معجم كوكب الأرض

18

مراد وهبة

أبدعت جريدة الأهرام عندما نشرت سبعة وعشرين مصطلحًا من مصطلحات المناخ. وقد جاء في إبداعها أن تقوم بتقديم تعريف علمي مبسط لهذه المصطلحات التي تبدو مبهمة وغير مفهومة للجمهور غير المتخصص. وإذا كان الإبداع بحسب تعريفي هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم بوضع قادم فإن هذا التعريف بحكم كونه ينص على تكوين علاقات جديدة وهذه العلاقات تستلزم ألفاظًا تكون أساسًا لها، وهذه الألفاظ في مجملها تشي بمعرفة.

 وفي القرن الرابع قبل الميلاد، قال الفيلسوف اليوناني أرسطو في السطر الأول من كتابه المعنون “ما بعد الطبيعة”: “كلنا بحكم الطبيعة نشتهي المعرفة.”

وفي القرن السابع عشر قال الفيلسوف الانجليزي بيكون: “المعرفة قوة”، أي أن المعرفة تُحدِث تأثيرًا والتأثير يُحدِث تغييرًا، والتغيير يُحدِث جديدًا، والجديد بحكم الضرورة ينطوي على إبداع. وفي هذا السياق، يكون من اللازم إصدار معجم يضم الألفاظ والمعاني اللازمة لهذه المعرفة الجديدة. والمقصود هنا هو كوكب الأرض الذي فاجأنا بأنه أحدث تغييرًا في المناخ.

ومن هنا أصبح من اللازم إصدار معجم يُطلق عليه اسم “معجم كوكب الأرض”، وهو لن يكون على غرار أي معجم آخر من المعاجم التقليدية المشهورة. وأمثِّل لما أقول بثلاثة معاجم أولها للفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند، وثانيها للفيلسوف الكندي ماريو بونجي، وثالثها لكاتب هذا المقال، والثلاثة من القرن العشرين. فماذا قال كل منهم عن معجمه؟ قال لالاند في مقدمة معجمه المعنون “معجم فني ونقدي للفلسفة” إن هذا المعجم صدرت طبعته الأولى في عام 1902 بالاشتراك مع الجمعية الفلسفية الفرنسية التي تأسست في عام 1901 ومع نفر من الفلاسفة الذين كانوا مشاركين في المؤتمر الفلسفي الدولي الأول الذي انعقد في عام 1900. ومغزى هذا القول أن المعجم ثمرة تعاون بين فلاسفة. وقال ماريو بونجي في معجمه المعنون “معجم فلسفي” إنه ليس معجمًا محايدًا لأنه عبارة عن رؤية إنسانية من وجهة نظر علمية. ومن حيث إنه كان من كبار الفلاسفة الدوليين الملتزمين بأفكار التنوير، فقد جاءت اختياراته للمصطلحات متسقة مع ذلك الالتزام. وقلتُ في مقدمة معجمي إن هذا المعجم الغاية منه هي الكشف عن وحدة الحضارتين الإسلامية والغربية.

والسؤال بعد ذلك: ماذا تكون طبيعة “معجم كوكب الأرض”؟ إنه معجم يتجاوز الاجتهادات الفلسفية في تعريف الألفاظ الشائعة في تاريخ الفلسفة لكبار الفلاسفة المنتمين لجمعيات فلسفية على نحو ما قال أندريه لالاند. وهو يتجاوز النزعة الإنسانية الملتزمة بالتنوير في حدود الحضارة الإنسانية، ويتجاوز معجمي الذي يقف عند حد التدليل على وحدة الحضارتين الإسلامية والغربية، إذ أن المطلوب هو وحدة كوكب الأرض التي أصابها مرض اسمه تلوث المناخ. ومن هنا يلزم التساؤل عن سبب هذا التلوث.

الجواب عندي أنه مردود إلى سلبيات أفرزتها ثورتان: الثورة العلمية والتكنولوجية والثورة الصناعية، والثانية مترتبة على الأولى. ومن هنا يمكن القول إن الثورة الصناعية اتسمت بالعقلانية فنشأت الكيمياء العلمية بديلاً عن الكيمياء السحرية في الفترة من 1760 إلى 1800، ثم امتدت هذه العقلانية إلى جميع العلوم الأخرى وإلى جميع مجالات الحياة، وهو الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى تحكم الإنسان في الطبيعة في سياق نظام رأسمالي. لكن هذا النظام قد أفرط في التحكم إلى الحد الذي أفرز سلبيات لم تكن متوقعة ومنها إفساد البيئة إلى الحد الذي انتهى الآن إلى ما أُطلق عليه تلوث المناخ والذي لم يميز في أضراره بين النخبة والجماهير. ومن هنا قيل عن هذا التلوث إنه جماهيري، ومن هنا أيضًا لن يكون في إمكاننا التخلص منه إلا بتوعية الجماهير، إلا أن هذه التوعية لن تتم إلا بإحداث تغيير جذري في كل ما يتسم بأنه جماهيري مثل الثقافة الجماهيرية ووسائل الإعلام الجماهيرية. لكن المسئولين عن هذه المجالات في حاجة إلى توعية. فكيف إذن تتم هذه العملية المعقدة؟ هنا تأتي مهمة إصدار “معجم كوكب الأرض” الذي لن يكون معجمًا على غرار أي من المعاجم السابقة لأن الجمهور القارئ للمعجم في هذه الحالة لن يكون فقط من النخبة بل سيكون ممتدًا إلى الجماهير. ومن هنا يلزم ترجمة المعجم إلى اللغة الدارجة والتي تكون مقابلة للغة الفصحى أيًا كانت هذه اللغة. ولكن إذا كان كل ذلك من أجل التعليم حتى يتم الوعي فمعنى هذا أنه سيكون من اللازم إعادة النظر في المواد المقررة على الطلاب. وأُمثِّل لذلك بمقررين وهما مقرر التاريخ ومقرر الجغرافيا. وأبدأ بالتاريخ وأتساءل: إذا كان مقرر التاريخ عبارة عن أحداث جرت على سطح كوكب الأرض، فما قيمة معرفة هذه الأحداث والبشرية معرضة للانقراض بسبب ما يحدث في باطن كوكب الأرض؟ وإذا كان مقرر الجغرافيا عبارة عن دراسة القارات والمحيطات والبحار، فما علاقة كل ذلك بما يحدث من تلوث المناخ؟ وفي هذا السياق، تلزم إثارة ما يلزم بقاؤه من مقررات تكون صالحة لتوليد الوعي بكوكب الأرض باطنيًا وظاهريًا.

إننا في حاجة إلى التخلص من التفكير التقليدي من أجل التحول إلى التفكير الإبداعي، إلا أن هذا التفكير أمامه عقبة ليس من الميسور إزاحتها وهي المحرمات الثقافية المدعمة من قِبل فكر ديني أصولي يحرِّض على اغتيال العقل ويحث على الاكتفاء بالسمع والطاعة. والمفارقة هنا أنه فكر متأصل في بعض الدول وليس فقط في تنظيمات.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا