفهمها، فقرر أن يصلي ويصوم ويسأل العليم بكل شىء أن يفسر ويشرح له هذه الرؤية، ومنذ أن بدأ دانيال بالصلاة والصوم أرسل له القدير على كل شىء ملاكاً خيراً من عنده لشرح الرؤية لدانيال وتفيهمه الأمر، ولم يصل الملاك إلى دانيال إلا بعد واحد وعشرين يوماً، ثلاثة أسابيع طوال، والغريب أن الملاك أخذ يشرح لدانيال لماذا تأخر عن المجىء ويكشف له ما يحدث من حرب بين الخير والشر، بين ملائكة الله وملائكة الشيطان الساقطين، تلك الحرب التي تدور في السماويات التي لا بد من فهمها حتى نفهم ما نحن عليه اليوم، قال له إنه خرج بمهمة تفهيمه الرؤية منذ اليوم الأول لبدء صلاته – أي دانيال – وصومه وتضرعاته، لكن رئيس مملكة فارس وهو ملاك شرير ساقط ذو رتبة كبيرة كما ذكرت سابقاً وقف قبالته وأعاقه ومنعه من توصيل رسالة المولى تبارك اسمه إلى دانيال في اليوم الأول لصلاته وتضرعاته. والحقيقة أكون في عداد الكاذبين أنا وغيري إن قلنا إننا نعرف كل أسرار هذه القصة أو أن لدينا إجابة شافية لكل الأسئلة التي تدور في أذهان البعض. فقد يسأل السائل كيف يمكن للشيطان وجنوده أن يقفوا ضد مرسل من الله ويعيقوه عن تتميم مهمته لمدة واحد وعشرين يوماً. كيف يتجرأ الشيطان على تحدى قوة الله ويبدو وكأنه منتصر لمدة واحد وعشرين يوماً؟ أين كان عقله؟ هل كان يظن أنه بقادر أن يقهر قوة القدير ويمنع الرسالة تماماً عن الوصول إلى نبي المولى؟ الحقيقة لا إجابة عندي على كل هذه الأسئلة. أما ما هو واضح من تنزيل الحكيم العليم أن المولى قد يترك الشيطان يتصرف وكأنه منتصر وكأن المولى الذي نستغفره ونتوب إليه عاجز عن التصدي له، لكن هيهات فالمولى جالس على العرش متسلط في مملكة الناس يقول فيكون، يأمر فيصير لكن ما يهمنا في هذا المقام هو ما يعمله ملوك فارس في الماضي ومازالوا يكررونه ويعملونه حتى اليوم. فملوك فارس اليوم يعلنون أنه سيبيدون إسرائيل وأن إسرائيل شعب لا بد أن يمحى من وجه الأرض وأنهم ماضون في تكملة برنامجهم النووي ويقفون ضد مشيئة العالم كله ويتحدون الكل وكأنهم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة وكأن رئيس مملكة فارس هو المتسلط في مملكة الناس يصنع ما يشاء بالضبط كما فعل رئيس مملكة فارس الروحية في القديم مع المرسل من الله إلى نبيه دانيال. أين هي عقول القادة في إيران؟ هل ستتركهم أمريكا وإسرائيل والعالم كله لتكملة برنامجهم النووي ثم يبيدون إسرائيل من الوجود ويقهرون المجتمع الدولي، أم أن رئيس مملكة فارس في القديم ما زال حياً يمارس أعماله الشريرة بنفس الطريقة، وهو الذي كان منذ البدء قتالاً للناس؟ فهو يسر بأن يرى الشعوب في تحد سافر لبعضها البعض. هو لا يكترث بأن تقوم حرب عالمية ثالثة لتقضي على ثلث الأرض. ألم تحجز إيران مجموعة من الأمريكان لمدة شهور قبل إطلاق سراحهم؟ ألم يخطف حزب الله جنديين إسرائيليين ويحتجزهما فجر الوبال على بلاده والعرب، بل قل وعلينا أجمعين؟ أليس هذا ما فعله ملك فارس في القديم؟ فهو لا يسر بشىء قدر سروره من رؤية الدماء البرئية دماء اللبنانيين والإيرانيين والفلسطينيين والإسرائيليين تهرق دون حساب.
هل بضعة صواريخ إيرانية تلقى على إسرائيل من بطاريات حزب الله ستكسب الحرب الفلسطينية الإسرائيلية وسترجع القدس إلى حكم الفلسطينيين، وستكسر شوكة أمريكا وإسرائيل؟ إن كان لا وهذا ما يعرفه يقيناً قادة لبنان وإيران وفلسطين والعالم أجمع، فلماذا لا يستخدم العرب عقولهم ويطلبون السلام ويجدوا في أثره ويكفوا عن استخدام شماعة فلسطين وإسرائيل لتحقيق مآربهم السياسية والدينية غير المشروعة.
ألا يقرؤون التوراة التي فيها هدى للناس ورحمة ويتعرفون على ملوك فارس في القديم وكيف جلبوا الشر والهزيمة على مملكة فارس وقد كانت في يوم من الأيام من أعظم ممالك الأرض فأصبحت على ما هي عليه هذه الأيام من ضعف وتفكك واضطراب.
إن ملوك فارس في القديم تلك الأرواح الشريرة هي التي تتحكم في ملوك العرب ودول الشرق الأوسط التي تنتهج نهجهم. ولعل أعجب ما تتسم به العقلية العربية والشرق أوسطية هو:
1- أنهم لا يعترفون بأخطائهم ولا يتعلمون منها. في حديث مع موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي على قناة إن بي سي الأمريكية سأله المحاور، اعتمدتم في خططكم العسكرية في 5 يونيو 1967 على عنصر المفاجأة، وأيضاً في كثير من حروبكم وغاراتكم على نفس العنصر، فلماذا تكرر نفسك، أجاب موشى ديان لسبب واحد أن العرب لا يتعلمون من أخطائهم وهم لا يأخذون المبادرة، هم يبدؤون في التحرك بعد فوات الأوان.
نعم نحن لا نتعلم من أخطائنا بل نحن نكرر أنفسنا في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية الخارجية والداخلية، ونحن بذلك نعطي الفرصة لإسرائيل ومن وراء إسرائيل أن ينفذوا ما يريدون في بلادنا العربية متذرعين بأننا نحن الذين اعتدينا عليهم، والبادي أظلم. إن نظرة بسيطة وتحليلاً سريعاً للبيانات الصادرة عن حزب الله وعن شعب الله في الحرب اللبنانية الأخيرة يؤكد ذلك.
فالسيد نصر الله يخرج ليقول هزمنا إسرائيل. نحن نمطرهم بالصواريخ. سوف نصعد الحرب ونضرب تل أبيب. والعقلية العربية تقول الله أكبر، وإسرائيل تقول نحن ندافع عن أنفسنا ونطالب بنزع سلاح هذه الجماعة الإرهابية حزب الله. عندما يقع صاروخ في حيفا ويقتل اثنين أو ثلاثة وقد يكونون حتى من العرب المسلمين، تنقل صحافة حزب الله وتليفزيونه العرب وهم يرقصون ويعانقون بعضهم البعض، وعندما تقتل إسرائيل عائلة مدنية لبنانية يخرج رئيس وزرائها ليعتذر عن قتل المدنيين. وكأنهم أبرياء من قتل المدنيين. لماذا لا نتعلم فن الحرب، فن الصحافة والإعلام، فن اكتساب الرأي العام قبل أن تخطف جنديين إسرائيليين فيتحطم البلد العظيم لبنان، يُقتل أفضل رجالها وتشرد أسرها، وترجع خمسين عاماً أخرى من التخلف عن الركب العالمي.
إن صحفيينا لا يتعلمون من أخطائهم فهم ينتقدون حزب الله ثم في النهاية يتغنون بنصره ويعتذرون له خوفاً على مصالحهم وجبناً من جانبهم.
العرب لا يتعلمون من أخطائهم ففي خلال الخمسين سنة الماضية لم يتفق الوزراء أو الرؤساء العرب على قرار واحد لا في حرب أو سلم، وهم مستمرون في عقد اجتماعاتهم في الجامعة العربية، ولا عجب، فالعالم لا يأخذ بمحمل الجد أية اجتماعات تعقد في الجامعة العربية لاتخاذ أي قرار، فالعالم يعلم نهاية كل اجتماع في هذه الجامعة. إنهم ينددون ويشجبون ويهددون ويتوعدون لكن لا يعلمون وهذا هو بيت القصيد.
