نقطة اللاعودة

20

العدد 194 الصادر في نوفمبر ٢٠٢١

نقطة اللاعودة

بينما كنتُ أتفكر في حال الكنيسة العربية وخاصةً المصرية اليوم، وما بها من مناقشات، وفتاوى، وزعامات، وتعاليم غير كتابية فاسدة قد تصل لدرجة الهرطقات، والخلافات، والاتهامات، والصراعات بين الطوائف والكنائس وبين الإخوة والأخوات حتى في المذهب الواحد أو الكنيسة الواحدة، أججتها وزادتها لهيبًا سهولة الحصول على صفحة في الفيسبوك، وسهولة كتابة كل ما يحلو ويروق لأي إنسان كتابته دون رقيب أو حسيب أو حتى وازع أو رادع من ضمير أو أخلاق أو إيمان وغيره، لستُ أدري لماذا قفزت في عقلي هذه العبارة الشهيرة والحقيقة الاجتماعية والعلمية والروحية الأكيدة وهي عبارة “نقطة اللاعودة” أو اللارجعة كما يسميها الغالبية العظمى من الناس.

وفيما يخص تعريف القواميس لنقطة اللاعودة، وبالرغم من الاتفاق على معناها العام، إلا أنها تختلف باختلاف مجال تطبيقها، فنقطة اللاعودة في علم الفيزياء النووية تعني بداية “لحظة معينة من التفاعل، عندما تكون العملية لا رجعة فيها، أي لا يمكن تغيير التفاعل ولا يمكن إيقافه.”

وفي مجال الطيران، يُستخدم مصطلح “نقطة اللاعودة” عندما تسافر طائرة ما لمسافة لا يتوفر فيها سوى وقود كافٍ للسفر إلى وجهتها دون الانحراف عن المسار. فإذا ما سافرت الطائرة وانحرفت عن مسارها، لأي سبب من الأسباب، إلى أبعد من نقطة معينة ومحددة لها، حتى لبعض الأميال القليلة، لا يمكنها أن تعود إلى مكان انطلاقها مرة أخرى لأن وقودها المتبقي بها أقل من أن يسمح لها بالعودة.

ويرى بعض علماء الاجتماع في العالم الحديث أن نقطة اللاعودة هي مصطلح اجتماعي، وليست مصطلحًا فيزيائيًا أو هندسيًا أو خاصًا بالطيران، عندما تُستخدم في خطاب أو تقرير ما، فإنها تريد التأكيد على أهمية وإلحاح اللحظة والقرارات المتخذة فيها، وحقيقة أنه يمكن أن اتبع هذه اللحظة، أي “نقطة اللاعودة”، مجموعة متنوعة من العواقب، إيجابية كانت أو حتى كارثية لا رجعة أو عودة فيها.

وفي رأيي الخاص أنه ما من بشر على وجه البسيطة منذ أن خلق الله آدم وحواء حتى اليوم، والى قيام الساعة، لم يمر ويختبر عبور “نقطة اللاعودة” بشكل أو آخر في حياته.

فلقد كان أول مَن اختبر عبور نقطة اللاعودة وأول من سقط فيها آدم وحواء، فعندما خلقهما سبحانه في الجنة قال الله لآدم: «من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت»، وكأنه سبحانه وتعالى يقول لآدم إن “نقطة اللاعودة” بالنسبة لك ولحواء هي لحظة أكلكما من شجرة معرفة الخير والشر. ولم ينتبها كلاهما لخطورة “نقطة اللاعودة”، وعصيا ربهما وأكلا من الشجرة المحرمة، فانفتحت أعينهما، وعرفا أنهما عريانان، وعرفا أنهما عبرا “نقطة اللاعودة” التي حذرهما منها المولى تبارك اسمه؛ عبرا هذه النقطة البغيضة والتي لم يكن في إمكانهما أن يرجعا فيما بعد إلى ما قبلها من حالة الطهارة والبراءة والعشرة والشركة معه سبحانه والتي فقداها بمجرد عبورهما “نقطة اللاعودة”، فاختبرا الموت الأدبي، وانفصلا عن الله، وطُردا من الجنة إلى ابد الآبدين.

والعجيب أن ولدهما الأكبر قايين، في خلافه مع أخيه هابيل، كان بإمكانه أن يستخدم الكثير من الطرق السلمية ليتحدث من خلالها لأخيه بدلًا من أن يسمح لنار الغيرة والضغينة والقتل أن تقوده لعبور ”نقطة اللاعودة“ والتي فيها قام على أخيه وقتله، بالرغم من أن أخاه ما كانت له ناقة ولا جمل في الأمر كله، حيث كان أمر رفض ذبيحة قايين قرارًا إلهيًا بحتًا بعيدًا كل البعد عن تدخل هابيل في اتخاذه.

وهكذا توالى في الكتاب المقدس ذكر أشخاص من رجال ونساء الكتاب المقدس ومن الملوك والقادة والنذيرين الذين عبروا “نقطة اللاعودة” ولم يستطيعوا الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل عبورها.

فلقد عبر عيسو ابن إسحق “نقطة اللاعودة” حين باع بكوريته لأخيه يعقوب، وعندما أدرك أنه عبرها ولا يمكن الرجوع في جريمته الشنعاء وحاول استرداد البركة التي كانت له والرجوع إلى ما قبل “نقطة اللاعودة” لم يستطع، فمع أنه تاب وندم وطلب العودة بدموع لكنه لم يجد للتوبة مكانًا، إذ يذكر لنا تنزيل الحكيم ما نصه: “وطبخ يعقوب طبيخا، فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا. فقال عيسو ليعقوب: «أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييتُ». لذلك دعي اسمه «أدوم». فقال يعقوب: «بعني اليوم بكوريتك». فقال عيسو: «ها أنا ماض إلى الموت، فلماذا لي بكورية؟»  فقال يعقوب: «احلف لي اليوم». فحلف له، فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزًا وطبيخ عدس، فأكل وشرب وقام ومضى. فاحتقر عيسو البكورية.” لذا كتب لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين محذِّرًا: “لئلا يكون أحد زانيًا أو مستبيحًا كعيسو، الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته. فإنكم تعلمون أنه أيضًا بعد ذلك، لما أراد أن يرث البركة رُفِضَ، إذ لم يجد للتوبة مكانًا، مع أنه طلبها بدموع.” وكم من خدام وقادة ومرنمين وقسوس ورؤساء طوائف باعوا البركة بما يشبع بطونهم، بأكلة رخيصة، أو بقليل من الدولارات، أو ببريق الشهرة والانتشار والظهور في التليفزيونات والحديث في الإذاعات.

ويعوزني الوقت ومساحة النشر إن حاولتُ أن أكتب عن كل أولئك الذين عبروا “نقطة اللاعودة” في الكتاب المقدس، لكن نظرًا لأننا أمام حالات من الخدام والقادة والقسوس وخاصةً المرنمين الذي عبروا منذ زمان بعيد “نقطة اللاعودة”، وحيث إنني أثق أن منهم من كان نذيرًا لله من بطن أمه للخدمة أو الوعظ أو التعليم أو التأليف والتلحين والترنيم، ومكلفًا من الله للانتصار على أعداء الله بأسلحة روحية قادرة بالله على هدم حصونه، لذا فقد رأيتُ أن أذكر في الكتاب شمشون وقد كان من المستخدَمين، بَشَّر الملاك والدته بإنجاب غلام من النذيرين، غلام لا يعلو موسى رأسه ولا يكون كالكثيرين الذين يتنجسون بالنساء أو الخمر وما يسكر الغافلين، يتحرك بروح الله فيهزم أعداءه من الفلسطينيين، يخلِّص بقوة رب السماء شعبه من الظالمين، يخيفهم بالسيف ويقتلهم بلحي الحمار بأمر رب العالمين، بترنيم وتسبيح حارب وانتصر وكان من الغالبين، وملأ الكون تمجيدًا للإله الصادق الأمين، حث الملائكة، عَلّي يا ملائكة عَلّي، سبحي الرب إله القديسين، نجح أينما ذهب، ترك بصماته على حياة الملايين، شمشون متفرد، مبارك، مميَّز بين الخلق أجمعين، يقتل ألف رجل من أعداء الله الفلسطينيين، لا بسيف أو برمح لكن بلحي حمار مسكين، يصعد الجبل حاملًا باب المدينة الثقيل المتين، يمسك بأعمدة بيت فيهدمه فوق رؤوس مَن فيه من المحتفلين.

حتى تسللت إلى قلبه أفكار من أعداء الله الشياطين، للتزاوج من بنات الناس الأشرار المحَرَّمين، فهذه رابعة العدوية، وتلك دليلة الفلسطينية الإسلامية، أعد لهن حفلات وصالونات ولقاءات لمدحهن وتدليلهن حتى تنجَّس رأس مَن كان من النذيرين، حاجج الشعب الوثني أحجيات واختلط بالمغنين والمداحين، التصق بمن يخالفونه في العقيدة والقناعة والدين، بحث في كتب الأولين وآمن بالصوفية والصوفيين، المسيح صوفي في عرفه والروح القدس هو هادي في الحضرة المنشدين، رأى وجوههم تلمع وتعلَّم الحكمة من الشيوخ المُخَاوين، خلط التبن بالحنطة فدخل عقر دار الشياطين، حلل ما حرم الله، وحرم ما حلل الله وكأنه على الأرض وكيل رب العالمين، لا رجوع لمسئول أو مشير ولا كبير، فالكل في نظره غير مؤهلين، هو وحده مَن يعرف الكتاب ويفهمه، ومَن كان دونه فهم من الجهلاء المغيبين، هددهم بأنه سيأخذ كتاب الله من أيديهم وسيتركهم في جهلهم غارقين، دخل بيت الصوفية الشريرة التي أعدها الشيطان لتنجِّس المؤمنين، لتعرف سر قوتهم وتنيمهم على ركبتيها مستسلمين، قالت: “اخبرني بماذا قوتك العظيمة وكيف أجعلك من المذلين؟” قال: “إن قوتي في عهد انتذاري، في شَعْرِي وشِعْري ألا يكونا لغير المسيح إلى أبد الآبدين.” قالت: “أما شِعْرُك فسيظل كما هو لكن فقط لله رب العالمين، لا مسيح ولا طريق وحياة وحق وحيد وأنت تخاطب المسلمين، اجعل إيمانك لنفسك أو اكتبه للمسيحيين المرنمين، تسكت به أصواتهم إن علت لغياب اسم المسيح صارخين، أما شَعْرَك وعهد انتذارك فإن أقطاب الفلسطينيين من المسلمين لنزع جذوره من رأسك لمن المستعدين، المتشوقين لرؤيتك ضعيفًا هزيلًا بين المهانين، فشِعْرُكَ على كل حال قد خلا من القوة والجمال من سنين، وأنغام شِعْرِك تشابهت مع أنغام مَن كانوا في الحضرة هائمين، وفي زار عن وعيهم غائبين.”

حلق العدو سبع خصل من رأس شمشون، فوصل إلى “نقطة اللاعودة” وفارقته قوته وهو لا يعلم. حاول شمشون أن يوهم مَن حوله بأنه ما زال هو شمشون القديم، صاحب المكانة والقوة التي لا تُقهر، انتفض كعادته لكنه كان قد عبر “نقطة اللارجعة”. أُخذ إلى حيث لم يشأ، دار في ساقية الأيام وطاحونة الأعداء وهو لا يبصر، فإن أول ما يصنعه العدو بالمؤمن النذير هو أن يعمي عينيه حتى لا يعود يرى الأمور على حقيقتها أو يعرف إلى أين سيأخذه الطريق الذي يسير فيه، يعتمد على أذنيه فقط لا عينيه، فهو يسمع كلمات المعجبين والمشجعين والمتيمين والمغيبين على طول الطريق الذي لم تعد عيناه قادرتين على رؤية بدايته أو نهايته، يطمئن في سيره ما دامت الأصوات تحيط به، لا يميز أن كانت أصوات أحباء أم أعداء؛ أولئك الذين يتألمون لأجله ويذرفون الدمع والدم على ما وصل إليه أم أولئك الذي يهتفون وراءه: “ليُصلب. ليُصلب.” كل مَن ينتقده فهو عدوه، حتى آكلي الخبز معه تنكرَّ لهم، لا مجال لذكر العيش والملح بعد، يرى أنهم أعداؤه. عندما يضنيه الصراع مع كل مَن حوله يعلن اعتزال الكل، ينام على سريره مكتئبًا. الأصدقاء الذين كانوا أحباء يذهبون ليرفعوه، ليشجعوه، ليصلّوا معه ويسندوه. لا يلتفت إليهم. لم يَعُدْ شمشون يرى؛ لا يفرِّق بين العدو والصديق. في ذهنه كل مَن يسمعه ويمدحه ويهتف له فهو الحبيب؛ مَن يتجرأ ويحذره فهو العدو. عندما يفيق لنفسه ويرجع إليها ويقرر الظهور في عالم الأحياء مرة أخرى، يعقد اللقاء الأول، ويلتف حوله مَن يهتفون له: “شمشون يا بطل، شمشون يا رجل الله، سيخزى ويخجل القائمون عليك، وهل نسيتم تاريخ شمشون أيها المنتقدون؟” يلقى خطابه الأول في محفل المريدين، يمثِّل نفسه بالمسيح الذي جُرح في بيت أحبائه، وهو كمن هو محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع مختبر الحزن، وهذه الجروح الظاهرة عليه هي تلك الجروح التي جُرح بها في بيت أحبائه، القسوس والخدام، أولئك الذين وصف مجتمعهم بأن به ما لم يره في مجتمع الشياطين، يكتب عنهم، يشتمهم، يهددهم، يحاول أن يخرسهم، فكل مَن لا يوافقه فيما يقول إنه خائن، مجرم، مرائي، جاهل، غير مؤهل لمنازلته، وكل جريدة تكتب ضد أفكاره هي جريدة صفراء. يواصل السير في طريقه الذي يصحبه فيه “المِخَاوون”، أي الذين يتخذون من الجن إخوة لهم، الصوفيون، المداحون. تقوم كنائس ورؤساء مذاهب متملقون، مغيبون، مغرضون أو غير مبالين بما يحدث في المجتمع الكنسي والفضائيات الليبرالية التي يشجع مقدمو البرامج بها على زواج المسلم بالمسيحية، يقومون بدعوته ليحيي لياليهم الرمضانية، أو سهراتهم الكنسية، أو اجتماعاتهم التي يلقبونها بأنها اجتماعات روحية، القلة من رؤساء المذاهب يصدرون البيانات محذِّرين من تعاليمه والبعض الآخر يصمت كأهل الكهف. الكنائس تضرب بقرارات مذاهبهم عرض الحائط، كنائسهم وقسوسهم يدعونه ليرنم فيها، من رؤساء المذاهب مَن لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم خوفًا على علاقته به أو علاقته بالقسيس الذي دعاه أو اتقاءً لغضب أعضاء الكنيسة الداعية. تملأ صوره الفيسبوك جنبًا إلى جنب مع رجال الله القديسين المشاهير، يثور الناس ويكتبون للشيخ الوقور أو القس المشهور: “كيف تخدم معه نحن غير مصدقين؟” ينسحب المسكين ويعتذر عن الحضور وتُرفع صورته من الإعلانات، أرواح الغي والكذب والتشويش العالي جدًا تتبعه أينما يمضى وحيثما حلَّ، خناق وصراع وخلاف بين الإخوة والأخوات والأبناء في الكنيسة الواحدة أو حتى في البيت الواحد، كل هذا لا يحرك له ساكنًا؛ سأستمر في خطتي، وسأثبت للمعارضين أنني مازلت شمشون القوي، المحبوب، المرغوب، وما زال جدول ارتباطاتي مليئًا بدعوات القادة والقسوس. سأعود من جديد، لا كشمشون النذير الذي يتحرك بين الكنائس فحسب بل سأتحرك بين صُرعة وأشتاؤل بين معسكرات الفلسطينيين.

هذه المرة، بعد العودة من العزلة، لابد من السير بخطوات أخرى سريعة في هذا الطريق، لابد من الوصول لا للآلاف عن طريق الكنائس والفيسبوك بل لشيء أكبر كثيرًا، شيء يذاع على الراديوهات ويُشَاهَد على التليفزيون المصري، شيء لا يمكن أن يفتح أحد فمه ويعترض عليه مهما حدث فيه، فالحدث تحت رعاية السيد الرئيس، شيء يجمع المواهب المختلفة، ليس مهمًا ما يقال أو يُرَتَل أو يُجَوَّد، لا يهم إن كان ما يُعرض يمجِّد المسيح أو يمجِّد مَن لا يعترف بالمسيح، روح ضد المسيح، الغاية تبرر الوسيلة. لا مانع من حذف بعض الكلمات التي تؤذي آذان بعض السامعين من غير المسيحيين، أو التي قد تجرح مشاعر المسلمين كعبارات “ابن الله” أو “نسجد لاسم المسيح العظيم”. هذه يمكن حذفها، تجاهلها، فالوقت والظروف المحيطة، وديانة الحاكم الآخر بجانبي، والمكان غير مناسب، بالرغم من علمه بأن الله أوصى خدامه بالروح القدس: “اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ، انتهر، عظ بكل أناة وتعليم.” وبالرغم من علمه بأن ما حُذف من كلمات الترانيم هي كلمات محورية لا تصلح الترنيمة بغيرها، وأن قبوله لسماعها محرَّفة أو محذوفة من القارئ الشاب، دون اعتراض منه، أو لفت نظر مؤديها إلى أن الكلمات غير صحيحة وناقصة، لهو جريمة روحية ستدفع ثمنها الأجيال القادمة، فليس من المهم كل هذا، المهم أن أتواجد في الصورة كواحد من المحكمين في فعالية تحت رعاية سيادة الرئيس. فمن يستطيع من أعدائي أو منتقديَّ أن يصل إلى تلك المنزلة الرفيعة؟ مَن منهم لديه الخبرة الفنية أو الروحية التي تؤهله لأن يجلس مكاني بين جماعة المحكمين، أنا وأنا فقط، لتأكل النار والغيرة المنتقدين، لتأكلهم مني ومما وصلتُ إليه من شهرة وانتشار لن يتسنى لأحدهم أن يقترب منهما، أنا وبعدي الطوفان، العظماء مائة وأعظمهم أنا، فستسير القافلة وتعوي الكلاب، فأنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء.

ولا يعلم ولن يعلم وإن علم فلن يقبل شمشون حقيقة أن فعلته الأخيرة التي رتبها له أعداء الله ليلعب بها دور الحكم الفني هي تمامًا كما رتب أقطاب الفلسطينيين في القديم المسرح لشمشون ليلعب أمامهم، إذ يقول الكتاب: “وأما أقطاب الفلسطينيين فاجتمعوا ليذبحوا ذبيحة عظيمة لداجون إلههم ويفرحوا وقالوا: ’قد دفع إلهنا ليدنا شمشون عدونا.‘” هذا هو عين ما أراه من دعوة شمشون الحديث: “كان البيت مملوءًا رجالًا ونساءً وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين (قوات الشر الروحية في السماويات) وعلى السطح نحو ثلاثة الاف رجل وامراة ينظرون لعب شمشون.”

وإنني أرى أن شمشون عندما امسك بالعمودين القائم عليهما بيت داجون كان رمزًا وتحذيرًا لكل خادم أو مرنم يمسك بالعمودين القائم عليهما بيت حياته وخدمته وتأثيره الروحي على مَن حوله، فبيت الخادم وخدمته وتكريسه وطاعته وولاؤه لابد أن يكون مبنيًا على عمود واحد هو عامود الحق وقاعدته، وحجر واحد هو حجر الزاوية المسيح يسوع تبارك اسمه، فمن يمسك بعمود آخر سوى عمود الحق وقاعدته، ويخلط الأوراق بين عمودين، ولاهوتين إبراهيمي وحر، وطريقين مسيحي وصوفي، وبِرَّيْن الأيوبي والمسيحي، لابد أن يكون قد قرر الانتحار، وقد حكم على نفسه: “لتمت نفسي مع الأشرار”، ووصل إلى “نقطة اللاعودة” بالنسبة له، وسيكون الذين أماتهم بعبوره “نقطة اللاعودة” أكثر جدًا ممن أماتهم بتعاليمه طوال حياته.

وللإنصاف أقول إن الكثيرين في حياتهم من الخدام والمرنمين والكهنة ورؤساء الطوائف والمسئولين وغيرهم قد وصلوا إلى “نقطة اللاعودة”، فنقطة اللاعودة كثيرًا ما تحدث في غفلة منهم أو قد تحدث بعلم منهم بسبب تركيزهم وإصرارهم على المضي قُدمًا لتنفيذ مخططاتهم بالرغم من كل اللافتات التي رُفعت وتُرفع لهم محذرةً إياهم من أنهم على وشك عبور “نقطة اللاعودة”.

إن “نقطة اللاعودة” لا تعني نقطة هلاك المؤمن المغسول بدم المسيح والذي أصبح ابنًا لله بسبب قبوله للمسيح مخلِّصًا شخصيًا له وقد كُتب اسمه في سفر الحياة، أي ذهابه للجحيم بدلًا من ذهابه إلى السماء ليحيا بها إلى أبد الآبدين، وذلك بناءً على ما علَّم به سيد الأرض والسماء حين قال: “خرافي تسمع صوتي، وأنا اعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي”، بل “نقطة اللاعودة” هنا هي خاصة باستمرارية الخادم، كخادم أو مرنم في خدمته، وقوته، وتأثيره، واستخدامه من الله بالطريقة التي يحددها الله ولمجد الله وحده، فقد تزداد خدمة الخادم الذي يعبر “نقطة اللاعودة” في انتشارها، وصخبها، وعدد التابعين والمريدين والمغيبين الهتيفة الذين يمشون وراءه كالقطيع دون تمييز أو فهم روحي، فيترسخ في داخله ما قاله ملاك كنيسة اللاودوكيين كما ذكرتُ سابقًا: “إني أنا غني وقد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيء”، وعندها فلابد أن يجيبه “الأمين”، الشاهد الأمين الصادق، بداءة خليقة الله: “أنا عارف أعمالك…. أنا مزمع أن اتقياك من فمي.لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان.”

وفي النهاية، أقول لشعب الرب: كفوا عن الصراخ والعويل والندب على كل مَن عبر “نقطة اللاعودة”، لا تسيروا وراء سراب عواطفكم ومشاعركم، فليست هناك قوة في الأرض أو السماء تستطيع أن تعيد مَن عبر “نقطة اللاعودة” إلى حالته قبل عبورها، فمع علمي وتأكيدي أن الله لا يعدم وسيلة ليرد نفس مَن عبر “نقطة اللاعودة” ويهديه إلى سبل البر من أجل اسمه، لكن سيظل في عداد مَن عبروا “نقطة اللاعودة” في نفسه وذاكرته وضميره ما قاله وما عمله وما كتبه وفي تأثيره على أتباعه ومَن حوله، واطلبوا من الله تمييزًا روحيًا لما يريدكم أن تفعلوه معهم ولأجلهم. لقد زجر الله صموئيل النبي عندما ناح طويلًا على شاول ملك إسرائيل: “قال الرب لصموئيل: ʼحتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل؟‘” ومَن أراد أن يقرأ أكثر عن كيفية التعامل مع مَن عبروا “نقطة اللاعودة” فليقرأ على صفحة جريدة “الطريق والحق” مقال “الطرق الإلهية الكتابية للتعامل مع أصحاب الإعلانات الروحية والصوفية”.

ويا أيها المحاربون ضد كل ما هو ليس كتابي والذين يتتبعون أخطاء مَن عبروا “نقطة اللاعودة”، حسنًا تفعلون، أعانكم الله على كشف كل زيف وخداع، لكن انتبهوا لئلا تضيع أوقاتكم وطاقاتكم النفسية والروحية والمادية في تتبع ما وصل إليه مَن عبروا “نقطة اللاعودة”، فحياتكم أثمن من أن تضيع في أمر آخر سوى الجلوس عند قدمي يسوع. اعملوا فقط ما يأمركم القدير بعمله، وضعوا نصب أعينكم أنه مَن هو قائم فينا فلينظر لئلا يسقط ويعبر “نقطة اللاعودة”

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا