يعاني بعض الأشخاص من مشكلة أساسية في حياتهم وهي هوس الكمال، أو بمعنى آخر البحث عن الكمال في تصرفاتهم وسلوكهم وأفعالهم للوصول إلى المثالية الزائدة، وذلك عن طريق إلصاق بعض الصفات والمهارات الفائقة في ذواتهم، إذ يحاولون تنفيذ المهام والمسئوليات الواقعة على عاتقهم بدقة متناهية لتجميل صورتهم وتحسينها أمام الآخرين بهدف الحصول على رضا الناس ورضا الله.
ولكن مع الأسف نجدهم يعجزون عن الوصول إلى تلك الصورة الرائعة التي يبحثون عنها، وقد يؤدي ذلك إلى إحساسهم بالفشل والإحباط مما يتسبب في نهاية الأمر في خلق شخصيات هزيلة ومشوهة نفسيًا وفاقدة لهويتها.
وفي الحقيقة فإن هؤلاء الأشخاص يتجاهلون واقعهم المعاش وإمكانياتهم الشخصية، حيث إن هدفهم هو الحصول على أدق وأفضل أداء وأجمل صورة لذواتهم أمام الآخرين كما سبق القول. ولذلك فهم دائمًا غير راضين من أنفسهم أو أدائهم، كما أنهم يتصفون بالشك الدائم في الآخرين، بالإضافة إلى أنهم يعانون من التقلب المزاجي ولديهم القدرة على الجدال والنقاش المستمر، وذلك نتيجة معاناتهم من الصراع النفسي بين واقعهم المعاش وبين بحثهم عن الكمال.
أسباب البحث عن الكمال: لهوس الكمال جذور نفسية عميقة إذ غالبًا ما ينشأ نتيجة التربية الوالدية المغلوطة، حيث يضع الوالدان مقاييس فائقة لنجاح أبنائهما ويحاولان مطالبتهم بأداء يفوق واقعهم متجاهلين إمكانياتهم العقلية مما يجعل الأبناء عاجزين عن الوصول إلى الأهداف التي وضعاها لهم. كما أن المعاملة التي تتسم بالسخرية والاستهزاء تعلِّمهم كبت المشاعر خوفًا من كلمات السخرية مما يسبب لهم ضيقًا وتوترًا دائمًا. إن مطالبة الأبناء بأن يكونوا على درجة عالية من الإتقان والأداء العالي قد تبث فيهم روح الإحساس بالدونية والشعور بعدم القيمة مما يدفعهم إلى تعويض هذا الشعور بالبحث عن الكمال لإرضاء والديهم. كما أن المعاملة التي تتسم بالقسوة والعنف قد تصيب الأبناء بالشعور بعدم الأمان والذي يدفعهم بالتالي إلى البحث عن مخرج لحل صراعاتهم النفسية، فلا يجدون أمامهم إلا أن يبحثوا عن الكمال من أجل الحصول على القبول والرضا.
أعراض هوس الكمال:
– الإحساس الزائد بالمسئولية وثقل الشعور بالواجب: رغم أن الشخص الذي يعاني من هوس الكمال يستمد قيمته من المسئوليات الملقاة عليه إلا أن إحساسه بثقل الواجبات ومسئولياته الضخمة قد يؤدي به إلى الشعور الدائم بالفشل والإحباط، حيث إن هذه المسئوليات قد تفوق قدراته الواقعية والفعلية.
– كبت المشاعر: إن مشاعر الفشل والإحباط التي يعاني منها الشخص المصاب بهوس الكمال إنما تدفعه إلى إظهار المشاعر الجميلة لحل صراعاته النفسية، وذلك باللجوء إلى الحيل الدفاعية، فهو لديه القدرة على كبت مشاعر التذمر وعدم الرضا ويتضح ذلك في إنكاره لنجاح الآخرين إذ أنهم في نظره أشخاص غير كاملين.
– الغضب: إن كبت المشاعر السلبية وإظهار المشاعر الإيجابية كالهدوء والوداعة والتواضع قد يؤدي إلى حالة من الغضب الدائم، ولذلك نجده يوجه لومه وغضبه إلى الآخرين بسبب أدائهم غير الجيد.
– التزمت: نلاحظ على هؤلاء الأشخاص وضع أنفسهم في قوالب ونماذج معينة، كما أنهم يبرمجون أنفسهم على قواعد وأصول وطقوس ثابتة لا يحيدون عنها لأن الخروج عن هذه القوالب أو النماذج قد يُشعِرهم بعدم الارتياح ويُعرِّضهم للنقد المستمر من الآخرين. ولذلك فهم يبذلون قصارى جهدهم للسيطرة على أنفسهم وعلى الآخرين، فهم لا يقبلون أي اختلاف عن النماذج المبرمجة التي وضعوها لأنفسهم، وقد يؤدي ذلك في النهاية إلى عدم قبول الآخرين إلا إذا استوفوا الشروط المطلوبة من الكفاءة والأهلية.
هوس الكمال واضطراب الشخصية
إن التربية المغلوطة والمشروطة بالأداء العالي وعجز الأبناء عن الوصول إلى هذه المقاييس العالية كما سبق القول يؤديان إلى الشعور العميق بالشك في كل ما يفعلونه كما يخلقان إحساسًا بالرفض وعدم القبول بالإضافة لمشاعر تتسم بالخجل والتقصير، حيث يحملون ضميرًا مفرط الحساسية تجاه بعض الأمور البسيطة والتافهة والتي لا تبدو خطأ، وقد تنتج عن ذلك مشاعر ذنب عميقة. ولذلك نتائج خطيرة من أهمها:
– الاكتئاب: إن محاولة الشخص للوصول إلى الأفضل والأكمل في الأداء تجعله غير راضٍ عن نفسه بسبب إخفاقه في الوصول إلى المستوى المطلوب، وهكذا فإنه يدور في دائرة مفرغة من البحث عن الكمال وعدم الرضا عن أدائه، وينتهي به الأمر إلى الدخول في حالة من حالات الاكتئاب.
– الوسواس القهري: قد تؤدي مشاعر الذنب العالية إلى دخول الشخص في اضطرابات نفسية مثل الوسواس القهري O.C.D، إذ يصاب بسلوك قهري وتصرفات تغلب عليها الشكوك والمخاوف، وذلك مثل غسل الأيدي عدة مرات أو القيام بترتيب وتنظيف مكتبه وخصوصياته مرات متعددة، ويرجع ذلك إلى ما يعانيه من صراعات يشوبها التردد والقلق والاضطراب.
– الهذيان والبارانويا: وفي حالات أخرى، قد يصل الشخص المصاب بهوس الكمال إلى نوع من الهذيان أي يصاب تفكيره بالضلالات، كأن يشعر بأنه مرسل من قِبل الله ليصلح الكون ويصل به إلى حد الكمال أو أن هناك أشخاصًا يقفوا عائقًا في سبيل تحقيق رسالته المقدسة، وهو ما يُعرف بالبارانويا.
العلاج:
إن علاج مثل هؤلاء الأشخاص المصابين بهوس الكمال يتمثل في مساعدتهم على الإفصاح عن مشاعرهم الحقيقية والتعبير عنها بصراحة وبحرية حتى يمكنهم التخلص من الشعور بالقلق والخوف والغضب المكبوت، وكذلك أيضًا مساعدتهم على الخروج من القوالب النمطية التي تمت برمجتها في أذهانهم. وهذا يتطلب تجديد الذهن نحو فكر الله ومشيئته من نحوهم إذ أنهم محبوبون من خلال المسيح الذي بذل نفسه من أجلهم، فقد أحبهم فضلًا وبدون شروط وبغض النظر عن حالتهم الفعلية والواقعية، كما أن الله أعد لكل واحد منا خطة رائعة فكل منا مميز ومتفرد.
إن هذا التجديد للذهن في حاجة إلى الانفتاح على نعمة الله المغيِّرة والتي تحرر الذهن من كل قيود ترسبت بفعل التربية والثقافة المجتمعية، فالنعمة تكمل كل نقائص فينا إذ نحن كاملون في شخص المسيح. ومن هذا المنطق، يشعر الشخص بقبول الله وقبول الآخرين له، ويعمل على تعديل فكرته عن النجاح والأداء المتقن والإنجاز العالي.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الشخص في حاجة إلى إطلاق الغفران لكل مَنْ أساء إليه، وهو الطريق الصحيح لإطلاق الحرية والشفاء.