موسى بن ميمون والعلمانية

14

د. مراد وهبة

في 2 أغسطس من عام 1985، تسلمتُ دعوة للمشاركة في أول مؤتمر دولي عن موسى بن ميمون والذي انعقد في قرطبة بإسبانيا بمناسبة مرور ثمانية قرون ونصف القرن على مولده، وكان عنوان بحثي هو “موسى بن ميمون والعقل العلماني”. وقد جاءت صياغة هذا العنوان في سياق اهتمامي بابن رشد الذي كان معاصراً لابن ميمون. وفي هذا السياق أيضاً، جاء عنوان بحثي عن مفارقة ابن رشد وهو البحث الذي ألقيته في المؤتمر الفلسفي الدولي الأول عن الإسلام والحضارة والذي عقدته في جامعة عين شمس في عام 1979. وكنتُ أقصد بالمفارقة أن ابن رشد حي في الغرب ميت في الشرق، بمعنى أنه قد أدى دوراً أساسياً في انتقال أوروبا من عصر النهضة إلى عصر التنوير. وبصياغة أخرى، يمكن القول إن فلسفة ابن رشد تنطوي على جذور الدعوة إلى سلطان العقل المعبِّر عن الروح العلمانية التي دفعت أوروبا إلى تأسيس الثورة الصناعية والتي كان قد استلهمها الإمبراطور فردريك الثاني للتحرر من سلطة الكنيسة. وإذا كان هذا هو دور ابن رشد، فماذا كان دور موسى بن ميمون؟ كان اهتمامه من اهتمام الفلاسفة اليهود الذين كان هو واحداً منهم، ولكن في الصدارة محاولة التوفيق بين العقل والإيمان في سياق إيمانهم بأن التوراة تعبير عن حقيقة مطلقة، وبأن الفلسفة اليونانية التي وردت إليهم عبر الترجمات العربية تعبير أيضاً عن حقيقة مطلقة، ولكن مع اقتناع موسى بن ميمون بأن أسلوب الحياة اليونانية كان قد أسهم في تطوير الفلسفة أفضل مما فعلت أديان عصره. وقيل في حينها إنها عبارة تتسم بالجرأة.

والسؤال إذًا: ما سبب هذه الجرأة؟ قيل في الجواب عن هذا السؤال إن هذه الجرأة مردودة إلى السير في الطريق المعاكس الذي كان يسير فيه علماء الكلام من القول برفض العلية وبرفض أي نظام للكون، إذ إن هذا الرفض الثنائي يعنى أن كل الأحداث مرهونة بما يريده الله. وبعد ذلك، جاءت الضربة القاضية لذلك الرفض من قِبل أبو حامد الغزالي في كتابه المعنون “تهافت الفلاسفة” والذي هاجم فيه النظريات الثلاث الملحدة للفلاسفة وهي: قِدم العالم، وعدم معرفة الله بالجزئيات، ورفض بعث الأجسام. وكان من اللازم مواجهة هذا التحدي من قِبل الغزالي إذا أُريد للفلسفة أن تكون حية. وقد استجاب لهذا التحدي فيلسوفان: ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت”، وابن ميمون في كتابه “دلالة الحائرين”، وفي مفتتحه يقول إن هذا الكتاب موجه إلى المفكرين الذين دخلوا في صدام مع الدين، والذين درسوا الفلسفة واقتنعوا بصحة معارفها مع التزامهم بصحة ما جاء في كتب الأنبياء فإذا بهم يقعون في دهشة بسبب ما انطوت عليه من غموض في ظاهرها. ومن أجل إزالة هذه الدهشة، ارتأى أن العلم بأحوال الكون مسألة تخص عقل الإنسان. وعندما سُئل عن رأيه في علم التنجيم، كان جوابه هو أنه على الإنسان أن يقبل منه ما يتفق مع عقله أو مع حواسه أو مع سلطة موثوق بآرائها، وغير ذلك من هذه المعايير الثلاثة يلزم رفضه. وإذا وُجِدَ في التلمود ما يفيد غير ذلك، أي ما يفيد أنه جزء من علم التنجيم باعتباره مصدرًا للمعرفة الصحيحة، نكون أمام أحد أمرين: إما رفضه باعتباره تعبيرًا عن رأى أقلية، وإما قبوله باعتباره شكلاً من أشكال الاستعارة. ومن هنا قيل إن الغاية من تأليف ذلك الكتاب مردودة إلى بيان أن إعمال العقل كفيل وحده بالبرهنة على وحدة الحقيقة بين الفلسفة والدين، وذلك بالاستناد إلى التأويل المجازي. ويبقى بعد ذلك السؤال التالي: لماذا استعان ابن ميمون بذلك التأويل المجازي؟ وجوابه مردود إلى اكتشافه أن المعنى الحرفي للنصوص الدينية، ومن بينها قصة الخلق، يناقض العقل باعتبار أنها في معناها الظاهري تفضي إما إلى إفساد المخيلة أو تحريف في الإلوهية أو إنكار لها.

وتأسيساً على ذلك كله، يمكن القول إن كلاً من ابن رشد وابن ميمون كان في أعماقه داعياً إلى تأسيس العقل العلماني إلا أن كلاً منهما لم تكن لديه الجرأة لإلحاق هذا العقل برجل الشارع واكتفى بإلحاقه بالنخبة. ومن هنا جاء عقدي للمؤتمر الفلسفي الدولي الخامس تحت عنوان “الفلسفة ورجل الشارع” في عام 1983 في جامعة الدول العربية، وهو العام الذي كان سابقًا بعامين للاحتفال بابن ميمون. وإذا أدخلنا المؤتمرين في مؤتمر واحد نكون بذلك قد أدخلنا العقل العلماني في عقل رجل الشارع. وفي هذا السياق، يكون مغزى ورقة العمل التي أرسلتها إلى المشاركين في مؤتمر القاهرة والتي ورد بها ما يلي: “المسألة الأولى تدور حول التحدي الحقيقي الذي يواجه الفلسفة في عصر رجل الشارع، وهو أن تستجيب لذلك التغير الذي أحدثته هذه الظاهرة المتفردة التي يُقال عنها إنها رجل الشارع. وبصياغة أخرى، يمكن القول إنه إذا ظل الفلاسفة في تناول موضوعاتهم بمعزل عن الجماهير مع الاكتفاء بالنخبة فإن وقوعهم في الوهم أمر لازم. وسبب ذلك مردود إلى أن المستقبل محكوم برجل الشارع وليس بالنخبة لأنه هو نفسه سيكون النخبة الجديدة، وسيكون هو الأكثرية وليس الأقلية. والمسألة الثانية تكمن في دور فلاسفة العالم الثالث بوجه عام، وفلاسفة العالم العربي بوجه خاص، في كيفية صياغة حلول لمشكلات فلسفة المستقبل التي هي فلسفة من أجل رجل الشارع.

وختاماً أقول لكم: إذا كنا ننشد سلاماً في الشرق الأوسط فإن سيادة العقل العلماني هي الخطوة الأولى. ومن غير هذه السيادة فلا بديل إلا صراع الأصوليات الدينية، وهو الأمر الحاصل في الوضع القائم.”

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا