ملابس غير لائقة

12

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 لم يكن مقتل الإيرانية مهسا أميني منذ بضعة شهور سوى مقياس رصد لقوة المرجعية الدينية التي تُغلِّف النظام السياسي في إيران. ورغم قسوة الحدث والحادثة والتي تبارت الأقلام والأصوات والشاشات أيضًا في رصدها بغير رحمة أو قوالب جاهزة للتصدير، إلا أن الإحداثيات التي تزامنت مع الحدث نفسه وما تلاه من مشاهد تبدو مضطربة حينًا وأخرى تعبِّر عن أصوات باتت قيد الصمت لعقود بعيدة حينًا آخر.

واليوم يتصدر مشهد الثورة المستدامة شوارع إيران التي اعتادت ألا تعرف للهدوء طريقًا أو سبيلًا منذ إعلان سقوط نظام الشاه وظهور دولة المرشد وإعلاء حكم المرجعية الدينية التي صدَّرت للشرق الأوسط فكر التنظيمات الدينية السياسية، والتي كانت آخر فصولها التراجيدية الأكثر شراسةً ووحشيةً اغتيال الرئيس السادات وقت احتفاله مع القوات المسلحة بذكرى انتصارات أكتوبر في 1981.

ورغم أن تلك التيارات الدينية المتطرفة التي انفجرت من عيون الثورة الإيرانية، والتي يمكن توصيفها بالانقلاب الديني ضد حكم الشاه ليس أكثر، وإن كانت المزاعم المستترة هي القول الفصل بمعنى حلم الوصول إلى سدة حكم الأراضي الإيرانية تحت أية أقنعة، استمرت في ممارسة كل صنوف التطرف الممزوج بالإرهاب الدموي المسلح في فترة التسعينيات بمصر وحتى الثورة الشعبية التي أسقطت حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر وعزلت الرئيس الإخواني محمد مرسي، ولم تتوقف هذه الممارسات، لكن إذا قمنا بتأريخ الأعمال العنيفة التي قامت بها جماعات الإسلام السياسي يظل اغتيال السادات هو العمل الأبرز في تاريخ هذه الجماعات الراديكالية التي لم تفلح معها حتى الآن وقفات المراجعات الفقهية أو تصحيح المفاهيم المغلوطة، لأن القاعدة تقول بأن الظل لا ولن يستقيم ما دام العود أعوج!

والانتفاضة الشعبية اليوم في إيران تعادل قوة الانقلاب الذي قام به أنصار الإمام الخوميني لإسقاط حكم الشاه، حين كان الخوميني في منفاه في باريس يقضي عقوبة النفي، كما كان السياسيون آنذاك يقبعون في مساكنهم يخططون ويدبرون ويحيكون المكائد والمؤامرات لإسقاط الأمم والدول. وهذه هي عادة كافة التيارات الدينية السياسية منذ عهد جماعة الإخوان ومنظِّرها المؤسس حسن البنا مرورًا بتيارات وطوائف الجماعات الإسلامية، وجماعة التكفير والهجرة الدموية، وجماعة الشوقيين، والجيوب الصغيرة المتطرفة التي خرجت من عباءة سيد قطب. لكن ما تناقلته الوكالات الإخبارية ومواقع الصحف والمجلات يشير إلى أن الوضع الداخلي في إيران الشيعية ينذر إما بإسقاط دولة المرجعية أو بمزيد من حالات القمع والترهيب بغير رحمة أو تهاون. وهذا ما أشارت إليه “ميدل إيست أونلاين” في تقريرها الصحافي الصادر يوم السبت 31 ديسمبر 2022، حيث إن الاحتجاجات المستمرة منذ منتصف سبتمبر الماضي في طهران استطاعت مجددًا منذ ثورة الخوميني السياسية ذات الطابع الديني أن تكسر حاجز الخوف وتزيل قناع الرهبة والخشية الذي ارتداه المواطن الإيراني منذ عقود طويلة، وأيضًا تنزع هالة القداسة التي تبدو الآن مزعومة ومصطنعة عن علي خامنئي، وهو بالفعل في إيران أعلى مرجعية دينية وسياسية.

ويشير التقرير إلى أن علي خامنئي بات هو الأكثر استهدافًا في الحراك الشعبي الثائر دونما توقف نتيجة العجز عن إيقافه حتى الآن، وذلك بوصفه أرفع رمز للنظام الديني، من خلال شعارات تنادي بإسقاطه وتصفه بالدكتاتور. وكان انتقاد علي خامنئي أو التعرض له بما يخالف صورة القداسة التي رسمتها المؤسسة الدينية للمرشد الأعلى منذ ثورة الخميني قبل أكثر من ثلاثة عقود خطًا أحمر يُعَاقَب مَنْ يتجاوزه بأشد العقوبات، لكن حدث هذا بالفعل!

هذا ما يشهده الشارع الإيراني من طرف واحد، لكن على الشاطئ الآخر الموازي للحشد الشعبي الإيراني والوقوف في وجه صلف المرجعية التي بدت قمعية ووحشية نجد مشهدًا اعتياديًا يراه كل المحللين السياسيين طبيعيًا كذلك، لأن الشرطة الإيرانية تضرب بقوة ولا تكترث بكل شعارات ومزاعم ومؤتمرات والنداءات العالمية المرتبطة بحقوق الإنسان. حقًا فلتسقط كل حقوق الإنسان وربما الحيوان أيضًا في إيران كما سقطت من قبل وقت اندلاع انتفاضتي باريس ولندن منذ سنوات، لأن مثل هذه النداءات الكاذبة يمكن تداولها وتدويلها في نقاشات افتراضية لا تمت للواقع بصلة، وهذا ما ينبغي أن يعلمه المواطن العربي وهو يطالع بشغف الاهتمام الغربي بحقوق الإنسان.

ولا شك أن المسألة تبدو عميقة ضاربة بجذورها في تاريخ الإسلام السياسي المعاصر حينما نستقرئ فكر الجماعات الدينية الإسلامية التي انخرطت في الشأن السياسي، لا سيما وأن مساهماتها لم تصب في مصلحة الأوطان والمواطنين بنفس القدر الذي أحدثه هذا الفكر وتلك الطروحات التي بدت في معظم الوقت أكثر قمعيةً ووحشيةً بل وأعنف شراسةً إن جاز التوصيف.

والذي يهمنا بالقطع لا ما يحدث في طهران الشيعية، لأن الأجدى والأخطر هو الوعي بالوطن العربي وقضاياه ورهاناته القائمة. وإن كان المشهد الإيراني يلقي بظلاله طوعًا وكرهًا على مقتضيات الحياة السياسية والاجتماعية في بلدان الوطن العربي، لكن لا يمكننا التغافل عن مشهد عربي باتت فيه أيضًا التنظيمات الدينية السياسية تمارس أقسى أنواع التشتيت والتخطيط لشتات اجتماعي بطيء حينًا وأكثر حراكًا وسرعةً أحيانًا كثيرة، مثل تنظيم الدولة (داعش) الذي يهيمن بالفعل على مساحات واسعة بسورية والعراق وإن أخفت وسائل الإعلام الرسمية هنالك هذا الأمر.

وهذا ما كتبته “إندبندنت عربية” في تقريرها عن الحالة الأمنية والسياسية في العراق المضطرب والذي سيظل هكذا لوقت طويل، فتحت عنوان “هل يعلن زعيم داعش الجديد عن نفسه بـزيادة العنف؟”، أشارت إلى مقتل 30 عسكريًا ومدنيًا وإصابة آخرين. وأضافت أنه في منتصف ديسمبر الماضي، فجَّر تنظيم “داعش” عبوات ناسفة أودت بحياة ثلاثة ضباط وعدد من عناصر الشرطة والجيش بالإضافة لإصابة آخرين منهم، وقبلها بأيام قُتل ثمانية أشخاص وأُصيب ثلاثة آخرين بجروح.

ولا يظن القاصي والأكثر دنوًا أن قيام هذه الجماعات هو بسبب أن المجتمعات العربية الإسلامية الأصل والنشأة والتكوين هي جاهلية وغارقة في جحودها صوب الربوبية كما زعم سيد قطب ومَنْ تبعه من أنصار جماعات التكفير والهجرة الذين لجأوا إلى الدين الظاهري فحسب كستار لممارسات لا تليق بسماحة الإسلام ووسطيته واستثنائيته السماوية لتحقيق مطامح ومآرب تقترب إلى أرصدة الجاهلية نفسها، بل كانت النشأة الطبيعية هي لسد الفراغ ومعالجة جهل العوام واستغلال فترات الضعف التعليمي وانتشار البطالة، وأيضًا الوقوف في وجه بعض الأنظمة الحاكمة لا سيما وقت قيامها، وعلى وجه التحديد فترة تكوين جماعة حسن البنا.

ويعود عمق التجربة السياسية للجماعات الإسلامية، نسبةً إلى الملامح العامة لتكوينها لا لانتمائها الديني، إلى منطق التصارع الذهني لدى أمرائها تجاه مدنية الدولة ودينية السلطة، الأمر الذي جعلها بغير علل أو فلسفة تشير علانيةً بعلمانية أية تصريحات أو كتابات تنطق بالدولة المدنية التي هي في الأساس أيضًا من منجزات العصر الحديث التي تحتاج إلى تصويب ومراجعات طويلة.

وفكرة المدنية التي كانت وستظل الهاجس المقلق لدى جماعات الإسلام السياسي هي مجرد أكذوبة روَّجت لها تلك الجماعات لدى مريديها وأنصارها بحجة أن الديموقراطية تزحف بالأوطان نحو الهاوية وأنها، أي الديموقراطية، وجه كاشف للضلال والكفر وعصيان الإله، رغم أنها في أوقات أخرى وفي أزمنة التمييع السياسي لظهور تيارات الإسلام السياسي استخدمت كافة رساميل الديموقراطية وخصائصها للترويج لفكرها وخداع الأنظمة الأمنية بسلمية هذه الجماعات، وسرعان ما عادت مجددًا إلى طروحاتها الأصولية السابقة التي تقصي الآخر وتستقطب مَنْ يوافقها ويرافقها في التوجه والهدف.

وهذه المدنية التي تعكر صفو المرجعية الراديكالية هي التي أرَّقت “وَسَن” حركة طالبان فأعلنت منع الفتيات تمامًا من الذهاب إلى الجامعة، وإن كنتُ قد سئمتُ بالفعل الحديث عن الهوس الجنسي بعقول أمراء النساء المغرمين بفقه المرأة بدءًا من رضاعها وهي طفلة حتى الزواج منها وهي طفلة أيضًا! لكن هذا الخوف الآني يرتبط بتحجيم دور المرأة عمومًا في المشهد الثوري الذي يبدو وشيكًا في كابول. وقرار منعهن وإن جاء متوافقًا مع درء المفاسد وحجب الفتنة كما يزعمون في وقت تتبارى فيه وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي في تحقيق العري الكامل والإباحية بتمكين مسبوق، إلا أن راديكالية أمراء النساء، سواء في كابول أو في مصر أو العراق أو وتونس أو سورية، تظل مهووسة بالمرأة خائفة من ذهابها للمدرسة والجامعة والمعهد والمسجد أيضًا خشية أن يعرفن أكثر!

وربما جاءت مناسبة الإشارة إلى قول الأكاديمي الأفغاني إسماعيل مشال، المحاضر في تخصص الصحافة منذ أكثر من عقود في ثلاث جامعات بكابول، إنه سيمزق شهاداته ويلقيها أرضًا اعتراضًا على منع النساء من حق الدراسة والتعليم والذهاب إلى مؤسسات العلم والمعرفة. وقال إسماعيل مشال في تصريحاته الفضائية لبعض المحطات إنه في ظل مجتمع ذكوري متشدد ومتطرف أيضًا من النادر رؤية رجل يحتج ويثور دعمًا للنساء، وهذا ما جعله يتعاطف مع قضية تعليمهن. وأضاف مشال أن “مجتمعًا تُنتزع فيه الكتب والأقلام من أمهات وأخوات لن يؤدي إلا إلى جرائم وفقر وذل.” أما سلطات كابول التي تقودها حركة طالبان التي تنتمي لفكر المرجعيات الدينية المتطرفة، فقد أعلنت أن حظر ارتياد النساء الجامعات فُرض لعدم التزامهن قواعد اللباس الإسلامي الصارمة.

لكن أصولية الجماعات المنسوبة للإسلام السياسي ليست كما أرى تهرع نحو مصادر التشريع بضوابط استخدامها، بل معتقدها الزمني يقر بحجب كافة محاولات التجديد والاجتهاد، بل هي نفسها تعاني من فقر الاجتهاد اللهم إلا فيما يتعلق بأمور النساء وتحكيم الرغبات الجنسية كما رأينا وطالعنا فتاوى عجيبة كإرضاع الكبير والزواج من الصغيرات انتهاءً بفتاوى فساد الأدمغة من مثل نكاح الجهاد وجهاد الحب.

وفقر التجديد لدى أمراء وزعماء حركات الإسلام السياسي متعددة الأسماء والتوجهات من الإخوان المسلمين إلى الجهاد والسرورية والتكفير والهجرة والسلفية الجهادية والقاعدة وغيرها هو الذي دفع بغير إرادة إلى الاحتكام لطروحات تنظيرية لا يمكن الفكاك منها، مثل الأدوار التي يقومون بها من توعية الجماهير مستغلين بساطتهم المعرفية بقضايا الدين وأحكام الفقه والحركات الدينية في الإسلام واختلاف المذاهب أيضًا، وكذلك أدوار مثل رعاية الأيتام والخطابة التقليدية القائمة على الإقناع الصوتي والتفاعل غير اللفظي والتأكيد على مخارج الحروف دون المضمون المعرفي، وأخيرًا الدور التقليدي تاريخيًا لدى هذه الجماعات وهو نصح النساء، لدرجة أنني وغيري ممن يرون ضرورة في تنوير العقول نرى أن رخصة قيادات جماعات الجهاد الشرعية هي تناول قضايا النساء بصورة مبالغة أكثر من تداولها بين النساء أنفسهن، الأمر الذي يحتاج من رواد التخصص السيكولوجي دراسة هذه الظاهرة الملتبسة.

وهذا الزعم بالأصولية التي يتزعمها شيوخ وأمراء التيارات الجهادية جعلهم أكثر اجترارًا لقضية الخلافة التي طالما نجدها في كافة كتابات الراديكاليين بنفس القدر الذي نرصده عند التنويريين والمجددين أيضًا. وفكرة الخلافة والكونية والصرامة المطلقة في تحقيقها أبعدت جماعات الإسلام السياسي عن مشكلات المجتمعات العربية الإسلامية الحقيقية، وأفقدتهم التزامنية مع أزمات الوطن الاقتصادية، وباتت الخلافة رهن ثلاثة محاور فقط في رؤاهم الضيقة. المحور الأول هو الوصول إلى سدة الحكم، كما حدث في مصر وتونس على سبيل المثال، وهو الحلم الذي كرَّس له ودشَّنه حسن البنا وتنظيمه عبر مراحل محددة هي التكوين والتأهيل والكمون ثم التمكين، حتى كان السقوط في ثورة مصر الشعبية في الثلاثين من يونيو 2013. والمحور الثاني هو فساد السلطة السياسية الحاكمة، فحتى وإن شُهد لها بالصلاح إلا أن أية سلطة حاكمة لا تنتمي إلى فكرها ومنهجها والولاء المطلق لرموزها هي فاسدة. أما المحور الأخير فهو اجتماعي يعود بنا إلى سياق سابق ألا وهو التفكير في المرأة؛ فالمجتمع سافر بأفعالها، مبتذل بخروجها إلى العمل، وفي طريقه إلى انحطاطه عبر ارتيادها مناطق الرجال الاجتماعية كالرياضة والجامعة والبرلمان، وبلا شك الهوس المرتبط بالجسد يظل الملمح الأكثر بروزًا واتساعًا وارتيادًا أيضًا في فكر أمراء الجهاد المزعوم.

