ما بين محاكم الأرض ومحكمة السماء

4

العدد 112 الصادر في يناير 2015
ما بين محاكم الأرض ومحكمة السماء

    لا شك أنه كان مفاجئًا للبعض، وللبعض الآخر صادمًا، قرارات المحكمة التى برأت الرئيس الأسبق مبارك وابنيه وحبيب العادلى وزير الداخلية الأسبق واللفيف المتهم معهم من معظم التهم التى وجهت إليهم والتى بعضها مؤكدة الحدوث وواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار والتى لأجلها ثار الشعب المصرى وقام بثورته الأولى التى كان من نتائجها خلع مبارك وابنيه وحاشيته من البقاء في حكم مصر إلى أبد الأبدين، أما بالنسبة  للرجل البسيط العادي الذي دأب على استخدام عقله وللمفكرين الذين لا ينقادون وراء مشاعرهم وتمنياتهم وثوراتهم والذين يحسبون الأمور بالورقة والقلم والحجج والبراهين والمسببات والظروف المحيطة، لم يكن هذا الحكم غريبًا أو غير متوقع على الإطلاق بل كان من الطبيعى أن يكون عكس هذا الحكم هو غير الطبيعى وغير المتوقع، فالمتهمون الذين نالوا البراءة كانوا هم المتحكمين في كل الأمور والأوراق والأدلة والأسرار والأموال ومصائر الناس وتحركاتها والمخابرات ومباحث أمن الدولة وغيرها، فكيف يمكن لأي قاض مهما أوتي من حكمة وعلم ومعرفة بأنهم هم حقًا مرتكبو هذه الجرائم إن يثبتها ضدهم وليس لديه أي دليل مادي على هذه الجرائم! ، فمن منا نحن المواطنين العاديين لا يعلم ما ارتكبه الكثير من هؤلاء الذين منحتهم المحكمة الأرضية البراءة؟!، ألم تعبر حتى النكات التى كان يطلقها الناس على مبارك وعائلته وممتلكاتهم وفيلاتهم وأنصبتهم في كل شركة ومصنع ومؤسسة في مصر عن حقيقة الأمور؟!، لكن المشكلة الأساسية أن محكمة الأرض لا يمكنها أن لا تحكم كما قلت إلا من خلال أوراق وأدلة ومحرزات وغيرها، ولكثرة الأسباب والحقائق التى تؤكد ما أقول، فهي كثيرة على أي حال، أخذت أفكر واتذكر أن هناك محكمة أخرى، غير مرئية، في السماء، كما جعلتنى أفكر وأعدد أوجه التشابه والاختلاف “ما بين محاكم الأرض ومحكمة السماء”، في محاولة لقبول حكم محاكم الأرض في هذه القضية وغيرها من القضايا التى على شاكلتها مرددًا قول الحق سبحانه وتعالى: “ إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر.لأن فوق العالي عاليًا يلاحظ والأعلى فوقهما”. في محاولة لإيجاد مخرج لنفسي من الإحساس بالظلم وخيبة الأمل وقلت لنفسي: يا نفسي صبرًافليس كل من تبرأه محاكم الأرض يكون بريئًا في محكمة السماء وليس كل من تدينه محاكم الأرض يكون مدانًا في محكمة السماء.

    فمن أوجه التشابه بين محاكم الأرض ومحكمة السماء أن لكل منها قاضيًا ودستورًا وقوانين ويحاكم فيها الإنسان وتصدر فيها أحكام ولها سلطان وقوات منوط بها تنفيذ أوامرها، مع أنها تختلف تمام الاختلاف في لب كل من هذه العناصر المذكورة سابقًا.

    ومن الملاحظ أن هناك محاكم في الأرض متعددة ومتنوعة، فمنها ما يختص بالقضايا العسكرية ومنها ما ينظر في القضايا المدنية، منها ما يتخصص في قضايا الأحوال الشخصية ومنها ما يتعامل مع قضايا الجنايات وغيرها، والسبب في تعدد هذه المحاكم هو أنه ليس هناك محكمة واحدة يمكنها الفصل في كل القضايا والتهم والأحداث التى تجرى ولو في بلدة واحدة صغيرة في محافظة واحدة من المحافظات المصرية وذلك لكثرة القضايا وتنوعها وقلة القضاة ومحدودية الوقت والجهد البشرى وعدم إمكانية النظر في أكثر من قضية في نفس الوقت في ذات المحكمة الأرضية، لذا تعددت المحاكم الأرضية وكثر القضاة والمستشارون، أما محكمة السماء فهي محكمة واحدة، وهي تعمل على مدار الساعة ويمكنها أن تنظر ملايين القضايا في نفس الوقت واللحظة وقاضيها سبحانه كلي العلم والقدرة والوجود من لا تحده حدود، من لا ينعس ولا ينام، الواحد الذي لا شريك له.

    وما أبعد الفرق بين قضاة المحاكم الأرضية وقاضي محكمة السماء!

    أولاً: قضاة محاكم الأرض يتبعون قوانين صماء وضعها آخرون غيرهم ولا بد من التقيد بحرفيتها دون الالتفات حتى إلى واقع الأمور التى يحكمون فيها ما دام هذا الواقع لا تسانده أفعال مسجلة أو دلائل موثقة، فكما قيل في الأمثال: “ياما في الحبس مظاليم!” وأنا أضيف على هذا المثل العامي القول: “ وياما في خارج الحبس مجرمون!”. فالذين يحبسون من الأبرياء وفقًا لأحكام محاكم الأرض هم كثيرون وعادة ما يكونون من لا حول لهم ولا قوة للدفاع عن أنفسهم أو إثبات براءتهم وليس لهم من أنصار وأكثر الذين يتبرأون من جرائمهم في محاكم الأرض هم من يستطيعون إخفاء معالمها، ويستطيعون تقديم مستندات وأوراق ثبوتية لا تمت للحقيقة بصلة، الأمر الذي يمكن أن يعمله بكل بساطة، كما ذكرت سابقًا، الغالبية العظمى من المسؤلين الحكوميين وكبار رجال الدولة والمنحرفين من رجال البوليس، فكيف تثبت التهمة على مجرم إن كان بإمكانه أن يخفي كل معالم إدانته، وكيف تثبت التهمة على مجرم إن كان هو في نفس الوقت رجل البوليس المنوط به جمع الأدلة الكافية لإدانة المذنب، وبالتالي كيف تثبت التهمة على وزير للداخلية أو مديرالمخابرات البوليسية أو رئيس الجمهورية، بالرغم من وضوح أعمالهم التى لا تحتاج لعين بصيرة لرؤيتها، وهناك مثل شائع يقول: “قالوا للحرامي احلف، قال جالك الفرج!” فلا مانع أن يحلف الحرامي والغشاش وقتال القتلة ويقسم لبرائته! ولعل هذا ما جعل المستشار القاضي الذي حكم في قضية مبارك ومن معه بالبراءة، وهو معذور في كل هذا، أن يحكم ببراءته ومن معه بالرغم من ثقة الشعب المصرى كله على ثبوت إدانته، فإذا كان لمبارك وجمال وعلاء وحبيب العادلى و..و..و براءة مما نسب إليهم، فمن أين أتت أموالهم وممتلكاتهم وشركاتهم وأراضيهم وضياعهم الطائلة التى نعرف جميعًا كمصريين كمياتها، بالطبع غير الكثير الذي لا نعرفه ولن نعرفه ومالا علم لنا به؟!، وهو ما خرج بعضه في ال٢٢ حقيبة التى حملها جمال مبارك إلى لندن قبل سقوط النظام المباركي بأيام قليلة وبعد أن بدأت ثورة يناير، وإن كان هؤلاء براءًا مما نسب إليهم، فمن هو المسؤل عن قتل المصريين في ماسبيرو، وفي ميدان مصطفى محمود، والتحرير وموقعة الجمل والعمرانية وبورسعيد؟؟ ومن هو المسؤل عن تفجير الكنائس، وتعطيل إعطاء تصاريح بنائها وتعطيل استصدار تراخيص ترميمها وإصلاحاتها؟؟، ولماذا إذًا قامت الثورة، ثورة يناير؟، هل يعرف أحد لماذا قامت الثورة أم علينا أن نقبل إجابة عادل أمام في مسرحية الزعيم عندما تساءل: لماذا قامت الثورة وأجاب على سؤاله بالقول إنه لا يعلم لماذا قامت الثورة لأنه كان في الحمام؟!. أكرر أن المستشار الناطق بحكم براءة مبارك التزم بالأوراق والأدلة والحيثيات التى استخدمها في اتخاذ قراره وهو ليس بمطالب ولا يمكنه أن يزج بقناعاته الشخصية أو ما يعرفه وما يراه خارج نطاق القضية في حكمه فيها. أما قاضى القضاة الحق العدل، قاضي محكمة السماء، فإنه سبحانه يتحلى بصفات لا تتوفر لأعظم قضاة الأرض أذكر منها:

    ١- إنه العليم بكل شئ، فهو العليم بكل ما ظهر وبطن في أية قضية بل وهو العليم بأفكار وأفعال حتى ونيات كل بشر، لذا فهو ليس في حاجة أن يشهد أحد أمامه عن الإنسان، لأنه يعلم من هو الإنسان وما هي دوافعه وأعماله وله عينان تخترقان أستار الظلام، فهو من يرى العقود التى أُبرمت في الخفاء، والرشاوي التى استقبلت في الحضن خلف الستار والسرقات وأموال الدولة التى بددت في غفلة من الأيام والزمان، بل وله سبحانه، عينان تريان ما بداخل صدر الجن والإنسان حتى لو أراد إخفاءه، فكل شئ عريان ومكشوف أمامه ذاك الذي معه أمرنا.

    ٢- قاضي محكمة السماء لا يحتاج إلى مستشارين يساعدونه في مراجعة أوراقه واتخاذ أحكامه وقراراته يجلسون عن يمينه ويساره، فكما علمنا كتاب الكتب، الكتاب المقدس في القول:“يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمهما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا”. وبالتالي فهو ليس محتاجًاإلى شكر أحد أو الإشارة إلى مساعدة أحد في اتخاذ أحكامه وقراراته كما عمل قاضي جلسة النطق بالحكم في قضايا مبارك وعائلته وكما يعمل غيره من القضاة، إن الطريقة التى كان يذكر بها سيادة القاضى أسماء مستشاريه والديباجة التى كان يضعها أمام أسمائهم كانت مثار عجب وتسائل لدى الكثيرين، فقبل نطق اسم أي منهم كان يسبقه بالقول: “صاحب المقام الرفيع المستشار الجليل” ولست أدري إن كانت هذه الديباجة هي ديباجة رسمية معترف بها في دائرة القضاء ولا بد من كتابتها والنطق بها أمام أسماء السادة القضاة والمستشارين، أم أنها وليدة التو واللحظة ألفها ونطق بها “صاحب المقام الرفيع المستشار الجليل قاضى جلسة تبرأت مبارك وعائلته من كل التهم الموجهة إليهم؟!، ألم يلغي عبد الناصر الألقاب كالباشا والبيك وغيرها بمراسيم جمهورية رسمية واكتفى بكلمة السيد أمام اسم كل مواطن مهما كانت صفته أو وظيفته أو مكانته؟، أم أن سلك القضاء كان مستثنى من تلك القرارات الناصرية؟!، ومن هو حقًا كان أكثر الحاضرين استحقاقاً لديباجة صاحب المقام الرفيع والشخص الجليل في جلسة النطق ببراءة مبارك، أليس هو أكبر الحاضرين سنًا ومهابة مبارك نفسه الطيار، والقائد الحربي لسلاح الطيران في حرب أكتوبر ورئيس الجمهورية وخاصة بعد أن برأته المحكمة من كل التهم الموجهة إليه بغض النظر عن وجوده داخل قفص الإتهام أم أولئك الذين جلسوا على المنصة للحكم عليه؟؟!، فلو كانت المحكمة قد أدانت الرئيس الأسبق مبارك لقلنا إنه من العقاب أن لا ينادى بهذه الألقاب، لكن ما دامت المحكمة قد برأته من كل التهم المسندة إليه إذا فما كان هناك أحق منه بلقب صاحب المقام الرفيع والرئيس الجليل في جلسة تلك المحكمة! ولكي لا يساء فهمي ويظن البعض أننى أوافق بأن ينادى مبارك بهذه الديباجة قبل النطق باسمه أقول إننى لا أوافق على استخدامها لا مع مبارك ولا مع غيره في أي مكان أو زمان لا في سلك القضاء ولا في غيرهم من الأسلاك. إن كمية الألقاب وتنوعها وطريقة استخدامها في مصر لهي من العجب بما كان حتى كانت سببًافي سخرية الناس جميعًا ليس في العالم الخارجي فحسب بل في مصر نفسها وفي الدول العربية أيضًا، فسائق التاكسي والميكانيكي والسباك وغيرهم ينادى كل منهم بالباشمهندس، وغيرها، ولم تقتصر هذه الألقاب على من هم في خارج الكنيسة فحسب بل في داخل الكنيسة أيضًا، فمن منا لم يسمع أحدهم يقدم قسيسًا بالقول: “ حضرة جناب الدكتور القس الوالد فلان أو علان” أو جناب الأب الورع سيدنا الأسقف فلان الفلاني”، أو قداسة البابا المعظم الأنبا فلان بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية حبيب المسيح؟؟!، كل هذا إنما ليدل على تأثير روح الخنوع والسيطرة والتحكم الذي يحاول بكل قوته السيطرة على عقول وقلوب الناس والخضوع لقرارات أناس بعينهم ووجهات نظرهم وسيطرتهم على من حولهم من خلال طرق منطقية، من إدعاء أننا نحترم الكبار والصغار، أو ألقاب روحية أو إضفاء  قدر من القدسية عليهم أو على مناصبهم حتى يضمن هذا الروح تأثيرهم على عقول وقلوب العامة من البشر، فلا يمكن لرجل مسن مهما كان عمره أن ينادي ضابطًا للبوليس حديث التخرج وقد يكون أصغر من ابن ابن الرجل المسن عمرًا إلا بكلمة باشا، اللقب البغيض الذي استغله البعض في فرد سيطرتهم على العامة من الشعب، والتى قال عبد الناصر إنه ألغاه من قائمة الألقاب كما تقدم. لقد رضي قاضي القضاة العظيم، سيدنا المسيح صاحب المقام الرفيع والجليل وحده، أن يأخذ صورة واسم عبد ويوجد في الهيئة كإنسان وأن يهبنا جميعًا لقبًا واحدًا لاستخدامه بعضنا مع بعض وقد استخدمه هو نفسه معنا عندما خاطبنا قائلاً: “ أخبر باسمك إخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك”. أي أن لقب الأخ هو اسمى الألقاب الذي وهبنا إياه السيد والذي له دلالات روحية كثيرة وعميقة لا بد من استخدامها في هذا العالم المادي الفاني. وتحضرني قصة مضحكة، توضح ما أصبحت عليه أهمية الألقاب بالنسبة لنا، حدثت عندما جاء أحد خدام الرب الأمناء من مصر لزيارة كنيستنا في كاليفورنيا وكنا يومها، أنا وقسًا آخر في الكنيسة متفقين على أنه لا ضرورة أن ينادينا الإخوة والأخوات الكبار منهم أو الصغار بلقب قس، بل كنا نشعر أنهم عندما ينادوننا بكلمة أخ أو بأسمائنا المجردة يكون ذلك سببًا في التقارب أكثر بيننا وبينهم كعائلة واحد تحترم بعضها البعض لكن لا داعى من استخدام الألقاب، وفي حضور ذلك القس الضيف تحدث أحد الفتيان الصغار في الكنيسة مع القس زميلى، في جلسة خاصة خارج وقت اجتماع الكنيسة، قائلاً له: “ اسمع يا بلبل” وما كان من القس الضيف إلا أن ثار وهاج وبصوت مرتفع في وسط الجماعة قال: “ ايه قلة الأدب دي؟!، الولد الصغير ينادي جناب القسيس ببلبل، دي قلة أدب”، ضحكنا جميعًا فسأل والد الفتى، وكان حاضرًا ومراقبًا لما حدث ومحاولاً التخفيف من التوتر الذي كان قد بدأ يسود الجلسة، سأل والد الفتى القسيس الضيف قائلاً: “ إلا قل لي يا قسيس، هو لما مراتك بتكلمك في بيتكم أو بتنادي عليك بتقول لك يا إيه؟، قال القس وكان لا يزال منفعلاً “بتقول لي يا حضرة القسيس”، لم يستطع الوالد ونحن جميعًاإلا أن نضحك من قلوبنا فأجابه الوالد “ لما بتنادي عليك مراتك في البيت بتقول لك يا حضرة القسيس أومال في الكنيسة قدام الناس بتقول لك إيه، يا سي السيد!” ضحكنا جميعًا لكننى كنت أفكر كيف أخذت منا الألقاب والديباجات والمقدمات من وقت وباعدت بيننا وظننا أنها تعبير عن احترامنا للآخرين وتقديرهم، الأمر الذي لست ضده، لكن لا علاقة للألقاب والديباجات والمقدمات بالاحترام من عدمه. فهناك لقب واحد ينادى به الجميع من رئيس الجمهورية إلى أصغر فرد في المجتمع الأمريكي وغيره من المجتمعات القائمة على المساواة واحترام الإنسان لشخصه وليس لمركزه أو ماله أو عائلته وهو لقب “ Mr. السيد للرجل، أو Mrs. السيدة للمرأة المتزوجة، أو Miss. للفتاة غير المتزوجة ليس إلا.

    ٣- قاضى المحكمة الأرضية مهما كان منصفًا محايدًا عادلاً إلا أنه في النهاية بشر قد تغلبه قناعاته الشخصية أو عواطفه الإنسانية وهو يتبع قوانين صماء وضعها غيره،أما قاضى المحكمة السماويةفلا تغلبه قناعاته الشخصية، فلكونه العليم بكل شئ، والقادر على كل شئ، فليس له قناعات شخصية لتغلبه بل له سبحانه، وحده الحق والحقيقة التى لا يعرفها إلا هو، تبارك اسمه، وهو من لا يغلبه غالب من نفسه أو من خارجه فهو السيد القدير الجبار الرقيق وحده ولا سواه، ولا يتبع قوانين ولوائح صماء وضعها غيره بل هو يتبع صفاته التى لا يستطيع أن يغيرها أو ينسخها أو يتنازل عنها أو يتغاضى عن بعضها مع أنه فعال لما يريد. فمن صفاته الذاتية التى لا تتغير سبحانه العدل، فليس به جور أو ظلم أو تغيير ولا ظل دوران، وهو سبحانه “إن جاز التعبير” لا يستطيع أن لا يحكم إلا بالعدل المطلق، وحيث أنه العليم بكل شئ فلا يخفى عليه قول أو فعل في السماء أو الأرض أو تحت الأرض وحيث أنه نافذ الحكم ولا راد لقضاءه،إذا فمن تبرأه محكمة السماء يكون بريئًا حقًا بكل معنى الكلمة ومن تدينه محكمة السماء يكون مدانًا حقًا بكل ما تعنيه الكلمة، ولكن، وكما زكرت سابقًا، إنه ليس كل من تبرأه محاكم الأرض يكون بريئًا في محكمة السماء وليس كل من تدينه محاكم الأرض يكون مدانًا في محكمة السماء. ولذا فإن حكم محكمة السماء هو ما ينبغى أن يعول عليه ويخافه المرء ويقبله بلا جدال أو نقاش فهو حكم نهائي لا راد له ولا استئناف ولا نظر في القضية أكثر من مرة، فالمحكمة واحدة والقاضى واحد والقضية واحدة إلا إذا قدم المدان ما تقرره المحكمة السماوية من توبة ورجوع واعتراف بإثم الخطيئة والمعصية وعندئذ ووفقًا لصفات القاضى الواحد العادل السماوي وقوانينه الإلهية الثابتة والتى لا يمكنه هو نفسه تغييرها يمكن أن تمحى ليست جريمته فقط بل قد تمحى آثارها المترتبة عليها في بعض القضايا كما يرى العادل الديان.

    ٤- قاضى المحكمة الأرضية ليس في إمكانه إلا أن يحكم على المتهم إما بالبراءة أو الإدانة وفقًا لما لديه من معلومات وأدلة وأوراق لكنه لا يستطيع أن يقَوِّم المجرم أو أن يصلح من طريقه فدور قاضى المحكمة الأرضية هو الحكم فحسب أما قاضي المحكمة السماوية فيملك أن يغير من طبيعة المجرمين والأشرار والذئاب البشرية والحيات الإنسانية إلى طبيعة المخلصين والإخيار والحملان البشرية والحمام رمز الطهارة والبساطة والسلام. فلقد قال تنزيل الحكيم العليم عن من كانوا مجرمين وخطاة وأشرارًا ومجدفين ومضطهدين ومفترين، الذين أولهم أنا، بعد أن قبلوا رحمة الله وهم أحياء على الأرض يرزقون واعترفوا بخلاص السيد الرب يسوع المسيح الذي اتمه لأجلهم بموته على صليب العار، قال “ إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم” وأيضًا “وأما كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه” و”إذن لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح” وغيرها ما لا يعد أو يحصى من الآيات البينات التى نزلت لتؤكد إمكانية غفران وإصلاح وتغيير قاضى محكمة السماء سبحانه، لكل خاطئ مجرم تائب معترف بخطاياه وآثامه وتعدياته.

    ٥- قاضى محاكم الأرض لا يستطيع أن يعوض عن خسارة من حبس وهو برئ، فكل ما يستطيعه هو أن يحكم ببرائته، أما قاضى محكمة السماء فقال عن نفسه سبحانه: “ وأعوض لكم عن السنين التى أكلها الجراد” وأعلن عن نفسه أنه قاضى رد المسلوب منقذ المسكين والبائس من المزبلة ليجلسه معأشراف شعبه.

    ٦- قاضي محاكم الأرضي يعطي للإنسان في أحوال كثيرة الحق في طلب إعادة محاكمته أو استئناف الحكم في قضيته وخاصة إذا نظرت قضيته أمام محكمة عليا لا راد لقضائها، أما قاضي محكمة السماء العادل فهو يبقي ملف قضية الإنسان مفتوحًا إلى يوم وفاته ويسمح للإنسان المجرم ويعطيه الحق في إعادة فتح قضيته في محكمة السماء في أي وقت يصرخ فيه المجرم بتوبة صادقة من قلبه في أى وقت وللقاضى السماوي الحكم وتغييره في أي وقت وفقًا للقوانين السماوية.

    ٧- قاضي المحاكم الأرضية لا يملك أن يحكم ببراءة المتهم مرتكب الجريمة والمعترف بارتكابها مع سبق الإصرار والترصد في حالة ثبوتها عليه والنطق بالحكم فيها حتى لو تاب المجرم توبة صادقة من قلبه ووعد آلاف المرات أنه سيرجع عن طرقه الردية ولن يعود للجريمة مرة آخرى،أما قاضى المحكمة السماوية فيسارع بالعفو والصفح والغفران ونسيان الإساءة أو الجريمة كما قلت عن كل مجرم معترف بخطاياه مقر بذنبه.

    ٨- قاضى المحاكم الأرضية لا يملك إلا النطق بالحكم على من ثبتت إدانتهم لكنه لا يستطيع أن يغير من طبيعتهم الإجرامية أو أن يساعدهم على التخلص من طبيعة الخطيئة التى تدفعهم من داخلهم لعمل الشر والجريمة لكن قاضى المحكمة السماوية يغير طبيعة الإنسان بالكامل فيجعل المجرم يتغنى بين الناس “ الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا.

    ٩- مع كل علمي وتقديرى واتفاقي مع سيادة المستشار الحاكم في قضية مبارك وشركاه إلا أنه قد راعنى أن أسمع سيادة المستشار يقول بالحرف الواحد محذرًا ومهددًا كل من تسول له نفسه بإصدار أي تعبير أو إشارة أو صوت من الحاضرين، وجلهم من رجال الأمن والصحفيين الناضجين في قوله: “ من هذه اللحظة حتى أقول رفعت الجلسة من سيصدر صوتًا أو تعبيرًا أو إيماءًا، غضبًا أو سرورًا فرحًا أو ضجرًا بأوصافه في ال٤٢ سنة اللي قضيتهم في القضاء بأنه إهانة للقضاء وببدء بعقوبة السنة ولا اتنازل عنها حذاري لكل من معنا في القاعة بعد ما أقول رفعت الجلسة أفعل ما شئت في نطاق الحرية المسؤلة قبل هذا مرفوض والضباط اللى في القاعة عندهم تكليف واضح وظاهر والكاميرات الداخلية بتشتغل هيتم وقف الجلسة والضبط وإيقاف الشخص اللي عمل مهما كان في القاعة وسأوقع السنة ولن اتراجع عن قراري ولا أقبل أعذار، من اللحظة دي أية إيماءة،إيشارة محظورة”، أما قاضى محكمة السماء، وهو لا يقارن بأحد من خلائقه، لا يقول لمستمعيه فحسب بل للمجرمين أيضًا المحكوم عليهم بعدم البراءة “ هلم نتحاجج يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف النقي”.

    في النهاية أقول إنه لا يمكننى لا أنا ولا غيرى من البشر أن نعدد الفروق بين محاكم الأرض ومحكمة السماء، إلا أننى أقول لكل مجرم حرامي، غشاش، مفتر، قاتل وسافك دماء البشر، من المسلمين والمسيحيين: لا تفرح كثيرًا بحكم البراءة التى أصدرته محكمة الأرض، فالأرض وما عليها جميعًا من محاكم ومصنوعات ستحترق بالنار قريبًا، كما يعملنا تنزيل الحكيم العليم الكتاب المقدس ويومها ستقف أمام محكمة السماء ولن تستطيع أن تخفي حقائق ودقائق جرائمك التى نجحت في إخفائها عن محاكم الأرض!، بل ستقف عاريًا مكشوفًا واضحًا أمام من له عينان تخترقان أستار الظلام سبحانه وهو لن يدينك فحسب، بل أنت ستدين نفسك، وستدينك أعمالك وفقًا للقول: “ ثم رأيت عرشًا عظيمًا أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع،ورأيت الأموات صغارًا وكبارًا واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم، وسلم البحر الأموات الذين فيه وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله. وطرح الموت والهاوية في بحيرة النار.هذا هو الموت الثاني. وكل من لم يوجد مكتوبًا في سفر الحياة طرح في بحيرة النار” وإلى كل مظلوم حبسته ظلمًا أو غدرًامحاكم الأرض ولم يكن له من شفيع أو محام أو مدافع: لا تحزن كثيرًا إن ففوق العالي عاليًا والأعلى فوقهما والكلمة الأخيرة هى لمحكمة السماء. وأقول لكل من يخاف محكمة السماء من كل دين وقبيلة وأمة ولسان وشعب:إن قاضي محكمة السماء يبغي ويتطلع إلى إصدار حكم البراءة عليك إذا رجعت إليه تائبًا نادمًا محتميًا في شخص المسيح يسوع المحامي عنك والشفيع لك والقادر أن يهبك طبيعة جديدة تكره الشر والجريمة والخديعة وتحب البر والسلام والعدالة والمحبة. فلك الخيار “ما بين محاكم الأرض ومحكمة السماء”!

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا