في ندوة حضارية وطنية راقية، حول «المناهج التعليمية بين المساواة والتمييز»، أقامها «مركز الكلمة للأبحاث والدراسات» في صالونه الأول، تشرفتُ بالحديث ضمن مِنصّة رائعة جمعتني بنخبة رفيعة من عقول مصر: د. كمال مغيث، الخبير التعليمي الشهير، د. حسين البيلاوي، أستاذ علم الاجتماع التربوي في جامعة حلوان، القسّ رفعت فكري، والدكتور ثروت صموئيل، مدير المركز ومدير تحرير جريدة «الطريق والحقّ». تكلّم كلٌّ حول خطورة التمييز العنصري في مناهج التعليم، ليس على الطالب وحسب، بل على المجتمع بكامله.
فهذا الطالبُ وذاك، وهذه الطالبة وتلك، ممن تشرّبوا العنصرية أو الطائفية في علومهم الأولى على مقاعد الدرس، سوف يغدون في مقبل الأيام معلّمًا، وطبيبًا، وضابطًا، وقاضيًا، وأبًا وأمًّا عنصريين وطائفيين، فتخربُ حياتهم، ويخرّبون بدورهم المجتمعَ. وجاءت المداخلاتُ من خارج المنصّة، من السادة الحضور من النخب الفكرية المصرية غزيرةً وحاشدةً بتجارب حيّة.
كلٌّ عبر خبراته في مجال عمله، تحكي عن الآثار الخطرة للتمييز وعدم المساواة في حقل التعليم، سواء في المناهج الموضوعة، أو خلال الممارسات الخاطئة في العملية التعليمية من قِبل المعلمين على مدار العقود الماضية.
تحدث الدكتور سمير فاضل، الأمين العام لمؤسسة المصريين للبحوث والدراسات الثقافية، حول الآلية العنصرية التي تعوق عملية تعليم البنات في القرى المصرية، حيث يُرسل بهن إلى مدارس بعيدة عن بيوتهن في مناطق نائية عن العمران بالقرى والنجوع، ويحددون للذكور فترات دراسة صباحية، وللبنات فترات دراسة مسائية، ما كان يشقُّ على الفتيات الوصول إلى مدارسهن، والعودة المتأخرة إلى بيوتهن.
وهو أمرٌ مستهجنٌ لدى الأسر المصرية خصوصًا في الريف المصري، فما يكون من الأهل في النهاية إلا إبقاؤهن في البيوت ومنعهن عن التعليم. وهذا أمرٌ خطيرٌ للغاية.
إذ كأنما تُبتَرُ ساقٌ من جسد المجتمع، ثم تطلب منه أن يسير ويثبُ ويحلّق في فضاء النهوض والحضارة!. فالمرأة التي تشكّل نصف المجتمع حين تغدو غير متعلّمة، لا يعني وحسب أن تنخفضَ القوى المعرفية للمجتمع إلى النصف، بل الأخطر أنه يخلق جيلًا من الأمهات الجاهلات، والأمُّ هي المدرسةُ الأولى لأطفالها، وهنا تكمن الكارثة.
وتكلّمت الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسي والعسكري، وأول أستاذة مصرية تُدرِّس بجامعة ألفريد بولاية نيويورك، وأول سيدة تُختار للتدريس في الكلية الحربية المصرية، عن خصوصية مصر في دحض الطائفية الدينية، وكيف وهي ابنة لعائلة مسلمة متصوفة، كانت تشارك في الاحتفال بالأعياد الدينية المسيحية. وتحدثت عن التاريخ المشرّف للمستشار ويصا باشا ناصف. محطّم السلاسل، رئيس مجلس النواب في حكومة مصطفى النحاس، وكيف كانت مصرُ في ذلك العهد لا تعرفُ التمييز العَقَدي بين المواطنين، وكيف كان المصريون، مسلمين ومسيحيين ويهودًا، يذوبون في جسد الوطن الواحد، لا يعرفون الشقاقَ ولا التنمّر الطائفي الذي يشقُّ صفَّ الوطن ويمزّق مفاصله. هنا تذكرتُ أغنية من الفلكلور المصري كنّا نغنيها ونحن صغار دون أن ندرك دلالاتها الجميلة، وربما مازالت الأمهاتُ والمربيات يغنينها لأطفالهن حتى اليوم دون أن يدركن أنها أغنيةٌ تندد بالطائفية وتصيبُها فى مقتل.
تقول الأهزوجة: «واحد اتنين سرجي مرجي/ انت حكيم ولّا تمرجي/ أنا حكيم الصحية/ العيان أديله حقنة/ والمسكين أديله لقمة/ حج حجيجة بيت الله/ والكعبة ورسول الله/ بدّى أزورك يا نبي/ ياللي بلادك بعيدة/… كم واحدًا منّا يعرفُ أن تلك الأغنية وصلت إلينا من أيام المماليك حيث كان ثمّة ما يُعرف بـ«التكيّة».
وهي مكانٌ يقصده الفقراءُ والمرضى، فيتناولون طعامهم مجّانًا، ويتلقّون العلاج مجّانًا. وكانت تلك «التكيّة» في كنيسة «الشهيدين سرجيوس ومارجرجس» الأثرية في منطقة مجمّع الأديان بمصر القديمة.
وهي إحدى نقاط رحلة العائلة المقدسة في مصر. وكانت الكنيسة تُطعم وتعالج البسطاء من المصريين دون تمييز عقدي ولا طبقي ولا نوعي. وكعادة المصريين العبقرية في تشكيل الكلمات على نحو شعري مسجوع.
أصبحت «سرجيوس»: «سرجي»، وتحولت «مارجرجس» إلى «مرجي»، وتم مزجها بزيارة الحجيج المسلم إلى بيت الله الحرام، وتكوّنت أغنية فلكلورية فذّة تجمع المسيحى بالمسلم، والغني بالفقير، والولدَ بالبنت: «أحمد وحميدة»، لتكوّن لوحة مشرقة لمصر التي لا تعرفُ التمييز ولا الشتات.
الفلكلور يحكي ماضينا الطيب، ويرسمُ لنا خارطةَ المستقبل المشرق الذي نرجوه. فدائمًا وأبدًا: «الدين لله، والوطن لجميع أبناء الوطن، من محبّي هذا الوطن». بدأت بوادر طفرة طيبة في مجال التعليم منذ خمس سنوات، في عهد وزير التعليم المحترم د. «طارق شوقى»، ويحمل المشعل اليوم د. «رضا حجازى»، حيث محاولات حقيقية لوأد الطائفية في المناهج، ووأد الحفظ الذي لا يُفضى إلى إعمال عقل، ونطمح في المزيد. وتحيا مصر.