لحياة كل منا ملفان خاصان به, الأول سنأتي على ذكره لاحقاً, أما ثانيهما فيُفتح للمرء من الأرض يوم مولده, وهذا الملف يسمى باسم صاحبه ويحتوي على مكان وتاريخ ميلاده وبقية بياناته الأساسية التي تُعرفه كإنسان جديد قد أضيف لمن سبقه من المساكين الذين ولدوا على هذه الأرض من قبله. أما الملف الأول فموجود لدى المولى سبحانه وتعالى. وهذا يتضمن كل ما يتعلق بميلاد الإنسان وحياته وموته ثم مصيره في الآخرة إلى أبد الآبدين. وحيث أن المولى تبارك اسمه عليم بكل شيء, وهذه إحدى صفاته جل شأنه التي لا يعتريها تغيير أو تطرأ عليها حادثة طارئة, فملفات حياتنا معروفة عنده تبارك اسمه منذ الأزل وإلى الأبد, وحتى قبل أن يولد الإنسان.
أما ما دون في الملف الثاني فهو كل ما صدر عن حياتنا منذ اليوم الأول إلى آخر أيامنا على الأرض. وتوجد أيضاً ملفات للحكومات والرؤساء والوزراء وكل من هم في منصب فليس عند العلي محاباة, وعلى قدر أهمية الشخص أو الحكومة أو السلطة على قدر ما تكون أهمية ملفه وما يدون فيه, وهذا ما يحدد نوع الحساب, المكافأة, أو العقاب يوم لا ينفع مال ولا بنون ويكون الأمر يومئذ لله, ولله وحده تبارك اسمه.
والمسيحية لا تؤمن بالقضاء والقدر والمسيحيون لا يؤمنون أن الله كتب عليهم أعمارهم وأقدارهم وربطها في أعناقهم رباطاً موقوتاً. وتفسير المسيحية لعدم إيمانها بالقضاء والقدر هو أن المولى تبارك اسمه قد وهبنا كبشر هبة ميزنا بها, ولم يميز بها غيرنا من كل مخلوقاته تبارك اسمه, ألا وهي هبة العقل وحرية اتخاذ القرار إما بأنفسنا عند بلوغنا ذلك العمر الذي فيه نستطيع أن نفكر بأنفسنا ونتخذ قراراتنا بأنفسنا, وإما بوالدينا اللذين يشتركان معاً في الإتيان بنا إلى هذه الأرض.
فالإنسان في المسيحية مُخير وليس مُسَيراً, ولقد انتهى أحد الفلاسفة في العصر الجديد إلى أن الإنسان مخير في أن يُسير وهذا فيما يتعلق بتفكيره, وحكمه على الأمور واتخاذ القرارات التي إما أن ترفعه إلى قمم المجد وإما أن تخسف به في هوة لا خروج منها. وهناك قانونان, أو قوتان, أو شخصان لا بد أن ُيخيَر الإنسان في أن يُسيَر بأحدهما. أولهما هو العزيز الحكيم الذي لا يقارن بغيره ولا يضاهيه ويساويه إلا هو نفسه سبحانه وتعالى. وثانيهما هو الوسواس الخناس الذي ترك له المولى تبارك اسمه فسحة من الوقت والحرية ليفعل ما يشاء بشرط أن يظل سبحانه المتسلط في مملكة الناس, والإنسان مخير في أن يختار أن يسيره أحدهما, فيخضع لقوانينه ويمتلئ فكر المرء من مشيئته. فمن اتبع المولى تبارك اسمه حق عليه القول إن “كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله”. وأما من اتبع الرجيم فحق عليه العذاب الأليم لأن الشيطان كان منذ البدء قتالاً للناس، وفي النهاية يذهب الإنسان مع من يختار إلى المصير الأبدي. إما مع المولى الكريم تبارك اسمه في نعيمه وإما مع الشيطان الرجيم في جحيمه ويصبح والعياذ بالله من الخاسرين.
وأكثر الناس يجهلون أن لكل منهم ملفان, فالعارفون يعرفون أن لهم ملفاً واحداً في الأرض، أما عن ملف السماء فأغلبهم لا يعرفونه ولا سمعوا عنه. مع أنه مطبوع على ضمائرهم وفي تفكيرهم وهم عنه غافلون. لذا يتعامل الناس مع ملفاتهم التي على الأرض وكأنهم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة فيما يدونونه فيها وكأن أحداً لن يراجع ولا يطابق ملف الأرض بالسماء ويظنون أنه بإمكانهم طي ملفاتهم وإخفاءها عن الجميع حتى عن أعين القدير جل شأنه. والبعض لا يكتفي بأن يتصرف في ملفه الخاص به فقط بل يحاول أن يعبث بملفات الآخرين وكأنه وكيل المولى تبارك اسمه على الأرض، الوظيفة التي لم يمنحها الخالق لأي مخلوق.
والفرق بين ملفات الأرض والسماء فرق بين شاسع. فملفات الأرض تخضع للكذب والتلفيق والتزوير والعبث والزيادة والنقصان بيد البشر، أولئك الذين لا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا أن هناك صورة كاملة من ملفاتهم الأرضية محفوظة في خزانة السماء. أما ملفات السماء فلا يمكن تزويرها ولا العبث بها والزيادة أو النقصان بمحتوياتها.
ملفات الأرض قد تُغلق وُتفتح بأمر قاض أو مسؤول كبير في الدولة أو أجهزة الأمن, أما ملفات السماء فتُفتح وتُعدل بعلمه جل شأنه وتحت إشرافه. ملفات الأرض تُسرق من قبل صغار أو كبار الموظفين أو المسؤولين وبطانتهم الذين لهم طرقهم المشروعة وغير المشروعة للوصول إليها وإخفائها, أما ملفات السماء فهي محفوظة بأمر القدير على كل شيء.
ولعل مصيبة المصائب أن يعبث الخلق بملفاتهم وملفات الآخرين, يظنون أنهم قادرون على فتحها حينما يشاءون وغلقها عندما يريدون. لكن هيهات.
فلقد عصى آدم ربه وأكل من الشجرة المحرمة وقرر الاختباء من القدير وغلق هذا الملف إلى الأبد, لكن المولى بحث عنه وناداه وفتح هذا الملف مرة أخرى, ملف فساد الطبيعة البشرية الموروثة, ملف الفداء والخلاص للإنسان الساقط الهالك.
هكذا أيضاً قتل قايين هابيل أخاه, وظن بأنه قادر أن يغلق هذا الملف للأبد وأن يخفيه عن المولى تبارك اسمه. فلقد سأله جل شأنه، أين هابيل أخوك، فرد بغباء ولؤم ولف ودوران على القدير قائلاً: “أحارسٌ أنا لأخي” وظن أن ملف أخيه لن يعرف به أحد وقد أغلق إلى الأبد. فقال له المولى ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك. لقد ارتكب نبي الله داود كبيرتيه من زنى وقتل وأغلق الملف وتزوج بامرأة القتيل التي كان قد زنى بها قبل قتل زوجها, فأرسل له المولى نبيه ناثان ليفتح له الملف مرة أخرى ويذكره بما عمله ويطبق عليه عقاب السماء, وكما زنى بامرأة صاحبه زنى ابنه الخارج من صلبه بعشرة من نسائه في وضح النهار. وزنى ابنه الآخر بأخته ثامار ابنة داود, وكما قتل صاحبه مات ابناه أمنون وأبشالوم مقتولين شر قتلة, فملفات السماء لا تغلق بالتجاهل, أو التقادم, أو كبرياء البشر وغطرستهم. لقد قتل نبي الله موسى الحليم رجلاً مصرياً ودفنه وظن أنه أغلق ملف هذا الرجل للأبد, فما هي إلا ساعات حتى سمع الفرعون وفتح الملف واضطر كليم الله أن يهرب إلى الصحراء لمدة أربعين سنة جزاءً له من رب العباد.
لقد دبرت إيزابيل امرأة آخاب أحد ملوك إسرائيل لقتل مواطن من شعب الله في مملكتها, يدعى نابوت اليزرعيلي, وادعت زوراً أنه أهان الله والتوراة والملك فانقض عليه الظلمة المتوحشون من الشعب ورجموه بالحجارة, وقالت لزوجها قم ورث حقل نابوت الذي لم يُرد أن يبعه لك بفضة, وظنت أنها أغلقت ملف القتيل للأبد، لكن العادل القدوس الحق لم يكن قد أغلق ملف نابوت، فقال لآخاب الملك، في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت اليزرعيلي تلحس دمك, وقد كان, وتحقق كلام الحق سبحانه وتعالى.
هذا ما جعلني أجلس وأتفكر في حالة مصر اليوم والبلاد العربية, ترى كم من ملف طواه الزمان, أو طواه السجان ولم يطوه الرحمن. ما أكثر الملفات في بلادنا العربية والتي ظن المسؤولون أنها قد أغلقت واختفت عن أعين الناس, وقد نساها الخلق وكأن شيئاً لم يكن. فملف الغزو الإسلامي للأقباط في مصر والفينيقيين في سورية ولبنان, والكلدانيين في العراق, واللوبيين في ليبيا والكوشيين في الحبشة والبربر في الجزائر وغيرهم لم يغلق لدى الرحمن حتى الآن, حتى لو قال الغزاة إنهم يحققون وينفذون أوامر الرحمن في نشر دينه الجديد. فهذه نقرة وهذه نقرة, فنشر الدين الجديد لم يكن يتطلب قتال الأبرياء وسلب الغنائم وتسخير أهل البلاد لخدمة الغزاة وإجبارهم على ترك دياناتهم والإيمان بالدين الجديد ودفع الجزية وهم صاغرون. فلقد انتشرت المسيحية وأطاحت بأعظم الإمبراطوريات دون أن يسفكوا نقطة دم واحدة, إلا دماءهم الزكية التي غيرت خريطة العالم. فالإيمان لا يصح إذا كان تحت تهديد السلاح, والخوارج لا ينبغي أن يُجبروا على التوبة والرجوع للدين الجديد إذا ما قرروا الخروج عليه والارتداد عنه, فالإنسان حر يعبد من يشاء ويرفض من يشاء والفصل في الأمر هو لإله السماء.
أما الملفات الحديثة التي يظن الكثير من أولى الأمر منا أنها أغلقت ونسيت وهي لم تغلق فهي كثيرة. فملف الزاوية الحمراء وما حدث بها لم يغلق في السماء, وملفات الكشح, وطحا العمودين, والعديسات والإسكندرية, لم تغلق حتى الآن في السماء, فتأوهات اليتامى والثكالى تصعد لرب السماء وتصرخ كما صرخ دم هابيل الصديق ضد غدر أخيه.
لقد أغلقت أجهزة الأمن ملف طحا العمودين, فلم نعد نسمع أخباراً حتى عن التحقيق الصوري الذي أجري مع ضابط الشرطة الذي أودى بحياة الأب الكاهن إبراهيم ميخائيل وأحد رجال كنيسته, يوم غرق الكاهن وأحد رجاله في الترعة ونجا الضابط وأحد رجاله بقدرة قادر. ترى ماذا تم في التحقيق مع هذا الضابط؟ لماذا لم تغلق عليه أجهزة الإعلام والصحافة المصرية.
لماذا لم يخرج أحد المسؤولين ليقول لنا إن هذا الضابط ثبت بالتحقيق معه أنه بريء من دم الكاهن ومن معه, إن كان بريئا حقاً. وإن لم يكن بريئاً فلماذا لم يأخذ عقابه وفقاً للقانون الذي من المفروض أن يطبق على الكبار والصغار, وإن كان قد أخذ عقابه, فلماذا لم نسمع عن هذا العقاب شيئاً؟ الأمر الذي كان سيشعر المسيحيون معه أن العدالة تأخذ مجراها. وإن كان لم يأخذ عقابه فلماذا؟ أليس من حق المسيحيين في قرية طحا العمودين أن يعرفوا نتيجة التحقيق في موت كاهنهم المحبوب، على كل حال الحمد لله أنه لم يخرج يومها من يقول لنا إن هذا الضابط مختل عقلياً كما هو الحال مع كل معتدٍ علينا في هذه البلاد.
لكن الملف من الواضح أنه قد أغلق والكلام فيه ممنوع, فملفات أولاد الأكابر لا يجب أن تفتح حتى ولو تسببوا في قتل كل المسيحيين.
هذا مثل بسيط للملفات التي تغلق في الأرض, ويظن مغلقوها أنها أغلقت للأبد وكأن شيئاً لم يكن. لكنني أبشر الصابرين أن هذه الملفات لا زالت مفتوحة في السماء, وأن السماء تعرف حقائق الأمور، فالمولى كلي العلم, فدعوا من في الأرض يفتحون ملفات ويغلقون أخرى لكن الأمر في النهاية لمن يستطيع أن يفتح ولا أحد يغلق وأن يغلق ولا أحد يفتح.
إن ملفات كثيرة لملايين الدولارات التي تتدفق من بعض دول البترول لإجبار القُصر على تغيير ديانتهم لهي مفتوحة الآن أمام إله السماء, ويعرف ذلك بعض ممن في الأرض الذين منهم أنا.
ملف المتنصرين العرب والذي تصر الحكومات على تجاهله وغلقه مفتوح في السماء ويضاف إليه الآلاف يومياً في انتظار أن يتدخل رب العرش فيه.
ولربما تسألني عزيزي القارئ، لماذا تنبش في القديم؟ لماذا تريد أن تفتح ملفات قديمة قد نسيت؟ ألا يوقظ هذا الفتنة النائمة؟
وللإجابة عليك أقول:
أولاً: إن هذه الملفات لم تغلق كما يظن البعض لا في الأرض ولا في السماء, إن أولئك الذين يظنون أن هذه الملفات قد أغلقت يدفنون رؤوسهم في الرمال, ولعل أوضح مثال على ذلك هو تكرار الثورات والمصادمات بين أبناء الشعب الواحد في فترات أصبحت قريبة جداً بالمقارنة بالماضي.
ثانياً: إن لم تُفتح هذه الملفات وتُدرس وتُستخدم في علاج الاحتقان الموجود في الشارع الكنسي اليوم سنخسر جميعاً أقباطاً ومسلمين فلابد من تجنب الكوارث المقبلة لا محالة إن لم تعالج الأمور.
ثالثاً: هذه الملفات مفتوحة لدى رب العباد ويوماً ما سيتم ما جاء بتنزيل الحكيم العليم: “ثم رأيت عرشاً أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء [المولى تبارك اسمه] ولم يوجد لهما موضع, ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله وانفتحت أسفار (ملفات) وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة, ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم, وسلم البحر الأموات الذين فيه وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله”.
فإن لم تغلق هذه الملفات لدى المولى القدير وبطريقته هو, سيدان الكل, كلٌ بحسب عمله وعندها ستضيع الفرصة لمراجعة الحساب ولن يبقى للمرء سوى العذاب.
رابعاً: ولعل هذا هو السبب الأول الذي جعلني أفكر في فتح الملفات القديمة, فالمولى تبارك اسمه ثابت لا يعتريه تغيير ولا ظل دوران. وهو يزن للكل بميزان واحد.
فعندما أطاع أبونا الأول آدم امرأته وعصى ربه قال له المولى: “لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك”. وعندما قتل قايين أخاه هابيل غدراً وعدواناً قال له المولى: “ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك”. فالعصيان والغدر والقتل يسبب اللعنة للغادر وللأرض التي رأت غدر الغادر وشربت من دماء الأبرياء.
عندما أمسك فرعون في القديم شعب الرب ولم يطلقه ليعبد ربه ضرب المولى مصر بضربات عشر، وقال لشعبه إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه يضربك الرب بقرحة مصر وبالبواسير والجرب والحكة حتى لا تستطيع الشفاء.
ففي رأيي أن بلادنا العربية واقعة تحت لعنة ثقيلة, على الأقل, بسبب ما سفك فيها من دماء الأبرياء, ليس المسيحيين فقط بل أولئك الأبرياء من كل دين وملة. وإن كانت بلادنا تحت لعنة المولى فعلينا أن نتدارك الأمر ونتدبره ليعفو عنا ويرحمنا القدير القدوس الحق. وهذا ما جعلني أنبش في الملفات القديمة وأحاول تعديلها. ولكن يبقى السؤال أليست هناك طريقة يمكن أن يعفو بها عنا المولى ويغلق ملفاتنا القديمة منها والحديثة؟
إن الملفات التي تغلقها السماء هي تلك التي يقوم أهلها بعمل ما يلي:
أولاً: بالاعتراف بالحقيقة, وعدم الكذب والاستخفاف بعقول المواطنين وخاصة المسيحيين منهم, فإخفاء الحال من المحال أمام من له عينان تخترقان أستار الظلام, فأن يُتهم من اعتدى على مسيحيي الإسكندرية بالخلل العقلي فهذا كذب وعدم اعتراف بالحقيقة.
وأن يتهم تاجر مسيحي بأنه المفجر لأحداث الكشح, وأن يُحكم على المواطن شيبوب بالسجن كمُشعل للفتنة هناك، فهذا كذب وعدم اعتراف بالحقيقة.
وأن يُتهم صاحب متجر بالزاوية الحمراء أنه هو الذي فجر الأحداث لأنه كان يسمع للقداس الإلهي بصوت عالٍ من مسجله، فهذا كذب وتلفيق لابد من الاعتراف به.
وأن يُتهم الظلام والمنحنى الخطر في الطريق إلى قسم بوليس طحا العمودين بأنه هو السبب وراء حادث السيارة التي أودت بحياة الكاهن إبراهيم ميخائيل. ولا يُعترف بأن السرعة المجنونة من ضابط طائش, يحتاج لمن يضبطه, هي السبب, فهذا كذب مبين وعدم اعتراف بالحقيقة. ويعلمنا تنزيل القدير أنه: “إن اعترفنا بخطايانا فالله أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم”.
ثانياً: لابد من التوبة الصادقة النصوحة وهذا أمر قلبي بين الإنسان وربه الذي يقبل توبة التائب إذا ما جاءه مخلصاً معترفاً نادماً طالباً العفو والصفح والغفران.
ثالثاً: لابد من الاعتذار للضحية. فلابد أن يقر الجاني للمجني عليه بخطئه ويطلب صفحه وغفرانه حتى تغفر له السماء أيضاً ويرحمه أرحم الراحمين ويغلق ملفاته. فقد قيل ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
رابعاً: لابد للجاني من التعهد بعدم الرجوع مرة أخرى لهذا العدوان والبغضة والقتل والهمجية والإرهاب. وإلا لكانت أواخره أشر من أوائله.
خامساً: لابد من إخضاع المذنب للرقابة المخلصة النزيهة التي لا تبغي إلا أن تساعد الأثيم أن يتخلص من إثمه ويتمتع بغفران المولى ورحمته.
وفي النهاية أرى أنه لابد من مقترحات عملية حتى يرحمنا المولى ويمحو اللعنة عن أرضنا.
أولاً: لابد بأن ُيسمح لنا أن نفتح الملفات القديمة التي أغلقناها وظننا أنها أغلقت إلى الأبد, فبدون فتح هذه الملفات كما قلت والتعامل معها ستتقدم الأمور إلى حال أردأ.
ثانياً: لابد من تكوين لجنة لتقصي الحقائق, يكون لها من الشرعية والسلطان ما يخيف عدو الله وعدوها ويجبره على تقديم الحقائق المجردة, وأن يخضع الكل, كبيراً وصغيراً, رئيساً ومرؤوساً لقرارات هذه اللجنة وتوصياتها ولتتكون هذه اللجنة من أقباط ومسلمين من ذوي الضمائر الحساسة, والذمم النقية غير الخائفة أو المرتشية. وأن تكون هذه اللجنة باتصال مباشر مع رئيس الدولة أو ملك المملكة, ولها من الحصانة ما يبعد عنها رجال الأمن والبوليس.
ثالثاً: لابد من عقد مؤتمرات ولقاءات للمصالحة بين المسلمين والمسيحيين, فيها يعترف من أخطأ في حق الآخر بخطئه بكل تواضع, ولعلى هنا لا أتكلم عن لقاءات سئمنا منها ومللنا تكرارها, فيها تقترب العمم الحمراء والخضراء من السوداء ونسمع فيها الشعارات التي كرهتها نفوسنا ويظل ما بالقلب بالقلب.
أتكلم عن لقاءات صريحة, واضحة, تجرى لوجه الله تعالى وللمصالحة بين الإخوة في الوطن الواحد.
ولعلي أقترح أن يكون برنامج أول لقاء هو أن يعترف فيه المسلمون بأنهم أخطأوا في حق أقباط مصر ليس في العهد الحديث فحسب، بل في ذلك الزمان الغابر الذي قام فيه آباؤهم وأجدادهم باضطهاد وتشريد المسيحيين أصحاب مصر يومئذ, فكلمة مصري تعني قبطي, وإلغاء هويتهم وقوميتهم وسلب أرضهم وأموالهم.
وعلى المسيحيين أن يعترفوا للمسلمين بأنهم لم يطبقوا معهم تعاليم السيد المسيح من قال: “أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم”, بل ملأ الغيظ والكره قلوبهم, وعلى المسيحيين أن يغفروا لإخوانهم المسلمين من كل القلب, وأن يصلوا لأجلهم فهذا ما علمنا إياه رسولنا ونبينا وحبيبنا يسوع, وأن يتضرع الجميع مسلمون وأقباط إلى المولى عز وجل ليرفع عنا وعن بلادنا كل لعنة جلبناها على أنفسنا وأرضنا وذوينا.
واعلموا أيها المسيحيون والمسلمون أن تنزيل الحكيم العليم الكتاب المقدس يقول: “فإذا تواضع شعبي (مسيحيون ومسلمون فكلنا شعب المولى تبارك اسمه بالخلق) الذين دعي اسمي عليهم, وصلوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية, فإني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم”. فلا إبراء لأرض مصر والوطن العربي إلا بالمصالحة بين أهله. وهذا ليس بالأمر الجديد. فقد تصالحت كندا واليهود بسبب رفض الكنديين لاستقبال باخرة محملة باليهود الأمر الذي أدى إلى غرقهم في المياه الإقليمية الكندية. ولقد اعتذر الألمان لليهود عن ما فعله بهم الشيطان هتلر. إذاً فلنتصالح معاً لما فيه خيرنا وخير بلادنا, لنتصالح لما فيه خير أطفالنا وشبابنا, فما الحقد إلا نار تأكل الأخضر واليابس في حياتنا وبلادنا.
اللهم اغفر لنا خطايانا وسيئاتنا, واعف عنا وارحمنا وأهلنا, وامحُ اللعنة من أرضنا وبلادنا, اللهم هبنا من التواضع ما نعترف به بأخطائنا وآثامنا, اللهم هبنا من الغفران ما يعمر ضمائرنا وقلوبنا, اللهم لا تدع البغضة تستقر في نفوسنا وأعماقنا, واملأنا بمحبتك وصفحك يا رب العالمين آمين.