إن العرب لا يتعلمون من أخطائهم فقد ورطنا أنفسنا في حرب اليمن، تلك التي لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل، ثم تخيلنا أننا زعماء العالم العربي فورطنا أنفسنا في الدفاع عن فلسطين فهزمنا في 67 وما قبلها، وثغرنا في 73 ثم ذهبنا صاغرين إلى الكنيست لنمد أيدينا المرتعشة إلى أعدائنا لنطلب الصلح مع عدونا.
العرب لا يتعلمون من أخطائهم فكم من مرة وجه الرئيس حسني مبارك تحذيراً لدكتاتور العراق وغيره أن ينسحب من الكويت، وأن يقي نفسه وشعبه شر القتال. ولم يتعلم صدام ولا طالبان ولا بن لادن ولا نصر الله، ولا حماس ولا ملوك فارس من أخطائهم فهذه العقليات لا تصمت إلا تحت قصف الطائرات والمدافع. وعندها يطلبون وقف إطلاق النار ويتوسطون بالذين نصحوهم أن لا يخوضوا مثل هذه الحرب ليطلبوا من إسرائيل وقف النار وعندما تجيب طلبهم يدعون النصر على العدو الإسرائيلي.
أما السمة الثانية التي تتسم بها العقلية العربية والشرق أوسطية هي أنهم يدفنون رؤوسهم في التراب والعالم كله يتفرج عليهم ويحاول تنبيههم، ولا يخرجون رؤوسهم إلى بعد فوات الأوان ومنهم من لا يخرجونها على الإطلاق حتى تخرجهم أيدي الأمريكان من حفرهم وخنادقهم وتحرك رؤوسهم كما تشاء.
أتذكر ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الإعلام العراقي بالقرب من مطار بغداد يوم اقتحمت القوات الأمريكية العاصمة العراقية. قال الصحاف إن الجيش العراقي العظيم مستعد أن يدحض (العلوج) الأمريكان وسيتصدى لهم بكل قوة ولن تتمكن أمريكا من دخول العراق. أجابه واحد من الصحفيين بالقول يا سيادة الوزير اللواء، من هؤلاء الجنود الذين يسيطرون على مطار بغداد، نحن نراهم وراء سيادتكم أليسوا هؤلاء جنوداً أمريكان. قال الصحاف لا هؤلاء القوات العراقية. وغني عن القول أنهم لم يكونوا عراقيين بل أمريكان، لكن سياسة دفن الرؤوس في الرمال هي سمة غالبة على العقلية العربية والشرق أوسطية. ذلك هو الصحاف الذي حاول أن يسلم نفسه إلى القوات الأمريكية فرفض الأمريكيون حتى استقباله أو التحدث معه. وعندما سئل رامسفيلد في مؤتمر صحفي لماذا لم تقبضوا على الصحاف وتأتوا به إلى أمريكا ولماذا رفضتم طلبه بتسليم نفسه للقوات الأمريكية. رد رامسفيلد، الصحاف لم يؤذنا في شىء، الصحاف لم يعمل شيئاً سوى أنه كان يتكلم فقط، ونحن لا نكترث بمن يتكلمون فقط، فالذين يتكلمون كثيرون، نحن لا نكترث إلا بمن يعمل.
نعم فسمة من سمات العقلية العربية والشرق أوسطية أنهم يتكلمون فقط ويدفنون رؤوسهم في الرمال. فنحن أكثر الدول كلاماً عن حقوق الإنسان، الديمقراطية، الجمهورية، الحرية، التحرير، الاشتراكية.. لكننا أقلها عملاً بهذه المبادئ السامية.
3- العقلية العربية والشرق أوسطية غالباً ما تحركها المشاعر والعواطف لا العقل والمنطق. عجبت لتلك الثورة العارمة والحرائق المدمرة وعدد المسلمين الذين فقدوا محالهم وأشغالهم ومتاجرهم وأرزاقهم في كل العالم بسبب ردود أفعالهم تجاه قضية الرسوم المسيئة لنبي الإسلام. وبالطبع أنا لا أوافق على الإساءة لأي دين مهما كان، لكنني قارنت بين هذه العقيلة وعقلية الأمريكان والأوربيين عندما أنتجت هوليود أفلاماً مسيئة للسيد المسيح، أو عندما كتبوا عنه ما يسىء إليه وإلينا جميعاً، لم يتحرك الأمريكان أو الأوربيون المسيحيون ليحرقوا سفارات أو يكسروا محالاً وأشغالاً، بل تكلم المثقفون منهم والكتاب الصحفيون بكل حكمة وعقل وفندوا الادعاءات الكاذبة وتركوا المولى تبارك اسمه يدافع عن نبيه ودينه ورسالته ففشلت خططهم وآمالهم.
وبالطبع لا أتكلم عن الموقف الدال على الجبن والخوف الذي اتخذته الكنيسة المصرية تجاه الشيخ محمد متولي الشعراوي عندما اتهم السيد المسيح على قنوات التليفزيون المصري، الذي يموله المسيحيون من ضرائبهم كما المسلمين، أنه تبارك اسمه دخل مع خمسة عذارى إلى داخل ,أغلق الباب عليهم، وقال لسامعيه ومشاهديه تخيلوا واحداً يدخل مع خمسة عذارى ماذا سيفعل بهن. وهو ما خالف به حتى تعليم الإسلام الذي يشهد أن المسيح عيسى بن مريم كلمة الله وروح منه وأنه الوحيد الذي لم يمسه الشيطان وأنه الوحيد الذي عاش بلا خطية فلم يحتج لمن يغفر له ذنبه ولا يرفع عنه وزره وهو من كان وجيهاً في الدنيا والآخرة. كل هذا ألقاه سيادته جانباً لمثل جاء بالإنجيل وما كان له من موضع لتفسير ما أنزل المولى تبارك اسمه في التوراة والإنجيل، لكنها العقلية العربية والشرق أوسطية التي تتحرك بالعواطف وتستخدم العاطفة والمشاعر لتحقيق مآربها خيراً كان أم شراً.
ألم يستخدم ملوك فارس تعبيرات كالجهاد في سبيل الله للاعتداء على المسلمين في العراق وغيرهم، وتهييج الدول حتى الإسلامية بعضها على بعض، والكل يدعي أنه يدافع عن دين الله وفي سبيل الله، والكل يعلن أن أمواته هم شهداء عند ربهم يرزقون، ترى ماذا سيفعل شهداء إيران والعراق عندما يتقابلون في الجنة إن كانوا لها داخلين. ترى ماذا سيفعل شهداء الشيعة والسنة في حالة دخولهم الجنة. ترى ماذا سيكون رد فعل شهداء المسلمين وشهداء اليهود والمسيحيين إن تقابلوا في مكان بعد بعثهم أحياء. فالكل يعلن أنه حزب الله وأنه شعب الله وأن هذه الحرب هي حرب الله، وفى النهاية جميعنا خاسرون.
إن الحل الوحيد لهذه الفوضى العسكرية والدينية والروحية لهذا العالم هو أن يقبلوا من كتب عنه أنه رئيس السلام. الذي لم يصعد إلى سمائه إلا بعد أن قال لأتباعه ومريديه: “سلاماً أترك لكم سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا”. فحزب الله أو شعب الله هو ذلك الذي يتبع السلام ويجد في أثره، هو من يستطيع أن يحب أعداءه ويبارك لاعنيه ويصلي لأجل الذين يسيئون إليه ويطردونه ويضطهدونه. ومن لا يؤمن بهذا ويفعله فهذا ليس من حزب الله ولا من شعب الله. فالله من الاثنين براء.
اللهم أنعم علينا بسلامك ورحمتك واجعلنا من حزبك وجماعتك، وارحمنا من أنفسنا وأطماعنا بطاعتك، وعلمنا الحكمة والمعرفة بحكمتك، اللهم أعطنا أن نتعلم من نقائصنا وأخطائنا، ولا ندفن رؤوسنا في الرمال وعقولنا، اللهم لا تسلمنا لمشاعرنا وعواطفنا وأهوائنا اللهم دعنا نستخدم هبتك العظمى لنا عقولنا، اللهم استجب صلاتنا ودعاءنا من أجل الأبرياء في فلسطين ولبنان وإسرائيل والعراق وأفغانستان وسائر بلادنا، اللهم أنقذ الأبرياء من الدماء، والعرب من العار وضع حداً لتجبر الأشرار والكفار وقنا عذاب القبر والنار، اللهم احم أطفالنا من ويلات الحرب، وشبابنا من كل جهل وضيق كرب، جلبناه على أنفسنا أو جلبه علينا يهود أو عرب، اللهم اعف عنا وارحمنا بمحبتك يا رحيم، واسمع دعاءنا فأنت السميع يا رب العالمين. آمين