ويتفق كل مسلمي كوكب الأرض على شرف ومكانة وقدر الخلفاء الراشدين وزمنهم الطيب ذِكرًا وسيرةً وروايةً، ومن الصعوبة أن تجد مَنْ يخالف الاعتقاد بتلك المكانة التاريخية، وهي الساحة التي طالما يلعب عليها الجهاديون المعاصرون. لكن رغم هذا السمت العام الذي يتشاركه التنويريون والراديكاليون معًا، بل والعلمانيون أيضًا الذين أراهم على نفس درجة تمجيد زمن الخلافة الراشدة، وهو بحق يستحق التمجيد، إلا أن بقاء أمراء التيارات الجهادية عند تخوم زمن الخلافة وحدودها فقط يزيد من قمع كل محاولات التجديد بل والإصلاح أيضًا، لأن المسلم وحسب استقطابه ذهنيًا ووجدانيًا عبر خطب الجهاديين مهما ارتقى في تدينه وصلاحه الفردي والجمعي سيجد نفسه بمنأى عن صلاح زمن الخلافة الراشدة حتى يصل به الأمر إلى مقاطعة العصر الذي يعيشه.

وهذا وجدناه في الوقفة الاحتجاجية المصرية في شتاء يناير 2011 حينما ركبت جماعة الإخوان المسلمين وبعض جماعات الإسلام السياسي الأخرى في مصر موجة الغضب والانتفاضة الشعبية فوجدناها تنادي بشعارات لا علاقة لها بحضور المشهد الراهن مثل “خيبر خيبر يا يهود”، و”كلنا إلى الأقصى زاحفون”، وهي شعارات قد نجدها طبيعية على أرض فلسطين المحتلة، مما يؤكد انفصال هذه الجماعات بأعضائها عن الوقت والحدث.

ورغم هذا الانفصال، نجد أن الجماعات الجهادية نجحت فيما أخفقت فيه النظم العربية الحاكمة بمؤسساتها الرسمية؛ فتيارات الجهاد المسلح استطاعت استقطاب ملايين الشباب العربي والغربي لأفكارها عبر الإنترنت، ونجحت بمهارة وكفاءة في انتزاع عقول الشباب العربي من حضن المؤسسات التعليمية الرسمية. ففي الوقت الذي توقفت فيه الدراسة بمعظم الدول العربية ولجأت إلى اعتماد نظام التعليم عن بعد، كان الاستخدام قاصرًا ومحدودًا ولم يتمتع بالقدر الكافي من الريادة والانتشار وجذب الطلاب العرب رغم تعدد المنصات التعليمية.

وفي الوقت نفسه، هرعت تلك الجماعات التكفيرية، ومنها تنظيم داعش، مسرعة إلى تدشين عشرات المنصات الرقمية ومئات المواقع والصفحات الإلكترونية عبر شبكة فيسبوك لاستقطاب الشباب الذي بدا أكثر سطحيةً وأقل عمقًا في التفكير والتحليل والتأويل لما يُعرض عليه، فاستحال لقمة سائعة وفريسة سهلة القنص لدى جماعات الجهاد التكفيرية.

وكل الخوف أن يكون التعلم عن بُعد الذي تتباهى به الدول العربية اليوم هو السلاح الأكثر شراسةً في أيدي جماعات التكفير الجهادية، لا سيما وأن الطلاب أصبحوا بعيدين عن خبرة الأساتذة المباشرة والإقناع والتواصل المباشر معهم.

وحينما نرصد نوافذ جماعات الإسلام السياسي المعاصرة، لا يمكننا التغافل عن استخدامها التاريخي بغير كلل لفكرة ممنهجة مفادها وضع الدين (ظاهريًا) في خدمة الفكر السياسي الخاص بأيديولوجياتها. وتاريخ العرب المعاصر تحديدًا منذ بدايات ظهور تنظيم البنا يؤكد أن الغرض الأساسي لهذه التنظيمات هو الوصول إلى السلطة رغم آلاف التصريحات والإيمان وأغلظ القسم بأنها، أي تلك الجماعات، لا تسعى إلى الحكم أو السلطة، لكن حقيقة المشهد تبدو دائمًا مغايرة للمنطوق اللفظي لديها.

لذلك، ما ينبغي التنبيه له والتشديد عليه، كما يفعل الراديكاليون أنفسهم، هو أن فكرة المراجعات الدينية لأمراء هذه الجماعات وشيوخ تلك الفرق وقيادات التنظيمات الجهادية بعد أن يتم القبض عليهم يجب أن تؤخذ بعين الحذر والترقب، ففي زعمي أن منطق الاستتابة لدى هؤلاء غير حقيقي أو صادق تمامًا، وأن سياسات التسامح ومظاهر الاعتدال المؤقت لديهم سرعان ما تنقلب إلى وحشية وقمعية واستلاب عند التمكن تمامًا كما شاهدنا في أحداث رابعة العدوية وكل محاولات مقاومة السلطة العسكرية في مصر. ومن الغريب أن هذه الجماعات تدِّعي السماحة وهي في جوهر الأمر وواقعه تستخدم كل الحلول المسلحة عند المواجهة.

وأيديولوجية الجماعات الجهادية التي ينبغي أن تكون معروفة ومحفوظة لدى أجهزة الأمن العربية تبدأ بالتدرج في العرض والصبر في الترويج والشيوع داخل التجمعات البشرية، ثم اللجوء إلى حلول جذرية تمثلت ولا تزال في الاغتيال السريع للمخالف، ثم التوسع مرة أخرى في مقابل التشدد في تطبيق نظريات تلك الجماعات. وهذا ما جعلني وقت الكتابة أسترجع ثمة إشارات تاريخية منها ما قام به صلاح هاشم من تكوين جماعة دينية بجامعة أسيوط ضمت بعض الرموز الجهادية مثل كرم زهدي وعاصم عبد الماجد وأسامة حافظ وغيرهم من رموز التكفير والغلو والراديكالية الذين لا أثق بعد في استتابتهم الفقهية غير المقنعة. هذه الجماعة التي أسسها صلاح هاشم جاءت كما زعمت لمقاومة منكرات الحرم الجامعي وأبرزها وأهمها وأخطرها من وجهة تفكير هؤلاء المهووسين: جسد المرأة وزيها وفساتينها وأحذيتها وكل ما يتعلق بالأنثى، فبدلًا من أن يقوم هو وفريقه الجهادي بتثوير البحث العلمي والانطلاق إلى مجالات مجهولة في العلم كان المنكر في نظرهم هو هذا الجسد الأنثوي الذي يروح ويغدو، في نفس الوقت الذي كانت فيه المنيا على موعد مشهود مع ترويع المدنيين لا سيما الأقباط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

كل هذا يجعل العقل يتذكر بدايات السلطة الدينية في أوروبا حينما حاولت الكنيسة الكاثوليكية الجمع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية وفرض الزمن التاريخي على الواقع المشهود مما أدى إلى ممارسات أكثر وحشيةً في حق كل معارض، كما تم على أيدي البابا جريجوري التاسع في عام 1233 من خلال محاكم التفتيش والتي أصبحت بقوة القانون على يد البابا إنوسنت الرابع عام 1252 وما قام به من وحشية وقمع تمثلت في حرق المخالف.

وإذا عدنا من جديد إلى مشهد ثورة الشوارع ضد نظام المرشد في إيران فإننا بحق بحاجة إلى مراجعة حقيقية للسطر الذي كُتب بحق توقيف مهسا أميني، “ملابس غير لائقة”، فالأمر يحتاج إلى إعادة تأويل شكل الحجاب الذي كانت ترتديه مهسا قبل مقتلها وكيف كان كارثة بل رصاصة موجهة بصدر نظام راديكالي يصفه غيري، وربما أنا، بالرجعية!

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا