العدد 64 الصادر في يناير 2011 2010 وتحقيق التكهنات
سألني بعض الأصدقاء ورفاق العمل والخدمة في مطلع عام 2010 عن ما أتوقعه لمصر، والكنيسة، والعلاقات بين المسيحيين والمسلمين، وبين الحكومة والكنيسة في سنة 2010. ومع أنني بطبعي الذي فطرني عليه المولى تبارك اسمه – ولا دخل لي فيه– إنسان متفائل لا أيأس أو أفشل سريعاً ولا ألقي السلاح بالساهل، ومن أهم مبادئي في الحياة أنه “لا تستسلم أبداً” “Never Surrender” وهو شعار واسم لكتاب أصدره الجنرال الأمريكي” William G. Boykin وليم جى بويكين” من كان يعلن بوضوح عن إيمانه بالسيد المسيح تبارك اسمه علانية حتى في البنتاجون، بالرغم من حساسية موقفه ووظيفته وهو مساعد نائب وزير الدفاع الأمريكي لشئون الاستخبارات بالقوات المسلحة الأمريكية، الأمر الذي سبب له كثيراً من المضايقات والعقبات ولكنه تخطاها جميعها بتفوق المنتصر.
وبرغم تفاؤلي الشديد إلا أنني في إجابتي عن سؤال الأصدقاء لم أجد بصيصاً من النور الخافت الذي يجعلني أتمسك به وأبني عليه رأياً متفائلاً في 2010 يكون مشجعاً للرفاق على إكمال المسيرة.
ترددت في الإجابة عن هذا السؤال طويلاً، لكن لعلمي أن الرفاق على دراية كافية بما يحدث حولهم، قلت: أتوقع لمصر مزيداً من القلاقل والاضطرابات والعواصف الاجتماعية والسياسية، وأتوقع ازدياداً في الكراهية والعداوة بين المسيحيين والمسلمين، وسيُصَعد كل منهما من طرق التعبير عن غضبه تجاه الآخر بوسائل لم نعهدها من قبل. أما بين الكنيسة والدولة فستزداد التوترات وسيُصَعد كل منهما من حدة تعامله مع الآخر، أما عن حالة الكنيسة فستزداد ضعفاً وانقساماً وانشقاقاً وخمولاً ونوماً و.. و.. و..
ابتسم من حولي وقال أحدهم: “الله يبشرك بالخير، أليس لديك بصيص من الأمل أن تنصلح الأمور والأحوال؟ ألا يمكن أن يحدث شيء مفرح في كل المجالات التي ذكرتها في 2010؟” قلت: بالطبع من الممكن أن يحدث، لكني لا أراه الآن، فما أراه قد شاركتكم به. ساد صمت واستغرق الجميع في تفكير عميق ثم ضحك الجميع، كعادة المصريين فهم لا يتوقفون عن الضحك مهما كانت أحوالهم تدعو للرثاء.
أنهى أصدقائي الحديث حول هذا الموضوع دون الدخول في تفاصيل ما قلت إلا قليلاً، وخاصة بعدما قلت لهم: “صلوا ليطيل الله في عمر البابا شنودة الثالث رأس الكنيسة الأرثوذكسية والدكتور صفوت البياضي رئيس الطائفة الإنجيلية” فسألني أحدهم: لماذا؟ قلت ستعرفون حقيقة قيمتهما بعد رحيلهما أطال الله عمريهما. ضحك آخر وقال: وماذا عن مبارك، قلت ستأتي أيام فيها ستترحمون عليه وتتمنون لو كان لا يزال رئيساً على مصر، فلو قضى مبارك نحبه أطال الله عمره (وهذه دعوة لله صادقة لا تملق فيها ولا محاباة) قبل أن يتفق شعب مصر على من سيخلفه بطريقة سلمية ديمقراطية واعية، فلن ينقذ مصر من مصيرها المرعب سوى الرحمن الذي معه مقاليد الأمور.
لقد تذكرت هذا اللقاء والحديث مع الرفاق عندما هممت بكتابة مقالي لهذا العدد، وراجعت أحداث العام المنصرم 2010، فلم تمض إلا ثلاثة أيام على هذه الجلسة مع الرفاق حتى حدثت مذبحة نجع حمادي في ليلة عيد الميلاد التي راح ضحيتها 7 شباب مسيحيون وعشرات المصابين ومن قبض عليهم من قبل قوات الأمن، وتقول الإحصائيات والدراسات أن حالتين على الأقل للصدام والعنف تحدثان في كل شهر بين المسيحيين والمسلمين يتدخل بهما الأمن للقبض على أشخاص من الجانبين بعد اشتباكه معهم. هذه هي الحالات المسجلة دون الكثير الذي لم يسمع به أحد. ولم يختتم العام 2010 حتى كانت غزوة العمرانية قد أطاحت بقتيلين وأكثر من 150 سجيناً، وقد تصاعدت ردود الأفعال على الأحداث كما تكهنت، فمن مجرد احتجاجات إلى وقفة داخل الكاتدرائية المرقسية والكنائس، إلى مظاهرات بالشوارع، وأخيراً إلى مقاومة العنف بالعنف والشر بالشر والبادئ أظلم. أما ردود أفعال قوات الأمن فقد تصاعدت أيضاً، فمن حشد لعربات الأمن المركزي في الشوارع الجانبية للكاتدرائية والكنائس المعنية، إلى ترصيص هذه العربات أمام أبواب الكنائس، إلى نزول قوات الأمن والالتفاف حولها، ثم إلى التعامل مع المسيحيين بالرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع، ولست أتعجب إذا نزلت يوماً دبابات ومصفحات القوات المسلحة إلى الشارع للتعامل مع المصريين الغاضبين من كافة الطوائف والخلفيات. فقد تصاعدت أيضاً حدة الاتهامات بين ما أسماهم البعض علماء ومفكرين أو مثقفين، الذين لا يفكرون في معظم الأحوال في أبسط الحقائق والمسلمات البديهية، فمن بعد الاتهامات الهامسة في السر بتحريف الكتاب المقدس وبأن المسيحيين هم كفرة ينتظرهم سعير جهنم النار وبئس المصير، أصبح الكلام في كل ما من شأنه أن يطعن في العقيدة المسيحية مباحاً في الفضائيات وبرامج التليفزيون والإذاعات حتى المدعمة منها بضرائب المسيحيين، وتطور إلى إصدار الكتب التي تحقر من المسيحية وتطبع في مطابع الدولة وعلى نفقة المصريين جميعاً مسيحيين ومسلمين. ولو قال هؤلاء الكاذبون من يحاربون العقيدة المسيحية أنها رد على ما تقدمه الفضائيات المسيحية التي تهين الإسلام لقلنا إن الذين يستغلون نفوذهم في تحقير الدين الإسلامي من أصحاب الفضائيات المسيحية ،الكنسية منهم براء “لا لإيمان الكنيسة بوحي الدين الإسلامي بل لأن المسيح تبارك اسمه لم يعلمنا أن نحقر من شأن أحد أو دين، وما يُفعل غير ذلك فهو ليس من المسيحية بشيء” وبرامجهم غير مدعمة من ضرائب المصريين وبعضهم غير مسيحيين من الأصل ولست أعتقد حتى أنهم متنصرون كما يدعون. أما الذين يتساءلون عن ما في الدين من اختلاف وغموض وتناقض ونقائص حتى لو كانت من وجهة نظرهم فقط، فهؤلاء لا يحقرون الأديان بل يتساءلون. ولو كان لدى المفكرين والفقهاء الدينيين إجابات شافية كافية لأسئلتهم لردوا عليهم وأخرسوهم وكفوا مصر شر الفتن والاضطرابات.
فأن يقول من يلقبونه بالعالم أو المفكر بأن الكنائس والأديرة مخازن للأسلحة التي يعدها المسيحيون للهجوم المرتقب، ويصدقه من على شاكلته من العلماء والمفكرين، وتنتقل العدوى للعامة والمغيبين، فهذا إن دل على شيء يدل على تصاعد حدة التوتر وفقدان الأعصاب واحتدام المواجهة بين الطرفين. وأن تهيج الدنيا بسبب تصريح حق وواقع ومعترف به على مستوى العالم أن المسلمين ضيوف على المسيحيين المصريين فتخرج المظاهرات وينتشر العنف بسبب هذه التصريحات فهذا يدل على فقدان العقول لرشدها. مع العلم بأن ما قاله الأنبا بيشوي هو نصف الحقيقة وليس كل الحقيقة، فالحقيقة التي يعترف بها المخلصون في كل العصور والأديان أن المسلمين جاءوا غزاة فاتحين لمصر وليسوا ضيوفاً، فلو كانوا ضيوفاً لما استوطنوا مصر عنوة ضد إرادة أهلها الأولين الذين كانت الغالبية العظمى منهم مسيحيين، ولو كانوا ضيوفاً لرحلوا لبلادهم بل قل صحرائهم، بعد أن عرضوا على سكان مصر الأصليين دينهم وتركوا لهم حرية الاختيار، ولو كانوا ضيوفاً لما نهبوا خيراتها وغنائمها ولاستثمروها لخير أهلها المسيحيين ولو كانوا ضيوفاً لما اضطهدوا وشردوا وأجبروا أهل مصر المسيحيين على دفع الجزية عن يدهم وهم صاغرون، ألا يكفي ما حرفه وبدله الغزاة من تاريخ وحقائق لا تحتاج لعقلية فذة ولا لعبقرية خارقة لاكتشافها بل هي واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، فماذا لو تضمن تصريح هذا المطران كل الحقيقة وقالها صراحة أن المسلمين غزاة غير مرغوب فيهم من أهل البلاد الأصليين وهم المسيحيون.
أما عن مشاكل الكنيسة الأرثوذكسية بينها وبين أبنائها وعلمانييها وإكليروسها فواضحة وتحتاج إلى بحث آخر، والكنيسة الإنجيلية وحالة الانحدار والضعف والسلبية والشللية واللا روحانية التي تسودها قد أصبحت أكثر وضوحاً في 2010 وتحتاج إلى بحوث وكتب ومجلدات، وهي أيضاً لم تسلم من التصعيد الأمني كما حدث في غزوة الكنيسة الإنجيلية بالأقصر على طريق الكباش. وفي 2010 تصاعدت حدة الحرب الباردة بين الكنيسة الإنجيلية والأرثوذكسية وتطايرت التصريحات السلبية وغير المدروسة من الطرفين في برامج التليفزيونات الفضائية والمحلية.
والآن وبعد أن عددت قليلاً من كثير مما حدث في مصرعام 2010 يبقى السؤال: لماذا كل هذا؟ لماذا ما هو كائن، وما كان، وما لابد أن يكون في 2011 وما بعدها؟ وللإجابة على هذا السؤال أقول:
أولاً: لأنه ليس من أحد، سواء كان فرداً أو جماعة أو هيئة أو منظمة أو تنظيماً يدرس ويحلل الأحداث بطريقة محايدة علمية خالصة لوجه الله تعالى، يضع المسببات ويلتفت لأصغر الدقائق البسيطة تماماً كما تدون المخابرات الأمريكية كل ما تجمعه من معلومات من أنحاء العالم، الأمر الذي تم كشفه من خلال عملية تسريبها لهذه المعلومات المعروفة بويكليكس. فهي، أي المخابرات الأمريكية، تعرف كل رئيس وما يدور حوله، حول عائلته والمقربين منه، وقوة قواه العقلية، وتحلله نفسياً واجتماعياً وعقلياً، واللون المفضل لديه، وإذا ما كانت زوجته تفضل الحذاء الأصفر أو الأحمر، أبو كعب ولا الزحافي، متى حدث وأصيب أي رئيس بالأنفلونزا أو الإسهال؟ ما هو موقفه من الزواج المثلي، من السحر، من النساء، من الرجال؟ وهكذا مع كل من هم في مكان قيادي في أية حكومة في أية دولة في العالم.. أمور تثير الدهشة لدى رجل الشارع العادي وحتى المثقف فيتساءل ما فائدة كل هذه المعلومات التي تجمعها المخابرات الأمريكية.. ومن ذا الذي يهتم بكعب حذاء مدام الزعيم؟ لكنهم من خلال هذه المعلومات التي تبدو تافهة وبلا فائدة يحللون ويدرسون كل ما يحيط بهم، فلا تأخذهم مفاجأة ولا ينتظرون حتى تحدث المصيبة ثم يفكرون في حلها، وإن حدثت لأنهم بشر مثلنا، لا تمثل ظاهرة بالنسبة لهم كما لنا، ولا تتكرر في حياتهم فهم يتعلمون من أخطائهم. أما نحن في المحروسة فقد عهدنا سمة من أهم سمات الحكم العسكري الذي توارثناه من ضباطنا الأحرار هو أننا نتخذ من القرارات العشوائية ما يدمر حياتنا وبلدنا بل وأصدقاءنا في كثير من الأحيان، ثم نكتشف خطأنا فنعالجه بخطأ آخر، وحيث أن المبنى على خطأ هو خطأ فسرعان ما نكتشف خطأ القرارين السابقين فنعالجهما بخطأ وقرار ثالث، وهكذا وهكذا. فرؤساؤنا لا يعينون مستشارين لهم، وإن عينوا فمستشار أو اثنان على الأكثر في معظم الأحيان، يفتون فى كل أمور الحياة، في الدين والفلسفة والأمن والحرب والاقتصاد والطب والصحة وغيرها، وغالباً لا يؤخذ برأيهم. وما يقال عن الحكومة يقال أيضاً عن الكنيسة، فلا تخطيط ولا تنظيم ولا مستشارين، وما الداعي للمستشارين والقسيس أو رئيس المذهب أو الطائفة أو الجمهورية هو الفاهم في كل الأمور صاحب الخبرة العريضة التي تمتد لكل المجالات، لذلك يصارع هؤلاء المساكين بمفردهم لاتخاذ أفضل ما لديهم من قرارات تكون في كثير من الأحيان بضمير صالح ونية صادقة، لكن الضمير الصالح والنية الصادقة ليست بالكافية لضمان صحة القرارات وقيادة السفينة إلى ميناء السلام. وكلمة المستشار في بيئتنا الاجتماعية تحمل في طيات معناها أنه أحكم ممن يشير عليه، فكيف يقبل زعيم ما أن يعترف أن هناك من هو أحكم منه؟ مع أن كلمة مستشار تعني المتخصص في شيء واحد على الأغلب وله من الدراسات والخبرات والمعلومات ما يؤهله لأن يبدي برأيه الصائب في مجال تخصصه ليس إلا، فلا علاقة للكلمة أو الوظيفة بمن هو أحكم أو من هو أعلى. فالقرارات العشوائية غير المبنية على خبرة في مجال القرار وعلى إحصاءات وتجارب ومعلومات صادقة ثابتة لا يمكن أن تفلح، حتى وإن أفلحت لأيام أو شهور فالفشل مصيرها.
ثانياً: ليس من طباعنا وعوائدنا وضع حلول جذرية لمشكلاتنا واحتياجاتنا، بل نحن نعتمد على المسكنات كالطبيب الخايب الذي لا يعرف التشخيص السليم لمرض مريضه فيكتفي بعلاج الظواهر والعوارض المرضية فحسب. ولقد تفوقنا على العالم كله في هذا المضمار، فالقضايا كبيرها وصغيرها لا يحكم فيها إلا بعد شهور وسنين، نخاف المتطرفين المسلمين فنضغط على الكنيسة بكل الوسائل لنهادن الجماعات، ثم تنفجر الكنيسة فنضع المئات منها في السجون دون محاكمة. يعتكف البابا شنودة فنطلق سراح بعض المساجين لينهي الاعتكاف قبل صلاة العيد لئلا تتكرر مأساة 1981 ويسمع العالم كله بالأمر ومصر لا تحتاج لمن يسود وجهها أكثر مما هو عليه بل تحتاج إلى العكس، نطلق سراح البعض ونجدد حبس البعض الآخر حتى لا يقال إن الحكومة خضعت للضغوط المختلفة وأطلقت المسيحيين المظاليم المحبوسين. تطالب المحظورة بالإفراج عن معتقليها أسوة بالمفرج عنهم من المسيحيين، وأثق أنه سيفرج عن بعضهم سريعاً وإن لم يحدث فستقوم المظاهرات والاحتجاجات السلمية وغير السلمية للمطالبة بمساواتهم بالمسيحيين، لذا فلن يفرج عن بقية المسيحيين سريعاً، فالمحظورة تلعب على وتر أن المسلمين هم المضطهدون فى مصر أكثر من المسيحيين “يا سبحان الله” مع أن معتقلي المحظورة لم يهاجمهم الأمن وهم يبنون جامعاً لإقامة الصلاة، بل لم يهاجمهم الأمن من أصله، إنما هم الذين تعدوا على الآخرين وضربوا بالأعراف والقوانين عرض الحائط وأرادوا أن تسير الانتخابات النيابية على هواهم، كما فعلوا في المرة الانتخابية البرلمانية السابقة. وهكذا لا يتم التعامل مع هذه القضية وغيرها من القضايا بوضع حلول جذرية لمشكلة التطرف الديني، فعبد الناصر والسادات كانا في يوم من الأيام من أعضاء المحظورة، ثم ضدها، ثم معها، ثم عليها، ثم مساومين معها لإتمام مصالحهما. فهي المحظورة علناً والمتمكنة الحرة الطليقة سراً. الكنائس تارة يسمح لها بأن تبنى كمصنع أو مبنى للخدمات ثم تتحول إلى كنيسة، وتارة تهدم على من فيها إذا اتبعت هذا الأسلوب المتفق عليه دون كتابته مع الأمن.. سمك لبن تمر هندي، المهم أن تظل الأمور معلقة بلا حل كاف واف يتعامل مع المشكلة مرة واحدة وللأبد.
ثالثاً: ما زالت الكنيسة والأزهر يعالجان الأمور بأسلوب الخمسينيات من القرن المنصرم، فهم يتصرفون وكأنهم أصحاب الشأن والكلمة الأولى والأخيرة، فيصدرون البيانات والاتفاقات بينهما ويتوقعون من العامة السمع والطاعة، وكأن الناس بلا رأي أو عقل لتفهم ما يدور حولها، يصرون على اللقاءات والعناقات وحفلات الإفطار في المناسبات ويتغنون عاش الهلال مع الصليب، والنسيج الوطني الواحد، والجار المسيحي والمسلم اللذان يعيشان في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات، فمصر بلد الكنيسة والجامع، وقد يعالجون كبير المشاكل بالشجب والاستنكار أو بسياسة التغطية والتعمية، فلا اعتراف بالتأزم والغليان الحادث بين عنصري الأمة وازدياد الكراهية بين الإخوة في الوطن، فكل أحداث الفتنة الطائفية ارتكبها إما مجرمون خريجو سجون أو مختلون عقلياً، أو المغرر بهم من قبل الإمبرياليين والصهيونية من خلال المخططات العالمية للنيل من مصر، لأن العالم كله يحسدها لأنها أم الدنيا. وكثيراً ما يسمع المصريون أصحاب المناطق المتطاحنة المنكوبة بتفاصيل ما حدث لهم من الإذاعات والفضائيات الخارجية أو يشاهدونها على شاشات الكمبيوتر في بث مباشر. لقد اختلفت ردود أفعال العامة هذه الأيام فسواء وافق القسوس والكهنة والمسئولون عن الطوائف المسيحية أم رفضوا ومهما كان رأى الأزهر وعلماء الدين لم يعد هذا يهم الغاضبين المظلومين في قليل أو كثير، فهم يجتمعون حتى داخل الكاتدرائية وفي وقت العظة الأسبوعية للبابا شنودة للتظاهر والهتافات والاحتجاج على ما صار معهم، ولعل أشهر هذه المظاهرات ما قام به الشباب القبطي في الكاتدرائية في وقت جنازة الكاتب سعيد سنبل فأمتلأت الكاتدرائية بالحجارة واللافتات والغضبى من الأقباط وتجمد المسئولون الحكوميون في الكاتدرائية غير قادرين على مغادرتها لساعات حتى تنتهي هذه المظاهرات. وآخرها استخدام الحجارة والطوب للرد على غطرسة وكبرياء قوات الأمن التي أحاطت بكنيسة العمرانية، وقد فعل طلاب جامعة الأزهر أسوأ من هذا بالقيام بمظاهراتهم داخل الحرم الجامعى مما اضطر الأمن للقبض على الكثير منهم.
رابعاً: ليست هناك قوانين واضحة مدروسة تطبق على كل المواطنين مسلمين ومسيحيين، كباراً وصغاراً، وقد كتبت عن هذا الموضوع أكثر من مرة، ولعل أهمها تعطيل قانون بناء دور العبادة الموحد.
خامساً: يتصرف المسئولون عن اتخاذ القرارات المتعلقة بكافة الأمور كالأطفال الذين لا يستطيعون التركيز في أكثر من أمر واحد في نفس الوقت، مع عدم ترتيب الأولويات لحل المشاكل والمعضلات، ففي موسم إجازات القضاة أو عندما يحتدم العراك بينهم وبين المحامين تشل حركة القضاء في مصر ويؤجل الفصل في أعتى المشكلات. في موسم الانتخابات يحدث شلل عام في كل المصالح والمؤسسات والوزارات، يدور التفكير والعمل فقط حول موضوع الانتخابات ولتذهب بقية الموضوعات للجحيم. ولا أتوقع أن يحدث أي تغيير أو حركة أو اختلاف في المحروسة حتى الانتهاء من الانتخابات الرئاسية في 2012، فهذا أهم حدث على الساحة منذ سنتين، وسيظل إلى ما بعد يوم الانتخاب العظيم، وما أدل على ذلك من نتيجة انتخابات مجلس الشعب في دورته الحالية التي كانت بمثابة انتخابات إعدادية للانتخابات الرئاسية، والمعنى في بطن الشاعر ومن له أذنان للسمع فليسمع.
سادساً: التعامل والتعامي عن الحقائق ودفن الرأس في التراب. فنتكلم عن أية مشكلة أو اعتداء على الكنائس أو حتى المصالح الحكومية أو مصيبة تحل بمصر على أنها جماعة مسيحية أو إسلامية متطرفة، دون محاولة معرفة ودراسة أيديولوجية وامكانيات ومخططات هذه الجماعة – إن كانت وراء هذه الأحداث جماعة من الأصل – ولا نعرف كم أعضاء هذه الجماعة بين المحامين والقضاة، بين المجندين والعاملين بالقوات المسلحة، بين رجال الأمن والمخابرات والبوليس بوجه عام، بين الدعاة والأئمة والمصلين في الجوامع ودور العبادة؟ كم من مواقع حساسة يتبوؤها هؤلاء الأعضاء، كم من الأسلحة والذخيرة في متناول أيديهم؟ كل هذا نتعامى عنه فنهون من الأمور حتى يقع المحظور. ولعل أوضح مثال لهذا التغافل والتعامي هو رفض الرئيس الراحل ارتداء القميص الواقي من الرصاص عندما طلبت منه زوجته جيهان أن يرتديه قبل خروجه من بيته لحضور الحفل العسكري للقوات المسلحة في 6 أكتوبر سنة 81، فلماذا يلبسه وهو بين رجاله وحاشيته وحرسه والمَرضي عنهم من أهل الثقة، أما الجنود والضباط الصغار في العمر والرتبة فلم يضعهم في حسبانه أنهم موجودون على الساحة حتى يحتاط منهم لئلا يقتلوه، مع أنهم هم القادرون فى الحقيقة على تغيير التاريخ، فمعظم النار من مستصغر الشرر.
لقد كنت أتمنى أن أرى في 2011 لمصر مستقبلاً أفضل، وللكنيسة حياة أهدأ وأكثر عمقاً واتحاداً بإلهها وربها، وللعلاقة بين عنصري الوطن الواحد المسلمين والمسيحيين علاقات أصح وأسلم من محبة ورحمة ومودة، مداواة للجروح وتطلعاً لحياة أكثر رخاءً واستقراراً، لكنني لازلت لا أرى كل هذا، فإن لم ينتبه الأزهر والكنيسة والحكومة والمسلمون والمسيحيون إلى مواطن الداء، وإن لم يجلسوا معاً على مائدة مستديرة للبحث والإصلاح والتضحية والتواضع ووضع مصر أولاً وفوق كل مصالح ذاتية وتطلعات فردية وعنجهية أمنية، فلست أظن أن 2011 ستكون أفضل بأي حال من الأحوال من 2010 بل أسوأ، وأتمنى أن أكون مخطئاً.