مضى عام كامل من العمر كان يحمل من الأوقات السارة والممتعة القليل منها، بينما أغلب الأوقات سادها الألم والمعاناة، وذلك ليس على المستوى الخارجي فقط، بل أيضًا على المستوى الشخصي.
فعلى المستوى الخارجي، شاهد العالم بأسره الحروب القائمة في كل بقعة من بقاع العالم شرقًا وغربًا، والتي أسرعت بالدمار وخلفت وراءها ضحايا بالآلاف، وشاهدنا صورًا بشعة من الدم والقتل بخلاف تهجير العائلات في بيوتهم إلى أماكن في العراء بلا مأوى أو مأكل. لقد هزت الأحداث العالم كله حيث رأينا أبشع الصور تدميرًا للكيان البشري والوجود الإنساني.
أما على المستوى الشخصي، فقد كان عامًا مليئًا بالأحداث المثيرة، حيث اجتزتُ مع أسرتي تحديات وصعاب عنيفة كادت أن تعصف بأماني وثباتي وتدخلني في ومضات من الإحباط والاكتئاب. ورغم ما واجهته من تحدي ومعاناة نفسية، لكن كان عليّ أن أقوم بمسئولياتي العملية بقدر كبير من الثبات الانفعالي والتوازن النفسي.
وفي الواقع، فإن مواجهة الآلام والضيقات في حاجة إلى مقاومة شديدة وإرادة قوية، حيث إن الضغوط العنيفة قد تؤدي بنا إلى حالة من الإحباط واليأس بسبب عدم استطاعة العقل البشري استيعابها وتقبلها، لذلك فمن المحتمل أن تقود إلى حالة من الاكتئاب.
إلا أننا لا بد أن نميز بين حالة الاكتئاب وبين مرض الاكتئاب. فحالات الاكتئاب أو الومضات الاكتئابية هي فترة من فترات الحياة يمر بها كل إنسان، وفيها يشعر الشخص باليأس والضيق ورفض الأوضاع التي يمر بها، وذلك بسبب الظروف أو الأزمات الضاغطة المختلفة، والتي تخترق حياته النفسية، وذلك مثل مرض يصيب أحد الأفراد المقربين له أو تكبد خسارة مادية أو التعرض للبطالة، إلى آخر هذه الأحداث التي تسبب الومضات الاكتئابية، لكنها تزول بزوال المؤثر أو السبب الأصلي.
أما مرض الاكتئاب فهو يتميز بأن أعراضه تظل مستمرة مدة طويلة تتجاوز الـ6 أسابيع، وذلك رغم زوال السبب الأصلي، بالإضافة لعدم قدرة المريض على مزاولة حياته العادية. ولمرض الاكتئاب أنواع وأشكال متعددة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
الاكتئاب الحاد: وهو يصيب 7% من سكان العالم، وقد يظهر في شكل أعراض جسدية مثل تعب وإرهاق عام مع ضربات قلب ونوبات عرق وآلام في الصدر أو البطن أو في العظام أو صداع عنيف ودوخة، أما الأعراض النفسية فتظهر في شكل تقلب مزاجي وعدم القدرة على التركيز وتشتيت الذهن وعصبية مفرطة وفقدان للتواصل الاجتماعي وعدم الرغبة في مزاولة الأنشطة اليومية مثل الذهاب للعمل أو الدراسة، وقد تصل إلى التفكير في الانتحار.
الاكتئاب ثنائي القطب: وفيه الشخص يتأرجح بين النشاط الزائد والاندفاع والهوس واليقظة وعدم النوم والثرثرة المستمرة وبين الحزن المفرط والانسحاب من المجتمع وفقدانه للاستمتاع بكل مظاهر الحياة.
الاكتئاب الموسمي: وهو مرتبط بفصل الشتاء، وذلك نتيجة للفقدان الطويل لأشعة الشمس والضوء، ويعاني منه سكان الدول الإسكندنافية.
الاكتئاب الذهاني: حيث يصاب المريض بالهلاوس السمعية والبصرية، فيسمع أصواتًا غريبة تهمس في أذنه أو يرى أشخاصًا وصورًا غير واقعية، وفي حالات أخرى يرى حشرات تزحف على جسده. وقد تدفعه هذه الهلاوس في بعض الأحيان إلى ارتكاب جريمة أو إيذاء نفسه.
اكتئاب الكراكيب: وفيه يحتفظ المريض بأشياء ليس لها قيمة حتى يزدحم المنزل ويمتلئ بما يُعرف بـ “الكراكيب” إلى أن تؤدي إلى دخوله في مرض الاكتئاب.
اكتئاب ما بعد الولادة: وهو يمثل 85% من الأمهات، وفيه تصاب الأم بالاعتلال المزاجي لدرجة تصل إلى رفضها للمولود الجديد، بل في أحيان أخرى قد تحاول التخلص منه، وذلك بإيذائه أو إيذاء نفسها.
اكتئاب غير تقليدي: وهو أكثر الأمراض شيوعًا، وفيه لا يشعر المريض أو مَنْ حوله بأنه مصاب بالاكتئاب، ويظهر في أشكال غير نمطية، وذلك مثل الأكل بشراهة مع زيادة الوزن أو الانقطاع عن الأكل مع نقص الوزن بشكل ملحوظ أو يصاب بحالات غضب شديدة لا تتناسب مع الموقف. وقد يظهر في سلوك قد يبدو طبيعيًا مثل التحدث بالهاتف لساعات طويلة أو المرأة التي تحرص على إنجاب عدد كبير من الأطفال أو استضافة جيرانها بصفة مستمرة، وفي حالات أخرى يكون في شكل ضحك بصوت عالي في أماكن عامة أو يضع المكتئب على وجهه ابتسامة دائمة وهو ما يُعرف باكتئاب المبتسم.
وجدير بالذكر أن مرض الاكتئاب هو نتيجة خلل في بعض الهرمونات التي يفرزها المخ، ومن أهمها السيروتونين والدوبامين، وهما هرمونان يعملان على إثارة السعادة، كما أن تعرض الأشخاص لضغوط نفسية عنيفة قد لا يستطيع العقل احتمالها أو استيعابها قد يقود إلى الوقوع في براثن الاكتئاب.
مفاتيح قهر الاكتئاب:
من خلال الظروف التي ألمت بي والتي تعرضتُ فيها لتحديات وضغوط نفسية عنيفة (كما سبق القول) تعلمتُ دروسًا كثيرة استطعتُ من خلالها أن أتغلب على مشاعر اليأس والإحباط وأعبر منها إلى مشاعر الإيمان والرجاء، وذلك بإعلان تمسُّكي بالإله الذي في يده مقاليد أمورنا وثقتي التي بلا حدود في صلاحه، فهو معنا في أحلك الظروف يقودنا ويعتني بنا، لأنه الراعي الأمين الذي لا ينعس ولا ينام حافظ العهد لمحبيه.
– انفتحتُ على عمل الروح القدس لأستقبل وعوده الصادقة والأمينة، وبدأتُ ألهج بها واثقة أن إلهي حي ومدركة أبوته الصالحة، وبذلك أمكنني أن أغذي عقلي وكياني بكلمات الرجاء والإيمان التي تطرد كل يأس وإحباط.
– كنتُ على يقين بأن كل ما نجتاز فيه من ألم وتحدي هو لتشكيلنا وتغييرنا للأفضل، وأن الرب يحول كل الأشياء للخير حتى لو لم تدرك ما نعبر به أو نفهم حقيقة الأحداث.
– استغرقت أوقاتًا كثيرة أتحدث فيها مع إلهي الذي أعلن لنا أنه أخذ أسقامنا وحمل أوجاعنا على الصليب وأننا بجلدته شفينا، فهو دفع الثمن مقدمًا.
– كنتُ ألهج بكلمات الشكر للإله صاحب السلطان، فأنا على يقين بأن كلمات الشكر تحرك يد الرب فهو الممسك بخيوط الأحداث، بالإضافة لأنها سلاح فتاك ضد مكايد إبليس.
– تعلمتُ أن أنتظر الرب لأنه يأتي في التوقيت الأنسب والأفضل، فخروجه يقين كالفجر.
– لم أمتنع عن الخروج للتنزه في الأماكن الخلوية والاستمتاع بالأوقات المفرحة، مما ساعدني على طرد روح اليأس، وذلك لأعلن لعدو الخير أنه مهزوم لأنه كذاب، كما كنتُ حريصة على مزاولة كل مسئولياتي في أن أساعد كل مَنْ هو في حاجة إلى مشورة نفسية، لأنني أعلم أن المُروى يُروي، كما كنتُ حريصة على بث روح التشجيع في كل مَنْ حولي لكي تمتلئ الأجواء من الحضور الإلهي.
– لقد اختبرتُ من خلال هذه المعاناة السلام الذي يفوق كل عقل كما وعد الرب يسوع.
وهكذا استطعتُ أن أقهر ومضات الاكتئاب التي حاول عدو الخير أن يلقيها عليّ، وأنا على يقين أن الإله الذي يرعانا هو يحملنا على الأذرع الأبدية وعلى أجنحة النسور، وأنه سيملأ أفواهنا ضحكًا وألسنتنا ترنمًا لأنه إله التعويضات.