ليلة القبض على فاطمة

8

العدد 126 الصادر في مارس 2016
ليلة القبض على فاطمة

    لست أظن أن هناك دولة أخرى في العالم تتحدث عن حرية الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي، وإصدار الصحف والمجلات، وتضع من القوانين واللوائح والمواد في دستورها وقوانينها ما ينص على حرية الرأي أكثر من مصر، ولكن واقع الحال يقول عكس ذلك تمامًا، فالقوانين واللوائح والمواد الدستورية أيضًا تنص على ما هو مخالف لكل ما سبق ذكره، فهذا قانون العيب، وذاك قانون ازدراء الأديان وثالث قانون اصدار الصحف والمجلات ورابع قوانين المصنفات الفنية، وخامس التعليمات والطرق والأساليب المتعارف عليها، دون قوانين تحددها، من وجوب موافقة السلطات الأمنية على اصدارات أو تسجيلات أو كتابات، ليس فقط فيما ينتج ويطبع ويوزع داخل مصر، بل وخارجها أيضًا بما فيها ما يكتب على ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي من مدونات وغيرها الكثير، وما من شك في أن مجرد تقسيم الصحف إلى صحف أهلية وصحف معارضة وصحف حكومية يتم تعيين رؤساء تحريرها وقياداتها من قبل السلطات، ومجرد وجود تقسيم المحطات التليفزيونية إلى محطات فضائية خاصة، ومحطات تليفزيونية وإذاعية حكومية يتم تعيين المسؤلين فيها أيضًا بواسطة الحكومة، يؤكد حقيقة إن ما نتحدث عنه في مصر من حريات الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي ماهو إلا محض سراب. ولم يقتصر الأمر على الجرائد والمجلات والفضائيات والإذاعات فحسب، بل امتد أيضًا للحجر على أفكار الناس وتعبيرهم عن آرائهم حتى في وسائل الاتصال الاجتماعي من فيس بوك وتويتر وغيرها، ولا يختلف الأمر كثيرًا في القوانين فمجرد وجود شئ يسمى قانون ازدراء الأديان لهو دليل آخر على ذلك. ولا شك أن كثرة وتعدد هذه الأنواع من اللوائح والقوانين والأعراف في أي دولة لخير دليل على أن هذه الدولة أو الجماعة تعاني من مشكلة حقيقة متشعبة في كل مجالاتها وسياساتها ومستقبلها أيضًا، ويدل أيضًا على عدة أمور عادة ما يغفل عنها المواطن العادي، فيرزح تحت حملها الثقيل دون أن يدري من أين أتى هذا الحمل أو كيف يتخلص منه، أما ملخص هذه الأمور، فهي أن الجماعة أو الدولة التى تعاني من هذه المشكلة لا بد أن تكون:

    ١- دولة بوليسية، أي أنها تعتمد في المقام الأول على بوليسها أو رجالها، بغض النظر عن من هم رجالها، الذين قد يكونون رجال الأمن بها أو رجال أعمالها، أو قضاتها، أو قادتها الدينيين، أو جماعاتها الدينية وغيرها في اخضاع والسيطرة والتحكم في مواطنيها وتسييس كل ما يتم داخلها وتشكيل أدمغة المواطنين على هواهم إن لم يكن بالخداع والكذب عليهم، فبالخوف والقهر والاذلال.

    ٢- دولة بها العديد من المحبطين والمغلوبين على أمرهم المستعدين للانفجار في أية لحظة. فكثرة الضغوط على الإنسان تحوله من حمل وديع إلى أسد مزمجر، ومن حمامة بسيطة إلى حية لادغة سمًا مميتًا.

    ٣- دولة ليس بها من الحريات أو القنوات أو الوسائل ما يكفي مواطنيها للتعبير عن رأيهم بطريقة سليمة دون الخوف من عقاب أو عذاب. ولذا فإذا فكر أحدهم أن يعبر عن رأيه فلا سبيل له إلا العنف والحجارة وقتل الآخر.

    ٤- دولة لابد أن يكون غالبيتها من العاطلين عن العمل والفقراء المعوزين ماديًا وثقافيًا وتعليميًا واجتماعيًا، من يرغبون فقط في الحصول على الستر من المولى إلى أخر الشهر وبركة دعاء الوالدين إن كانوا أحياء أو أموات عند ربهم يرزقون. أتذكر عندما كنا ندرس في كلية طب الأسنان وكانت المظاهرات لطلبة جامعة القاهرة تمر في شارع القصر العيني كان المتظاهرون يروننا في معامل الكلية، فيشتموننا لأننا لم ننزل ونشترك معهم في مظاهرتهم، لكن الحقيقة حتى أولئك الذين كانوا متعاطفين مع المتظاهرين لا وقت عندهم للمظاهرات لأنهم طلبة طب، لديهم الكثير والمهم الذي يشغل بالهم أكثر من مظاهرة للطلبة لم تكن تؤثر في حاكم أو ديكتاتور على أية حال. فالفراغ والبطالة والجهل هم الثالوث الأنجس الذي يحرك الأحداث في أية دولة.

    ٥- دولة يستخدم فيها الغالبية العظمى عواطفهم ومشاعرهم وبساطتهم أو خبثهم، لا عقولهم، للحكم على الأمور والتعامل معها ومحاولة التغلب على أصعبها. فاللامنطق هو السائد، فعندما يعيش المرء في اللامنطق منذ نعومة أظفاره لا بد أن يهرب من العقل إلى العواطف وحدها ومن الواقع إلى أحلام اليقظة، ومن التخطيط إلى التواكل.

    ٦- دولة يكون الدين بالنسبة لمواطنيها أسهل وأقوى وازع أو رادع لردود أفعالهم وهو بالنسبة لهم الأمل الوحيد في احتمال المشقات وشظف العيش والصبر على ما يعتقدون أنه مكتوب لهم على الجبين ومعلق على الأعناق وهو ما لابد أن تراه العين. وفيها يلقي الناس اللوم على الظروف أو الحكام أو في بعض الأحيان على المولى نفسه، سبحانه، لأنه هو الذي كتب عليهم كما يظنون المعاناة والصراع، وتحضرني نكتة سمعتها تعبر عن المأساة التى نحن بصددها، قيل إن اثنين من المساطيل كانا يدخنان الحشيس حتى لعب برؤوسهم فسأل أحدهم المسطول الثاني قائلاً هي إسرائيل دي بلد صغيرة إحنا ممكن نروح نأكلهم بأسناننا وإحنا العرب محاوطنهم من كل الدنيا ومحدش قادر عليهم هو مين اللي مع إسرائيل دي، أجاب المسطول صديقه المسطول الثاني وقال له: “هأ هأ معاهم أمريكا ياخايب”، رد عليه المسطول الثاني وقال له: “أمال إحنا معانا مين يا فالح؟”، فقال له: “هيه إحنا معانا ربنا”. ضحك المسطول الثاني وقال له: “هأ هأ هأ، أنا لقيت الحل، ما يدونا أمريكا ويخدوا ربنا”. قد تكون نكتة، لطيفة أو سخيفة، لكنها على كل حال حقيقة تعبر عن مدى الاحباط الذي يعيش فيه رجل الشارع العادي.

    ٧- دولة بها العديد من القوانين والأوامر والنواهي حول كل ما يتعلق بحياة الإنسان وخاصة طريقة تعبيره عن نفسه أو تعبيره عن ما حوله و من حوله، وبالتالي فقوانينها دائمًا ما تتضمن قوانين العيب، أو من أين لك هذا؟، أو دور العبادة الموحد، ازدراء الأديان وغيرها مما لا ينبغي أن يكون موجودًا من أصله من أعراف ومعاهدات ولوائح وقوانين.

    إن ما دفعني للكتابة مرة أخرى عن قصة الازدراء بالأديان الذي كتبت عنه من قبل مقالي “ازدراء الأديان قضية من اختراع الشيطان” والتى يمكن قراءتها على موقع الجريدة على الرابط: http://www.eltareeq.com/tareeq2010/pg_editorpage_ID_r.aspx?GrID=19&ArID=51159 هو الحكم الإبتدائي الذي حكم به على السيدة المحترمة الكاتبة والأديبة، المسلمة، فاطمة ناعوت، بسبب غريب وهو كتابتها حول موضوع ذبح الأضاحي في عيد الأضحى، العيد الإسلامي الأصل والمنشأ، أما الأسباب الخفية والباطنة وراء هذا الحكم أعتقد أن لا أحد يعلم يقينها إلا المولى، سبحانه، وتنازل إلينا، ومن البشر إلا متخذيه ضدها، أما نحن الباقين المتفرجين على ما يحدث لها ولغيرها على نفس النهج والأسلوب فلا نعلم الحقيقة إلا من خلال معرفتنا بالكاتبة والمقال وتفسيرات العلماء والمفسرين والزهابجة (والكلمة مقصودة ومكتوبة وفقًا لنطق عادل إمام لكلمة الجهابزة)، ولذا، فنحن السائرين على الدرب لا نعلم هذه السرائر، فكما علمنا تنزيل الحكيم العليم الكتاب المقدس، إن السرائر لله والمعلنات لنا، مع أنه في كثير من الأحيان وبالرغم من عدم رؤية السرائر مكشوفة سافرة، ولهذا أسماها الكتاب المقدس سرائر، إلا أنه في مرات كثيرة تفوح رائحة هذه السرائر فتملأ أنوفنا وعقولنا وتجعلنا نتأكد أن هناك رائحة موت نعرفها جيدًا وقد آلفناها واختبرناها وعشناها في مواقف ومناسبات وأحداث عدة ومنذ زمن ليس بقريب، لكن الحقيقة الثابتة تظل وهي أن السرائر لله ولا يمكن الجزم بها ولذا فلن أجزم بما لست أراه بعيني، أو أسمعه من أصحابه، وفي البداية دعنى أقرر عدة أمور:

    أولاً: إن مقالي هذا لا علاقة له بالدفاع عن أو الوقوف بجانب أو تأييد المهندسة الأديبة المناضلة فاطمة ناعوت فيما تقول أو تكتب، بالرغم من اتفاقي معها تمامًا في الغالبية العظمى، إن لم يكن في كل كتاباتها وتعليقاتها وآرائها، والسبب ببساطة هو لأن فاطمة (مع حفظ الألقاب والاحترام الكامل المبني على استحقاقها في شخصها) من نوعية فولاذية خاصة لا تحتاج في معظم الأحيان، أو قل جميعها، لمن يدافع عنها أو الوقوف بجانبها أو تأييدها، ودليلي على ما أقول إنه لو كانت فاطمة تحتاج إلى ذلك لما كان لها هذا التاريخ الطويل من الكتابة والدفاع عن الآخرين والحق الضائع والمهدر والمسلوب وخاصة حقوق الأقليات في مصر والمهمشين والمظلومين، ولما وقفت في وجه، وتحدت بكتاباتها وأقوالها وآرائها، قادة المحروسة عبر السنين، ولما أجبرت العامة على احترامها، والخاصة على الخوف من كتاباتها واتخاذ المواقف ضدها، وخفافيش الظلام على الاختباء من محضرها وراء جماعاتهم، محظورة كانت أم لازالت مطلوقة، لتعيث في الأرض فسادًا.

    ثانيًا: أنا ما حظيت من قبل بمعرفة أو مقابلة فاطمة شخصيًا اللهم إلا كما يقابل الناس الكتاب والأدباء والفنانين وأصدقاء المهنة الواحدة على سطور صفحاتهم ومدوناتهم وبرامجهم وصالوناتهم ويعيشون معهم قصصهم ورواياتهم وأشعارهم وآرائهم لدرجة أن أغلب هؤلاء الناس يجزم أنه يعرف كتابهم وأدباءهم شخصيًا بالرغم من عدم رؤيتهم لهم بالعين المجردة من قبل.

    ثالثًا: الهدف الوحيد من كتابة هذا المقال هو إحقاق الحق ومناقشة قضية رأي عام، كل منا طرف فيها شاء أم أبى، ومدى قانونية قانون أو قل سلاح اعتاد البعض ويحلو له استخدامه لنحر الكتاب والأدباء والفنانين والشعراء والعاملين بهيئات حقوق الإنسان والكنيسة والمسيحيين وغيرهم، ألا وهو قانون ازدراء الأديان، والأمر بالنسبة لي ليس بأية حال من الأحوال هو الرأي الذي كتبته فاطمة حول ذبح الأضاحي، وما إذا كان ذبحًا أم مذبحة،  فالرأي الذي اتخذ زريعة ضدها لمقاضاتها وإصدار الحكم عليها بثلاث سنوات سجن يتعلق بقضية دينية إسلامية، والمتهمة فيها سيدة مسلمة والمتضرر أو الخصم فيها مسلمًا يتكلم بلسان المسلمين والمحامي المدافع عنها والممثل للمتهمة أمام المحكمة مسلمًا والقاضى الحاكم بالسجن عليها ومستشاريه مسلمين وإني على يقين أن الضباط الذين سيقبضون عليها لتنفيذ الحكم النهائي أغلب الظن سيكونون مسلمين، ومأمور سجن النساء بالقناطر لا قدر الله لها زيارته مسلمًا، فما لي أنا وقضية مثل هذه لا ناقة لي فيها ولا جمل؟ فمع أن القضية تأخذ الثوب الإسلامي إلا أنها بالحقيقة قضية مصر كلها مسلمين ومسيحيين، قضية تتعلق برجوع مصر مرة أخرى حرة عظيمة يحبها أولادها ويموتون في سبيلها وهذا لن يحدث إلا إذا كانت هناك حرية حقيقية في التعبير عن آراء الناس، كل الناس، ما دام شأن هذا البلد ورفعته تهمهم في المقام الأول ثم مصالحهم الشخصية والطائفية والدينية في المقامات التالية.

    قد يبدو الأمر بسيطًا ولا يستحق كل هذه الضجة والدراسة والاختلافات والتعليقات والمقالات فقانون ازدراء الأديان الهدف منه هدف نبيل وهو عدم الازدراء بالأديان وحفظ كرامة الأنبياء وتعاليمهم، ولكن الحق يقال إن هذا الأمر كان ممكنًا أن يكون صحيحًا إن كانت هناك مقاييس ومعايير واحدة لتطبيق هذا القانون تطبق على الجميع من رجال ونساء، مسلمين ومسيحيين، أدباء وفنانين وكتاب، رجال أزهر وكنيسة، وإن تكون هذه القوانين موصفة بدقة للحالة التي يجب أن تدرج تحت طائلة قانون الازدراء وما لا يوصف كازدراء الأديان، فمن الواضح أن القانون لا يطبق في مصر إلا على البعض فقط ووفقًا لمزاج الحكام أو خوفًا على مصالحهم أو حالة المحكومين من نوم أو هياج، وعلى نفس القياس والميزان المستخدم في إدانة الكاتبة فاطمة ناعوت بسبب رأيها ألا يعتبر ما قاله وعمله الفنان عادل إمام (الواد سيد الشغال) بالمأذون الذي أحضره ليكتب كتابه على بنت الأكابر يعتبر ازدراء بالدين وبمراسم عقيدة الزواج في الإسلام والمتواتر في مسألة استخدام المنديل في مسائل كَتْب الكتاب، وطريقة المحلل الذي ينبغي أن يدخل بها، أي بالعروس، حتى يتمكن من تطليقها لتعود للزواج مرة أخرى من رجلها القديم الذي طلقها بالتلاتة؟ هل يعتبر مجرد كتابة رأي جاد له وجاهته عن خروف مذبوح جريمة يعاقب عليها القانون بثلاث سنوات سجن؟ ولا يعتبر رفع ملابس إنسان يرتدي الزي الإسلامي للمأذون، وهو الزي المتواتر عند المسلمين للشيوخ والأئمة والعلماء الإسلاميين ورجال الأزهر أنفسهم حتى اليوم في مصر، يرفع هذا الزي من على رجل دين على المسرح، أليس هذا هو الازدراء بعينه للدين والعادات والتقاليد والمتوارثات من الأدب والأخلاق العامة، حتى لو اتخذ صورة فكاهية مسرحية ليست حَرفيَّة الحدوث؟ أليس جزء من التاريخ الإسلامي في معركة  الأوس والخزرج وما حدث فيهما ذلك الذي استخدمه الفنان القدير عادل إمام كنكتة يتحدث بها عن أصحاب الدين الجديد؟ فجعل المشاهدين يضحكون. ألم يسخر في مزحه من الفنان القدير عمر الحريري عندما قال له: “أنا شفتك في الفوازير…. أنت إيه اللي شغلك في الحاجات دي؟ فسأله: أومال أشتغل في إيه يعنى؟….رد عادل إمام بالقول: اشتغل في “محمد رسول الله”. فضحك وضحك الحضور، الأمر الذي دفع الإخوان المسلمين، بكل إمكانياتهم البشرية والسلطوية، لمحاولة محاكمته بازدراء الأديان لكنهم لم يستطيعوا ببساطة لأنه عادل إمام، والحقيقة هى: ما الفرق بين عادل إمام، ونجيب محفوط، وأحمد شوقي وفاطمة ناعوت وغيرهم؟ ألسنا جميعنا أولاد حواء وآدم؟ ألسنا جميعًا مصريين؟ ألا ينبغي أن نتساوى جميعًا في الحقوق والواجبات وتطبق علينا القوانين جميعها بالقسط والميزان؟ ماذا لو كانت فاطمة عملت عشر ما عمله عادل إمام في هذه الواقعة؟ يقينى أنهم كانوا سيرجمونها كمن أمسكت في ذات الفعل.

    لعل هذا الذي يحدث مع فاطمة وغيرها ممن تحاول السلطات أو الجماعات أو المؤسسات إسكات أصواتهم حتى لا يوقظوا المغيبين، فيثوروا لكرامتهم رافضين الذل والمهانة وخاصة بعد أن جربوا بأنفسهم أنهم قادرون على تغيير الأحوال والأوضاع وإقالة الرؤساء والوزراء وحتى العسكر من مكانهم، هذا كله  هو أحد الأسباب الرئيسية في تأخر الوطن العربي كله عن ركب الحضارة والمدنية ومنافسة العالم كله على التقدم والإنجاز. ففي بلاد العم سام الأمريكاني، يوجد ما يسمى بالمادة الثانية بالدستور التى تنص على أن لكل واحد الحق في التعبير عن رأيه دون خوف وبحرية كاملة، وهذه المادة مفعلة مع كل الناس، حتى المسلمين المقيمين في أمريكا والذين لا يقبلون هم بدورهم النقد أبدًا لدينهم أو رموزهم الدينية، ولعل القصة الشهيرة الطريفة التى قيل فيها إن الصحاف وزير الإعلام العراقي قبل سقوط بغداد، والذي تعود أن يصف الجنود الأمريكان بـ “العلوج”  عندما أراد تسليم نفسه للأمريكان رفضت أمريكا استلامه أو محاكمته أو حتى التحفظ عليه بأي شكل، بالرغم من كل ما قاله على الأمريكان ورئيسهم وجنودهم وازدرائه بهم وبكل ما لهم ومن لهم، فعندما سأل الصحافيون وزير خارجية أمريكا لماذا رفضتم القبض على الصحاف، بالرغم من استعداده للخروج من مخبئه وتسليمه نفسه لكم؟ ضحك رامسفيلد وقال: الصحاف لم يؤذنا في شئ، الصحاف فقط تكلم ونحن نؤمن بحرية الكلام، والكلام لا يؤذنا، لذا فهو لم يعمل شيئًا يؤذي أو يغضب أمريكا، لذا فنحن نرفض استلامه. هذه قوانين من نعتبرهم كفرة في بلادهم وهذه هي طريقة دفاعهم عن حق الحرية في التعبير حتى لو أهان غيره من البشر أو حتى الأنبياء، ألم تنتج أفلامًا تكلفت الملايين من الدولارات في استوديوهات هوليوود العالمية في أمريكا تصور المسيح يسوع- تبارك اسمه- بأنه كان على علاقة عاطفية مع مريم المجدلية؟ وأخر صورة، له المجد، على أنه من المثليين وغيرها، فلماذا لم نسمع المسيحيين الأمريكان يثورون أو يطالبون بمحاكمة منتجي هذه الأفلام بتهمة ازدراء الأديان؟ أليس من العجيب أن ترفض شركة (أبل) صاحبة التليفونات الشهيرة أن تسمح للحكومة الأمريكية ممثلة في مخابراتها الفيدرالية أن تحصل على مكالمات تليفونية لسفاح مسلم قتل العجائز والمسنين في دار العجزة بسان برناردينو بكاليفورنيا والسبب إنهم لا يؤمنون بتهمة ازدراء الأديان أو إفشاء أسرار حتى الخونة والمجرمين ويؤمنون بالحرية الحقيقية والخصوصية حتى للقتلة والسفاحين؟ ثم لماذا هناك قانون يسمى ازدراء الأديان؟ أليس لكل دين صاحب أو إله؟ ألا يستطيع صاحب الدين أو إلهه أن يدافع عنه ويخرس المزدرى؟ هل طلب أي صاحب دين أو إله دين من الناس الدفاع عنه والتنكيل بالمزدرين به ومحاسبة من يزدري بدينه؟ ألم يسأل الله الحقيقي وحده في كتابه المقدس كما ذكرت آنفًا الناس أن يتحاججوا معه ويناقشوه في طبيعته وأعماله وصفاته، لأنه في النهاية وما يحبون وما يكرهون فيه تبارك اسمه، إن جاز التعبير؟ والسبب في ذلك أنه يعرف من هو الإنسان وما هي قدراته، وهو لم يخلق، سبحانه، إنسانًا آليًا لا إرادة له ولا عقل أو ضمير أو حرية  ليحركه بالريموت كنترول كما يشاء، وفي رأيي الشخصي، وإنني على يقين أن الأغلبية العظمى من البشر يشاركونني هذا الرأي، أنه لو طلب صاحب دين أو إله من الناس أن يغاروا له أو أن يقتلوا أو يقاتلوا الذين يزدرون به، أو الذين لا يؤمنون به من خلالهم أو أن يسجنوا من يزدرى به لكان غير قادر عن الدفاع عن نفسه والتعامل مباشرة مع من ازدرى به، وما استحق أن يكون إلهًا يعبد، ولنا في تاريخ شعب الله في القديم والحديث ما لا يعد أو يحصى من الأمثلة والقصص التى توضح هذه الحقيقة، فعندما حارب الفلسطينيون شعب الله في القديم وانتصروا عليهم، لا لقوتهم بل لشر اليهود وبعدهم عن إله إسرائيل  وبالرغم من غضب المولى على شعبه إلا أن الفلسطينيين عندما نظروا فقط، ولم يزدروا، إلى تابوت العهد الذي كان يمثل الحضور الإلهي للإله الحي، إله إسرائيل، ضرب الرب الفلسطينيين بالبواسير ولم ترفع عنهم الضربة إلا بعد أن أصعدوا التابوت من أرضهم، وعندما ازدرى فرعون بالإله الحقيقي وحده إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ضرب المولى فرعون وبيته ونساءه وعبيده وكل شعبه وآلهته بالضفادع، والبعوض، والذبان،  بالدمامل والبثور، وفي النهاية أرسل، سبحانه، ملاكه المهلك وأهلك جميع أبكار مصر في ليلة واحدة، لم يطلب من موسى كليم الله أو هارون أن يقتل فرعون أو أحد عبيده بل تصرف هو، سبحانه، مع المزدري، وعندما عير سنحاريب، رئيس جيش ملك أرام، شعب إسرائيل وازدرى بإلهه أرسل الله ملاكه وقتل من جيش سنحاريب 186  ألف محارب في ليلة واحدة. في كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير لم يطلب المولى من شعبه أن يدافعوا عنه أو أن يحبسوا المزدرين به، سبحانه، وأن يقتلوا أو يقاتلوا الذين لا يؤمنون به وباليوم الآخر، فحرب وقتال إسرائيل مع الشعوب الذين كانوا حولهم كانت أسبابها جميعها متعلقة ببني إسرائيل أنفسهم وليس إلههم، فعندما كانت الإهانة توجه للإله الحي، كان هو بنفسه يتدخل بطرقه المختلفة للدفاع عن نفسه وعن دينه وعن شعبه، إذًا فقوانين ازدراء الأديان ليست لصالح الناس أو المولى أو الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إنما هي مفصلة من قبل الرجيم لتعذيب الإنسان وإعطائه زريعة ليؤذي بها أخاه الإنسان. والحقيقة المؤسفة والتى تأسفت كثيرًا عند مشاهدتها في أحد البرامج التليفزيونية من مذيع مخضرم في احراج المسيحيين بوضعهم أمام بعضهم البعض وسؤالهم عن أمور تتعلق بالمسيحية ولا علاقة له هو ودينه بها كالملك الألفي، أو حقيقة إن إسرائيل هم شعب الله أم لا، وفي هذه المرة جاء باثنين من المسيحيين الذين حاولوا تشويه صورة فاطمة ناعوت بقولهم إنها كتبت عن أحدهم أنه أسلم مما سبب له، على حد قوله، احراجًا شديدًا مع أصحابه وتوعدها برفع قضية ضدها، والحق يقال إن مجرد مشاهدة تلك الحلقة التليفزيونية زاد من احترامي لفاطمة لردودها على خصومها، وثقتها بنفسها وتاريخها ونضالها وجعلتهم يبدون للمشاهد العادي كأطفال لا يعلمون ما يتكلمون عنه، وقد أصابني هذا البرنامج بالغثيان من طريقة تفكيرنا وردود أفعالنا كمسيحيين تجاه هذه الأمور، فبدلاً من أن يشكر المسيحيون المصريون الله على وجود فاضلة، مسلمة، مستنيرة، جريئة، قوية، كفاطمة ناعوت تدافع عن الحق وتتبنى كثيرًا من قضايا المهمشين والمظلومين، ولا تفرق بين المسيحيين والمسلمين، وتكشف شر وألاعيب المغيبين والمتملقين والمرتشين الحاقدين، يكافئونها برفع القضايا ضدها، وإني على يقين أن جل المسيحيين سيقولون نحن لا نحتاج إلى شخصية إسلامية أو غير إسلامية للدفاع عنا وعن قضايانا، فنحن كفء في أنفسنا للدفاع كمسيحيين عن قضايانا المسيحية، ولذا فأنا أتساءل، أين هي الشخصيات المسيحية التى تدافع عن قضاياكم أيها المسيحيون؟ كم عددها وما مدى تأثيرها ونفوذها وأين تعيش وكيف تتعاملون معها؟ ألم تعتمدوا على أقباط المهجر في أحلك الأوقات التى عشناها كمسيحيين في توصيل أصواتكم إلى العالم أجمع والدفاع عن القضية القبطية؟ ألم يتحمل أقباط المهجر العبء الأكبر في الدفاع عنكم كأفراد وكنائس وطوائف مسيحية في مصر؟ ألا زالت الفضائيات المسيحية جميعها تحمل صوتكم إلى العالم الخارجي؟ ألم تسع حكومة مبارك وعائلته مرارًا كثيرة وبكل إمكانياتها للسيطرة على أقباط المهجر حتى استطاعت حكومته أن تشتري بعضهم، وأجبرت الكنيسة القبطية وقادتها على إسكات أصوات أغلبهم؟ كما استطاع اليأس والإحباط والفشل القضاء على المتبقي منهم، فاشكروا الله على صوت فاطمة ناعوت، وصلوا لها في كنائسكم أن لا يسكت الله لها صوتًا.

    لست أدري لماذا تركت العنان لنفسي للتفكير فيما عساه أن يحدث لها ومعها، لا قدر الله، في ليلة القبض على فاطمة، وإنني على يقين أنه لا الحاكمين عليها بالسجن ولا منفذي القبض عليها ولا من حولها يعرفون أبعاد هذا الحدث الذي أتمنى أن لا يحدث، وأتمنى أن تفيق الحكومة من غفلتها وتوقف مهزلة التهم بازدراء الأديان ورفع القضايا على الكتاب والصحفيين والفنانين وتضييع الوقت وصرف أموال الدولة في ما لا يجلب عليها سوى الشر المبين.

    إن حقيقة ما سيحدث في ليلة القبض على فاطمة هو:

    أ- إنها ستدخل إلى عالم أوسع بكثير مما هي فيه، وسيشتد إعجاب الناس بها أكثر وستجذب انظار وانتباه ليس قادة وشعب الوطن العربي فحسب بل الكثير من بلاد العالم مما سيفتح لها مجالات أكبر للدفاع عن الإنسان، كل إنسان في أي مكان، وستصبح رمزًا وإيقونة للحرية ومثلاً للمرأة المصرية المناضلة، تمامًا كما حدث مع المناضل العالمي، الروماني الأصل ريتشارد وورمبراند، مؤلف “كتاب العذاب الأحمر” الذي روى لي شخصيًا قصة عذابه المرير بواسطة البوليس في رومانيا. قال لي ريتشارد عندما تم القبض على للمرة الثالثة سألني الضابط الذي ألقى القبض عليّ إذا ما كنت متأسفًا على ممارسة نشاطي الديني الذي كان السبب في إلقائي في السجن للمرة الثالثة.

    فأجبته بالنفي وقلت الحقيقة أشكركم لأنكم قررتم سجني للمرة الثالثة، فقبل القبض على في المرة الأولى لم أكن معروفًا على الإطلاق في رومانيا أو حتى طائفتي المسيحية، كان من يعرفونني هم أعضاء كنيستي الصغيرة، لكنني بعد خروجي من السجن للمرة الأولى أصبحت مشهورًا على مستوى الكنائس جميعها في رومانيا، وعندما خرجت من السجن بعد قضائي وقتًا به للمرة الثانية وجدت نفسي وقد أصبحت مشهورًا ليس على مستوى الكنيسة في رومانيا فقط فحسب، بل على مستوى رومانيا كلها، واليوم وعندما أخرج من السجن للمرة الثالثة سأصبح مشهورًا على مستوى العالم وسيعلم العالم كله ما يجرى في رومانيا، وقد كان، فلقد اختير ريتشارد وورمبراند كواحد من 70  شخصية عالمية وصفوا بأنهم الأكثر تأثيرًا على العالم الحاضر، والمؤسسة التى كونها ريتشارد وورمبراند للدفاع عن المضطهدين تعمل في أكثر من 110 دولة حول العالم بما فيهم كثير من الدول الإسلامية المغلقة في وجه الإنجيل، وكان له تأثير على الملايين على مستوى العالم كله بما فيهم كثير من المسيحيين المصريين الذين تأثروا به وبحياته وشجاعته والذين أولهم أنا، هذا ما سيحدث تمامًا لفاطمة في ليلة القبض على فاطمة.

    ب- ستصبح فاطمة أقوى وأصلب عودًا مما كانت بسبب اختبارها لبعض ما لم تختبره من قبل، وسيصبح لديها مادة للكتابة، تحسد عليها، تكفيها لعشرات السنين، ستكتب عن أحوال السجون من الداخل، ترتيبها، نظافتها، كيفية تعامل الضباط والعاملين بالسجون مع المسجونات، حالتهم الصحية من جرب وأمراض جلدية. لقد زرت سجن القناطر للنساء منذ فترة، كانت زيارتي لتفقد حال بعض المسجونات المسيحيات ومحاولة الترفيه عنهن بمناسبة أحد الأعياد المسيحية، سألت العديد منهن ما هي مشكلتكم الأولى في السجن، قالت معظمهن مرض الجرب، فوسائل النظافة الشخصية تكاد تكون منعدمة وغيرها من الأمور التى لا مجال لذكرها في هذه العجالة، فذكرها أيضًا قبيح. أعلم أن فاطمة ناعوت إذا دخلت السجن لن تعامل كواحدة من المسجونات الأخريات اللاتي لا وسيلة لهن لتوصيل أصواتهن للمجتمع الخارجي للسجن والتي لا نصير لهن، لكنها سترى أشياء يشيب لها الولدان.

    ج- في ليلة القبض على فاطمة سيصبح السجن بالنسبة لها شئ اختبرته من قبل، فلن يخيفها فيما بعد. قال لي أحد الأصدقاء المؤمنين بالمسيح يسوع ربًا وإلهًا، وهو من خلفية إسلامية، عندما سألته، ألا تخاف أن يقبضوا عليك ويعيدوك مرة أخرى إلى السجن؟ ضحك وقال: لا. في المرة الأولى يكون هناك خوف من المجهول، لكن عندما يصبح المجهول معلومًا تكسر حدة الخوف، لأنك على الأقل تعرف ما سيحدث لك.

    د-  ستصبح فاطمة صوت صارخ في البرية وربما أخذت على عاتقها أن تتحدث عن السجن وما يحدث فيه لرفع المعاناة عن المضطهدين داخل السجون والمطالبة بمعاملة آدمية لهم ولإعدادهن ليصبحن نساءً عاملات مكافحات مواطنات صالحات.

    ه- سيصبح لفاطمة قائمة انتظار من المحبين والمعجبين والمذيعين الذين يتلهفون لمقابلتها والحديث إليها في صالوناتهم وإذاعاتهم وتلفيزيوناتهم وخاصة عن اختباراتها في السجن.

    و- سيصبح لفاطمة تلامذة من الرجال والنساء الذين سيسيرون على خطاها ونهجها للدفاع عن المظلومين والمهمشين والأقليات. وستصبح إيقونة تطبع صورتها على ملابسهم وعلى قلوبهم وضمائرهم.

    فالحبة لا تأتي بثمر إن لم تمت أولاً وتختفي عن الأنظار لمدة في باطن الأرض، لكنها إن آجلاً أو عاجلاً ستشق التربة وتصبح ثمرة جميلة مفيدة تحمل في نفسها بذارها التى ستغرس في نفس التربة وتنتج أشجار مثمرة يستظل بظلها الطيور والناس ولن يذبح تحتها خروف أو أضحية.

    اللهم جنب فاطمة شر أضدادك، وامنح فاطمة سلامك وإرشادك، وكافئها خيرًا على خدمتها لعبادك ولا تسمح لنا في كرمك حتى أن نسمع عن أن هناك “ليلة القبض على فاطمة”.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا