تدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.
(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفله، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..
في الحلقة الأخيرة ظهر على مسرح الأحداث “أليعازار” وهو رجل أربعيني ذو رأس صغير وشعره خفيف من الأمام، لديه لحية كثة تغطي وجهه المستدير، وعيناه سوداوان ومتوسط القامة، وقوي البنية.. دار حوار بينه وبين “شببنة” ابن عم الطفلة وأبدى رغبته في أخذ الطفلة، لكن شبنة رفض رفضًا باتًا، وعاد “أليعازار” إلى بيته.. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة .. www.eltareeq.com)
طرق “أليعازار” باب بيته ففتحت له “حنة” زوجته.. وما أن رأته حتى أمطرته بوابل من الأسئلة..
– كيف حاله؟ هل هو متماسك؟ هل تحدثت معه؟ ه قل لي.. ماذا فعلت؟
– هل هذا سؤال؟ إنه “شبنه”. طبعًا متماسك.
– نعم.. ولكنه في ورطة. هل فاتحته في الموضوع؟
أجابها بتهرب:
– لا.. لم يتقبل الكلام، فالوقت غير مناسب، رغم أنه لا يُظهِر مشاعره لكنه حزين في أعماقه.
– الفضول يقتلني.. كيف سيتصرف مع الطفلة بدون زوجة؟ كان يجب أن تفاتحه في موضوع “يكليا”. هي الأخرى أرملة وعلى الأقل يربي أولادها مع هذه الطفلة.
– الرجل مكلوم.. فهمت من كلامه أنه رتب كل شيء مع العمة “رفقة”.
– كيف؟
– أبدًا، حينما سألته عما سيفعل غير الموضوع، وعندما سألته: “مرضعة أم زوجة؟”.. قال باقتضاب: “مرضعة”.. لا تنسي أنه حزين على عائلته. لقد فقدهم الواحد تلو الآخر.. أعتقد أنه لا يفكر في الزواج الآن. لا أخفيك سرًا .. هو مكسور من داخله.
– لا يا عزيزي .. لا يغرك صمته. “شبنة” شخص عميق لا يفصح أبدًا عما بداخله.
تململت “حنة” في جلستها وقالت بتذمر:
– لقد حاولنا مد يد المساعدة له ولكنه لا يريد .. كما يشاء ولكن لا يطلب أحد مني شيء .. يكفيني ما أنا فيه.
نظر إليها “أليعازار” بغيظ وصاح بصوت عالٍ:
– إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حله فلا بد أن تحل معه. إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردًا ترده إليه. هذا مع عدوك فما بالك مع قريبك .. وجارك .. وصاحب الفضل علينا ..
– لا تضخِّم مما فعل .. لقد رددت له المبلغ كاملًا.
اتكأ “أليعازار” واضعًا يده على خده ..
– هه ..رددته بعد سنوات دون فائدة .. لقد أنقذنا .. كان من الممكن أن نضيع .. لقد رد المديونية وأبعد عني أذى الدائنين بعد أن أصابوني وكدتُ أفقد قدمي.. بعد أن…
قاطعته “حنة” باقتضاب وهي تنظر إليه بعينيها الضيقتين:
– كفاك .. أنا ذاهبة. ورائي أعباء منزلية كثيرة ولا أحد يقدِّر.
ومضت وهي تمتم وتهز رأسها:
– أتمنى أن تُقدِّر ما أفعله نصف تقديرك لـ “شبنه”.
*********
استيقظ “شبنه” في اليوم التالي .. وبعد أن أتم صلواته تحرك ناحية خزانة الرقوق وتناول باعتناء من الرف العلوي كيسًا مغلقًا بإحكام .. فتحه وأخذ منه رقًا من جلد الكوشير، فقد قرر أن يصنع تفيلّين ويخط بداخله تميمة بخط يده الجميل ليكون عمره من عمر الطفلة المولودة.
وبعد أن صنع “شبنه” التفيلين، بدأ يكتب على الرق بحبر أسود نظيف وبخط جميل: “وَيَكُونُ لَكَ عَلاَمَةً عَلَى يَدِكَ، وَتَذْكَارًا بَيْنَ عَيْنَيْكَ، لِكَيْ تَكُونَ شَرِيعَةُ الرَّبِّ فِي فَمِكَ. لأَنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ أَخْرَجَكَ الرَّبُّ….. فَيَكُونُ عَلاَمَةً عَلَى يَدِكَ، وَعِصَابَةً بَيْنَ عَيْنَيْكَ. لأَنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ أَخْرَجَنَا الرَّبُّ” ” وَارْبُطْهَا عَلاَمَةً عَلَى يَدِكَ، وَلْتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ.”
نظر “شبنه” للرق بفخر بعد أن انتهى من الكتابة، فالخط منسق وجميل والحبر واضح تمامًا .. رفع نظره إلي السماء وظل يتمتم برهة من الوقت ثم تناول بعض الرقوق للقراءة.
وتأكد من فتح شباك غرفته حتى يجف الحبر .. وبعدها أخذ الرق الصغير ووضعه داخل التفيلّين ثم أدخله في كيس الرقوق الثمين ووضعه باعتناء على الرف العلوي.
واستعد ليواجه يومه ويعتاد على هذا النمط الحياتي الجديد رغم كل ما تفعله العمة “رفقة” هي و”رؤومة” في رعاية المولودة.
*********
نادت العمة “رفقة” لـ “شبنه” ليدخل الغرفة الداخلية:
– “شبنة”، تعال .. ألن تحمل الصغيرة؟ طالما تصر على إبقائها معك لا بد أن ترعاها كأب لها.
أجاب “شبنه” بارتباك .. فهذه أول مرة يمر بمثل هذا الموقف:
– نعم .. عمتي، بالطبع هي كابنتي ولا يمكن أن أتخلى عنها.
– إذن احملها وتحدث معها .. افعل هذا دون أن أملي عليك كل يوم ما يجب عليك فعله.
لاحظت العمة “رفقة” محاولاته لتجنُّب حمل الطفلة والتواصل معها، ففهمت مخاوفه وهمومه وقررت أن تكسر الحاجز بين “شبنة” الوقور و”شبنة” الإنسان.
تناول “شبنة” الطفلة بحذر بالغ، وعيناه مترقبتان، وقد غلفت وجهه نصف ابتسامة، فهذه من المرات الأولى التي يحمل فيها طفلًا .. وقد أثار الأمر داخله قليلاً من الشجن بسبب ذكرى وفاة زوجته وعدم إنجابه، لكنه سرعان ما تناساه وهو يتأمل ملامح “هداسا” الجميلة.
نظر إليها “شبنهة‘ بحنان بالغ .. وقال بصوت منخفض:
– “هداسا” .. أميرتي الصغيرة .. شجرة الآس ذات الرائحة الحلوة ..
شعر “شبنة” ببعض الحرية خاصةً مع خروج العمة “رفقة” لإنهاء بعض الترتيبات المختصة بالمنزل، ففكرة أن كونه أباً لطفلة صغيرة أمر جديد عليه.
بدأت الطفلة تبكي بصوت متقطع، فحاول هدهدتها وبدأ يدندن لها، وبعد فترة تجاوبت فهدأت وأصغت.
نظر “شبنه” في عينيها بشكل مباشر، وبدأ يتحدث معها، متسائلاً في أعماقه: ماذا سنفعل سويًا؟ فقد كان يشعر بمسئولية ضخمة ملقاة على عاتقة.
ظل يحدثها ويحدثها .. وهي تصغي، فاطمئن أن هناك تواصلاً بينهما، ثم، وبدون أي مقدمات، انفجرت الطفلة في البكاء والبكاء الشديد .. أصيب “شبنة” بالذعر، وفي ثوانٍ معدودة حاول أن يفعل كل ما يفعله ولكن دون جدوى .. نادى العمة “رفقة” سريعًا بل خرج وهو يحمل الطفلة.
دخلت معه العمة “رفقة” للحجرة ووضعت الطفلة على السرير وبدأت تكشف ملابسها وقالت له:
– هذا هو سبب البكاء
تسمر “شبنة” في مكانه للحظة.
– أووه .. عمتي. ما هذه الرائحة؟ .. لا أستطيع التحمل.
وخرج مهرولاً وعلى وجهه ملامح التقزز .. فيما ضحكت العمة “رفقة” وقالت وهي تسخر منه مقلدةً إياه: