لقاء مع صديقي المسلم

5

العدد 25 الصادر في اكتوبر 2007
لقاء مع صديقي المسلم

قابلته بعد طول غياب، انشغل فيه كل منا بأموره الشخصية، كنا معاً ندرس في المرحلة الابتدائية، هاجرنا معاً من مدينة السويس وتلاقينا في شبرا الإعدادية للبنين، ثم مدرسة التوفيقية الثانوية، اثنتا عشرة سنة عشنا فيها معاً. أعرفه وأعرف والديه وهو أيضاً. كثيراً ما جاءني بالبيت وكذلك أنا. ذاكرنا معاً، لعبنا معاً، شربنا حمص الشام من عربة أبو هاشم المتواضعة بشارع شوكولاني بشبرا، يوم كان الكوب فيه بقرش واحد. تعودنا على أن أدفع أنا يوم وهو يدفع اليوم الثاني. وهكذا تقاسمنا سندوتشاتنا  وضحكنا، لعبنا، تطلعاتنا , لم يكن يفكر في أنني مسيحي ولم يكن يهمني أنه مسلم، فلم يكن هذا في قاموسنا الصغير. كنا أصدقاء وكفى. نحب بعضنا ونثق في بعضنا ونتمنى الخير كل للآخر مع أنه كان ولا يزال مسلماً يؤدي الفروض , وكنت ولازلت مسيحياً غيوراً على مسيحيتي.

كبرنا وانتهينا من الدراسة الثانوية. هو صاحب جسم رياضي وعضلات مفتولة، فالتحق بكلية الشرطة حيث أن له من الوسائط ما يمكنه من ذلك، واتجهت أنا لدراسة طب الأسنان.

انشغلنا كل بدراسته وعائلته وعالمه الجديد لكننا لم ننس بعضنا البعض , في رمضان والأعياد الإسلامية. كثيراً ما مررت ببيته القريب من بيتنا. هنأت من كل قلبي والدته ووالده اللذين أحببتهما كوالدي وتمنيت لهما دوام الصحة والعافية، وهكذا فعل هو في أعيادنا. سافرت إلى الخارج وانتقل هو من البيت وانقطعت أخبارنا. تذكرته كثيراً. كلما ضاقت بي الدنيا، قلت فين أيامك يا إبراهيم، أيام اللعب والمرح وعدم المسئولية، كلما سمعت عن معركة بين المسلمين والمسيحيين وأحداث حرق الكنائس وخطف البنات ترحمت على أيام إبراهيم. لم نكن نسمع عن كل هذا , مع أنه كان موجوداً , تمنيت أن تعود أيام احترام الجار لجاره , والصديق لصديقه ,. كثيراً ما تمنيت أن أراه، أن أبحث عنه حتى أجده، فهو بالنسبة لي صديق وجار بل وأخ عزيز على قلبي، وهو رمز من رموز طفولتي ومراهقتي وشبابي ورفيق دراستي.

وبينما كنت أتجول في سيتي ستارز فجأة رأيته أمامي ,. لحيته كثيفة سوداء , وعلى جبهته علامة واضحة تقول أنه ملتزم بأكثر من الصلوات الخمس، كثير السجود , غاب شاربه رغم كثافة لحيته ففهمت أنه ينتمى لإحدى الجماعات السلفية. نظر إلى نظرة عابرة ففهمت منها أنه لم يكتشف أنني صديقه القديم فأنا أيضاً تغيرت، طالت لحيتي وابيض شعرها. أدرار ظهره ومضى، تسمرت في مكاني، سألت عقلي: تُرى هل هذا إبراهيم صديق العمر، من كنت أحلم برؤيته؟ هل رآني وتظاهر بعدم رؤيتي؟ هل عرفني وأعطى لي ظهره؟ هل أذهب وأتكلم معه؟ ماذا لو كان قد تأثر بما يجري حوله ورفض أن يصافحني فأنا في نظر هذه المجموعات السلفية ومن ينتمون إليها مسيحي كافر يعبد ثلاثة آلهة ويأكل لحم الخنزير, يؤمن بكتاب محرف ولا يعترف بأنبياء جاءوا بعد المسيح تبارك اسمه ولا يقبل بما أنزل الله من بعد التوراة والإنجيل من الكتب.

قلت لنفسي ربما هو يعمل بما علموه إياه بأن لا يتخذ من النصارى واليهود أصدقاء أو أولياء، فبعضهم أولياء بعض. أجابت نفسي لا ليست هذه طبيعة إبراهيم صديقك، حتى ولو خدعه ولقنه مخربو العقول كل ما ذكرت. سألت نفسي ماذا لو مددت له يدي ورفض أن يبادلني التحية؟ أجابت نفسي حتى ولو حدث ذلك ماذا ستفقد؟ على الأقل تكون قد عملت الصواب ومددت لصديقك المسلم يداً مصافحة. ألم يعلمك سيدك المسيح أن تصنع بالناس كل ما أردت من الناس أن يصنعوا بك، ألم يعلمك سيدك أن تحب أعداءك وتذهب للحديث مع من يخطيء إليك، وإبراهيم ليس عدوك بل صديقك ولم يخطئ إليك بل يحبك. توقفت للحظات وقلت لعقلي لماذا تفكر بهذه الطريقة الغبية من أين جئت بكل هذه التداعيات والأفكار، ألا ترى أنك أنت الذي تغيرت ولم تعد ناجي البسيط.

ألا ترى أن عندك نقصاً في محبة الأصدقاء فكيف ستحب الأعداء، ألا ترى أنك متكبر تخاف أن تمد يدك لصديقك لئلا يرفضها فيكسر كبريائك.

قررت أن أتبع صديقي وأذهب لأتكلم معه. سرت وراءه وأنا مازلت أحاور نفسي وعقلي. قلت نعم يبدو أنني أنا الذي تغيرت وليس صديقي فأنا لم أتحدث معه بعد، ولم أعرف بعد رد فعله تجاهي حتى أحكم عليه. سألت عقلي لكن لماذا تغيرت أنا أليس من كثرة ما رأيت أنا وسائر النصارى من مشاكل واضطهاد ومعاناة وتمييز عنصري وديني من صديقي وأمثاله، فنحن محاصرون من كل جهة. في المدارس أطفالنا محاصرون من مدرسيهم الذين يضعون عليهم كل أنواع الضغوط لتخريب أذهانهم وتشكيكهم في مسيحيتهم ومسيحهم وكتابهم وعقائدهم، وهذا ليس بالجديد، فمنذ أن كنت بالمدرسة الابتدائية من عشرات السنين وهذا يحدث باستمرار والآن أصبح أضعاف ما كان,التلميذ الممدوح في هذه الأيام هو الذي يصوم رمضان وكل من لم يصم رمضان عليه أن يخجل من نفسه لدرجة أن الصغار الذين لم تطالبهم الشريعة بالصوم لصغر سنهم لابد لهم أن يتظاهروا بأنهم صائمون، يكذبون لينالوا رضا المعلمين والمعلمات ولا يهم إن كانوا مسيحيين أم مسلمين. فها هو ابن صديق آخر لي في يومه الدراسي الأول لهذا العام سألته مدرسته أمام الأطفال إن كان صائماً أم لا, عندما رد الصغير أنه غير صائم عنفته المدرسة وتشابك مع أقرانه بالفصل بالكلام وعلى حد تعبيره البسيط “زفوني في المدرسة” اتصل بوالده الذي كان بصحبتي في ذلك الوقت وقال لوالده على التليفون: “أرجوك يا بابا لا ترغمني على الذهاب للمدرسة بعد اليوم. المُدرسة سألتني إن كنت صائماً أم لا، لم أرد أن أكذب كما علمتني. قلت لها لا. قالت لي لازم تصوم والأولاد زفوني في المدرسة قدامها وهي ساكتة. بابا أنا (بكره) المدرسة، بكره زملائي والمدرسة. أرجوك ماتخلنيش أروح المدرسة تاني على الأقل في شهر رمضان”. روي لي الوالد ما قاله له ابنه في المكالمة التليفونية وسألني سؤالاً واضحاً وبسيطاً والدموع في عينيه ماذا تعمل لو كنت مكاني؟ توقف عقلي عن التفكير لحظات وحاولت إعطاءه بعض الحلول التي سرعان ما اكتشفت أنها كلها أسوأ من بعضها والتي لم أكن أنا مقتنعاً بها حتى بنسبة 50%. لم أستطع أن أضع نفسي مكانه، لم أستطع حتى تخيل أنه بإمكاني أن أحاول أن أتخيل أن أكون مكانه. أعادت لي هذه الحادثة معاناة طفولتي كطفل مسيحي في مدارس الحكومة الإسلامية , مع أن أيامنا لم تكن بهذا السواد الحالك، مع أن أولادي في مدارس تحترم شخصية الطفل، يشجعونه على الإدلاء برأيه في كل القضايا السياسية والمادية والاجتماعية التي تمر بالبلاد التي يدرس فيها , في موسم الانتخابات الرئاسية، يجرون للطلبة  بروفة انتخاب الرئيس وهم في الثالثة الابتدائية، يطالبونهم بأن يكون لهم رأيهم، لا يسألونهم عن أديانهم أو احتفالاتهم الدينية الخاصة ولا يتدخلون في خصوصياتهم، ولكل منهم الحق في أن يعترض على تصرفات مدرسه أو مدرسته أو ناظر المدرسة، ورأيه يُسمع على أعلى المستويات.. أما في مدارسنا فحتى مدرسو الدين المسيحي رفض جلهم تدريس المسيحيين الصغار دينهم لئلا يتهمهم الزملاء المسلمون بالتعصب وأنهم نشطون دينياً فتزداد عزلتهم واضطهادهم.

في الجامعات وخاصة الكليات العملية فيها لا يوجد ما يخفي هوية الطالب المسيحي عن أستاذه الحضري أو السلفي فكيف يخفيها الطالب المسيحي عن أستاذه، بل قل ربه وإلهه، من يملك نجاحه أو رسوبه في الامتحان الشفوي وهو يجلس أمامه وجهاً لوجه يسأله الأستاذ عن اسمه الرباعي إن لم يستطع أن يميز ديانته من اسمه الثلاثي وليس من المهم أن يجاوب الطالب المسيحي بالصواب أو الخطأ فالأمر متروك للإله المتجسد في الأستاذ الجامعي الذي يعطي له الدرجة التي يريدها دون رقيب أو حسيب. هذا عين ما حدث معي ومع كثيرين من أترابي في أيام لم يكن فيها الحال بسيء كما هو عليه اليوم. أيام كان هناك على الأقل 20% من أساتذة الجامعات من المسيحيين فكانوا يعادلون ميزان الأمور، أما اليوم وبعد أن نجحت خطة الجماعات الأصولية السلفية في استبعاد الطلبة المسيحيين من التعيين كأعضاء في هيئة تدريس الجامعات تقلصت النسبة من 5% في الكليات النظرية وتكاد تصل إلى صفر% في كليات الطب وطب الأسنان والصيدلة والطب البيطري وخلافه.

الطالب المسيحي ليس له من أنصار في جميع مراحل تعليمه فاتحادات الطلاب قاصرة على غير المسيحيين بل قل قاصرة على أعضاء الجماعات الإسلامية. الترشيح في النقابات والاتحادات أصبح تحت شعار الإسلام هو الحل، ومن لا يؤمن أن الإسلام هو الحل لا مكان له في كل هذه التجمعات حتى لو كان مسلماً موحداً بالله، فكم وكم لو كان مسيحياً مشركاً بمن لا شريك له سبحانه على حد اعتقادهم.

والموظف المسيحي ليس له من أعوان فالعلاوات والترقيات والمكافأت غالباً ما تكون بتوصيات وتقارير سرية من أولى الأمر من الرؤساء والمديرين الذين عادة ما يكونون من غير المسيحيين وحتى لو كان الرؤساء من المسيحيين لما نصروا أخاهم المسيحي لعدة أسباب، فهم لا يؤمنون بالقول انصر أخاك حتى لو كان مظلوماً، ثانياً يخافون من أن يتهموا بالميل مع المسيحيين فيغالى البعض في ظلم أخيه المسيحي حتى يظهر وكأنه مدير عادل لا يفرق بين موظفيه على أساس الدين، وثالثاً ربما لأن ظلمه للمسيحيين هو الضمان الوحيد لاحتفاظه بالكرسي ورضاء الكبار عليه وتركه في منصبه حتى يؤكدون ادعائهم أن لدينا ما يكفي من الحرية والمساواة بين أبناء الشعب الواحد، بغض النظر عن خلفياتهم أو ديانتهم والدليل على ذلك أن هناك مديرين ووكلاء وزارة ونظار ومفتشين مسيحيين وربنا يديم المعروف ويديمها فوضى ويحفظها من النظام.

المناهج الدراسية ووسائل الإعلام والصحف والمجلات الموجهة للأطفال لتشكيل شخصياتهم وبنائهم بناء سليماً يخدم الله والوطن تركز على قصص البطولات والفتوحات وتصور الصغار وقد غطوا جباههم الصغيرة برايات تسجل عليها عبارات الكراهية والانتقام أمثال إما النصر أو الشهادة، اقتلوا أعداء الله، نحن كتائب الله، شهداء الحق، جيش الله…الخ

حتى إعلانات الوظائف الخالية أصبحت تشتمل على بعض العبارات المستفزة للمسيحيين مثل “المسيحيون يمتنعون” “للمسلمين فقط” ومع أن هذا لا يغير من الواقع، فدائماً المسيحيون يمتنعون إن قالوها أم لا لكن أن تكتب مثل هذه العبارة وتنشر في إعلان للوظائف الخالية فهذا يصور مدى التردي الذي وصلنا إليه في حياتنا اليومية العادية وفي علاقتنا مسلمين ومسيحيين.

تزاحمت كل هذه الأفكار في رأسي وأنا ألهث وراء صديقي ولم أتوقف عن التفكير إلا بعد أن تجاوزته بخطوتين اثنتين ثم استدرت ونظرت في عينيه. وقتها قلت في نفسي الآن لن أعطيه فرصة للهروب مني أو الشك في أنه قد رآني. ووقفت في مكاني ناظراً إليه محدقاً في وجهه. تسمر هو أيضاً في مكانه وصمت كل منا للحظات ثم قطع صديقي الصمت قائلاً: “ناجي يوسف هل أنا في علم أم حلم؟” وتلاحمنا مقبلين بعضنا البعض وتلاقت ذقنه الطويلة ذات الشعر الأسود بذقني القصيرة ذات الشعر الأبيض, وقف بعض المارة يتطلعون إلينا ونحن نعانق بعضنا البعض, عضو جماعة إسلامية أصولية وشخص ظهر الصليب على صدره في سلسلة ذهبية يتعانقان. قالت إحدى الواقفات المحجبات: “يا سبحان الله” ونظرت لصديقي كأنه يعانق أبرص أو قد ارتكب المحظوراً لم نعرها انتباها وسرنا أيدينا في أيدي البعض لأقرب كرسيين وطاولة خاوية وجدناها في إحدى محلات بيع القهوة والشاي , بعد أن أبدى كل منا فرحته بلقاء الآخر، فقد وجدت لدى صديقي شوقاً لرؤيتي تماماً كما اشتقت أنا لرؤيته.

سألني صديقي كيف حال والدتك ووالدك؟ قلت مبتسماً تعيش انت، هم عند المسيح الحي يقضيان أبدية سعيدة في سماء أعدها المولى للمؤمنين. ابتسم صديقي ابتسامة فهمت منها أنه لا يوافقني على بعض ما ذكرته في إجابتي، وقال مجاملاً كان أبوك وأمك من أولياء الله الصالحين، الله يرحمهم، والبقية في حياتك. ابتسمت قائلاً بارك الله فيك و شكراً على مجاملتك الرقيقة لكن هل تؤمن أن هناك أولياء صالحين من المسيحيين؟ على العموم حياتك الباقية، لكن إيه البقية اللي بتتكلم عنها؟ قال بقية أيامهم أو أعمارهم ليضيفها الله إلى عمرك لإطالته. ضحكت وقلت لصديقي هل كان في حياة والدي ووالدتي أو أيامهما بقية لم يأخذاها حتى يضيفها الله إلى حياتي؟ لم يموتا ناقصين عمراً. ضحك صديقي وقال: “انت لسه مابتفوتش أي حاجة” يا سيدي احنا اتعودنا نقول كده في مثل هذه المناسبات من غير ما نفكر زيك أو نحبكها , المهم في النية”. ضحكت وقلت لصديقي: “انت عارف صاحبك هو هو لم يتغير، المصيبة أننا نردد أموراً كثيرة في مناسبات عديدة دون تفكير، ليس ذلك فقط بل نتصرف تصرفات عجيبة بناء على موروثات قديمة ليس لها أي تفسير أو واقع من الصحة، وندافع عن معتقدات وأفكار وأشكال غير موجودة على الإطلاق وكأننا ندافع عن قضايا مصيرية لابد من الدفاع عنها. ابتسم صديقي وقال: “شكلك هتبتدي توعظ” قلت لا , لم أقصد، ثم سألته بدوري: وماذا عن الوالد أبو إبراهيم والوالدة أم إبراهيم؟ قال برضو تعيش انت. هما.. هما في.. في.. وصمت. ثم قال الله أعلم، كل نفس ذائقة الموت. قلت في محاولة مواساة صديقي كان والدك من أحب الناس إلى قلبي. قال صديقي: الحمد الله، بارك الله فيك. سألني صديقي: ماذا تعمل في حياتك، أعتقد أنني رأيتك مرة في إحدى المحطات التلفزيونية المسيحية تتحدث عن الإرهاب في المفهوم أو المعتقد المسيحي، كذلك أيضاً كنت تتكلم عن الشهداء في المسيحية، ففهمت أنك أصبحت داعية مسيحياً، وخصوصا أنك كنت نشطاً دينياً منذ أن كنت في كلية طب الأسنان. ضحكت ضحكة لها معنى فهمها صديقي وسألته: إبراهيم من الواضح أنك عضو في جماعة إسلامية سلفية. قاطعني وقال: كيف عرفت ذلك؟ قلت: لأنك أطلقت لحيتك وحلقت شاربك وتخفض عينيك وأنت تسير ولا تتطلع في أحد. وبعدين انت صاحبي وأنا عارفك. ابتسم صديقي وقال: أكمل ماذا تريد أن تعرف، ما هو سؤالك؟ قلت هل تشاهد الفضائيات المسيحية قال: ولم لا؟ قلت: وليه آه؟ هل تؤمن بهذه الفضائيات وما يذاع فيها؟ أجاب صديقي وبسرعة البرق: “أستغفر الله، طبعاً لأ”. قلت إذاً لماذا تشاهدها؟ صمت صديقي ونظر إلى الأرض ولم يشأ أن يجيب. قلت: اتكلم يا إبراهيم نحن أصدقاء. قال: ناجي سيبك من موضوع الفضائيات ده دلوقت، يمكن نتكلم فيه بعدين. لكن أحب أعرفك إنك انت صديقي المسيحي الوحيد. ولولا إننا نعرف بعض من عشرات السنين لما أسميتك صديقي. وسامحني لو أنني قلت لك أنني أجلس معك الآن وأتكلم ليس كصديقي المسيحي بل كصديق الطفولة بغض النظر عن خلفيتك أو ديانتك. قلت هذه هي الصراحة التي تعودتها منك وافتقدتها في أصدقائي، ليس فقط المسلمين بل ومعظم المسيحيين أيضاً. لذلك فدعنا نتحدث معاً بكل صراحة، وكما قلت إنس أنني مسيحي حتى لا تكرهني كمسيحي، فقط اذكر أننا أصدقاء الطفولة البسيطة. قل لي لماذا تكرهني كمسيحي؟ قال: لعدة أسباب: أولاً، لأنكم مشركون وكفرة وتعبدون عيسى عليه السلام وما هو إلا بشر مثلنا. ثانياً، تأكلون ما حرم الله على البشر وتشربون الخمر. ثالثاً، لأنكم تكرهون المسلمين فلابد من معاملتكم بالمثل، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه. رابعاً، لانكم لا تؤمنون بالله الواحد ورسوله وكتابه الكريم. خامساً، لأنكم عملاء الأمريكان وتظنون أنه بإمكانكم تنصير كل المسلمين الذين في مصر والعالم. فأنتم أحفاد المستشرقين والمبشرين والصليبيين. أنتم تُغوون الشباب المسلم بأموالكم ونسائكم ليتنصروا ويتركوا الإسلام. سادساً، لأنكم لا تحترمون مشاعر المسلمين، كما تعلم من الفضائيات التي تتكلم عنها، وتطالبون المسلمين باحترامكم. ثم توقف صديقي عن الكلام للحظة وقال أنا آسف يا ناجي انت اللي استفزتني لأتكلم أنا لم أكن أنوي ولا أريد أن أفتح موضوع الدين. نحن لم نتقابل من سنين. يكفي أنني رأيتك بعد طول غياب. من فضلك لا تزعل مني. ضحكت وقلت لصديقي: أنا لا يمكن أن أغضب منك تحت أي بند من البنود. إحنا أصدقاء وسنظل أصدقاء إلى ما شاء الله. وأقول لك الحقيقة، وحشني النقاش معاك، الاختلاف والاتفاق، فاكر زمان لما كنا نختلف على طريقة حل مسائل الحساب، أو حول رأينا في أستاذ بالذات، أو ما هي أحسن الكليات التي يمكن أن نلتحق بها. انت كنت فاكر زمان إنك لو بقيت ظابط بوليس الدنيا كلها هاتبقى تحت رجليك وهتعمل في الناس اللي انت عايزه.. والكل هيجري وراك وانت تنتقي سندريلا البنات، ومكانش عاجبك الطب ولا طب الأسنان، أنا لسه فاكر مقولتك: “أنا لا أريد أن أكل عيش من فم الزباين المرضى”  , ضحكنا معاً وقال كانت أيام وياريتها دامت أيام , كنا عيال والحمد الله على كده.

قلت لصديقي: اسمع يا إبراهيم الحقيقة أنا أشتاق إلى مناقشة أحد الإخوة المسلمين في كل ما ذكرت، وأنا أيضاً عندي نقط أخرى من النقاش. بشرط أن نتناقش في جو من الصداقة والحب والعقلانية البعيدة عن التعصب والتزمت ورفض الآخر. والحقيقة أيضاً يا إبراهيم أنا فشلت في إيجاد ذلك الشخص الذي يمكن أن أتحدث إليه بكل صراحة دون أن يعتبرني أنني أعتدي أو أتهكم أو أهاجم عقائده أو كتابه أو شخصه، ودون أن تعلو أصواتنا كأننا أعداء. قال صديقي اسمع يا ناجي أقولك الحقيقة، أنا كمان في وقت من أوقات حياتي كنت محتاج لنفس الشخص الذي تبحث انت عنه، والحقيقة أيضاً أنا لم أجده، فالمسيحيون الذين كان يمكن أن أتصل بهم أو أتعامل معهم، سامحني في التعبير واحنا اتفقنا إننا نتكلم بصراحة وأنا لا أقصد أن أهين أحداً، لكن معظمهم، وبقول معظمهم مش عايز أقول إن كلهم جبناء ولا واحد منهم رضي أن يعطيني كتاب مقدس ولا يتقابل معي في جلسة خاصة لنتحدث عن تلك الأسئلة التي كانت تدور بعقلي. قاطعته وقلت كنت عايز مين يجلس معاك يتكلم في الدين ويجاوب أسئلتك وانت بذقنك دي ومن غير شنب كمان ويمكن كمان كنت لابس لهم بدلة الظابط، صح؟ ضحك وقال لا والله لم أكن قد أطلقت لحيتي بعد وكمان لم أكن ظابط. كنت في فترة الانتقال بين الاثنين. كنت في فترة حرجة من حياتي الأسرية والمهنية، فترة كنت أبحث فيها عن معنى لحياتي. والله افتكرتك كثير وقلت لو كان ناجي هنا كنا اتكلمنا في كل هذه المسائل. كنت في هذه الفترة أبحث عن الله سبحانه وتعالى، وأحاول الهروب من المشاكل والمصاعب التي مررت بها وخصوصاً بعد أن اضطررت لتطليق امرأتي وعشت وحيداً لفترة من الزمان، ثم تنهد وقال فترة وعدت الحمد الله على كل شيء, أنا راضي عن حياتي وإيماني وأحمد الله على أني لم أتقابل مع حد منكم يعملي غسيل مخ ويلخبطني وأنا مكنتش ناقص لخبطة ولا مشاكل، يمكن كان حصل معايا “والعياذ بالله” كما حصل مع غيري وكنت الآن أصبحت ولا مؤاخذة مسيحي.

ضحكت من كل قلبي وقلت لصديقي الحمد الله ربنا يحفظك من المشاكل واللخبطة لكن نفسي اسألك سؤالين وعايزك تجاوبني بصراحتك المعهودة. قال لي قول. قلت إيه اللي عمل فيك كده، إيه اللي خلاك انضميت للجماعة اللي انت معاهم دلوقت؟ قال الجماعة اللي أنا معاها دلوقت هي اللي بتفهم في الدين، قادتها دارسين ومتعلمين ومثقفين وعارفين كل شيء، ليس عن الإسلام فقط بل عن المسيحية واليهودية أيضاً، وأنا قلت لك بعد المشاكل العائلية اللي مريت بيها وموت الوالد والوالدة وتركي لعملي في البوليس بدأت انشغل بالدين. قلت: هو لازم تبقى عضو في جماعة من هذه الجماعات علشان تبقى متدين؟ قال: ناجي انت من الواضح إنك واخد فكرة سيئة وسلبية عن هذه المجموعات وأنا عازرك عشان انتم مش شايفين إلا اعمال العنف والأمثلة السيئة قدامكم عن هذه الجماعات، لكن هما دول اللي فاهمين الدين ذي ما قلت لك. قلت: ألا يكفيك أن تكون متعبداً في أحد المساجد التي تملأ الشوارع وتصلي وتصوم وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وخلاص؟ قال: لا معظم الخطباء والأئمة في هذه الجوامع غير متعمقين دينياً، مراقبين من الأمن، خوافين هما كمان زيكم، وعايزين ياكلوا عيش ويربوا أولادهم فالواحد بيزهق من الحياة الرتيبة اللي ما فيهاش أكشن، ضحك وقال لي: إيه السؤال الثاني؟ قلت: ليه ما فكرتش في يوم ليه المسيحيين الجبناء جبناء؟ قال في حدة ما تقوليش إنهم خايفين من مخلوق على الأرض لا الأمن والجماعات ولاغيره. المؤمن بأي شيء المفروض إنه يكون عنده استعداد حتى إنه يموت في سبيل ما يؤمن به، لكن يظهر إنكم يا مسيحيين مش مؤمنين باللي بتنادوا بيه واللي علمهولكم سيدنا عيسى عليه السلام، لأنكم لو كنتم مؤمنين بيه لمتم في سبيله. الحقيقة أنني صدمت من إجابة صديقي وسألته: يبدو يا إبراهيم إنك مش بس درست الإسلام لكن المسيحية كمان يظهر إنك عارف كويس إيه اللي احنا بنادي بيه واللي علمه لينا سيدنا المسيح. قال لي: والله متهيأ لي أنني أعرف عن دينكم أكثر من معظمكم. فسألته: إيه اللي علمه لينا كتابنا وسيدنا ولا نؤمن بيه  وجعلنا جبنا  يا إبراهيم باشا. قال صديقي: انت سيد العارفين، ألم يقل لكم سيدنا عيسى أنه في العالم سيكون لكم ضيق، لماذا تريدون أن تهربوا من هذا الضيق؟ ألم يعلمكم أنه لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب، فلماذا الجبن والخوف؟ ألم يوصكم اذهبوا للعالم أجمع واكرزوا بالإنجيل، فلماذا جبنتم ولم أجد من يعطيني إنجيلاً أو يتكلم لي عن المسيح؟ أنتم تتحامون في الفضائيات وتعملون من الخارج بسبب أنكم جبناء. الستم أنتم أبناء الشهداء، ألا يروي تاريخكم المسيحي والقبطي كيف استشهد منكم كثيرون لنشر الدعوة والكرازة بإنجيل سيدنا عيسى المسيح ونجحتم في ذلك؟ قلت: نعم. قال انظر هذه النقطة التي أريدك أن تفهمها. إنه من الواضح أن كتابكم قد تحرف ولم تعودوا تؤمنون بما دون فيه، لذلك ضعف إيمانكم بقضيتكم المسيحية، وبالتالي ليس لديكم الاستعداد للدفاع عنها والموت في سبيلها، فتخاذلتم وجبنتم لذلك لابد لكم من إدراك هذه الحقيقة والتنازل عن كبريائكم والدخول في دين الله، وإلا ستكونون في النهاية من الخاسرين.

صمت صديقي وقال: إحنا اتفقنا إن محدش يزعل من حد وإلا دعنا نغير الموضوع ونتكلم عن شيء آخر.

صعق صديقي عندما قلت له: صدقني معاك حق في كل ما قلته وفي تحليلك كمسلم لهذه الجزئية، لكن خلي بالك المشكلة ليس في إننا حرفنا كتابنا، فمن يستطيع أن يبدل أو يحرف من لا تبديل لكلماته من لا تأخذه سنة ولا ينام، من أنزل الذكر وهو قادر على حفظه سبحانه، بل القضية أننا لا نطبق ولا نعيش في هذه الأيام حسب ما أنزله المولى تبارك اسمه في التوراة والإنجيل. اكتفينا بترديده في اجتماعاتنا وقداساتنا وطقوسنا لكن لم نعمل به، فخفنا وجبنا مع أن سيدنا قد علمنا “أن لا تخف أيها القطيع الصغير”.

قال لنا: “ثقوا أنا قد غلبت العالم وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” وعدنا أن كل آلة صورت ضدنا لا تنجح، أكد لنا أن شعور رؤوسنا محصاة ولن تسقط شعرة واحدة منها إلا بإذن أبينا الذي في السموات. لقد أكد لنا تبارك اسمه أننا إذا اتحدنا وأصبحنا واحداً سيعرف العالم من هو المسيح. ألم يصل بهذه الطلبة إلى الأب قائلاً: “ليكونوا هم أيضاً فينا واحداً ليؤمن العالم أنك أرسلتني” لكننا وهذه هي الحقيقة لسنا واحداً بل طوائف ومللاً ونحلاً وكنائس متفرقة منقسمة متصارعة، فلا عجب أن أصبنا بالجبن والانسحاب والانعزالية والخوف وأصبحنا بلا رائحة أو طعم أو لون، فلم نعد نؤثر فيما حولنا إلا سلباً لا إيجاباً، وأكثرنا الشكوى والأنين والإشفاق على النفس، وتركنا الأبواب محروقة والأسوار منهدمة وأصبحنا في شر عظيم وعار، فشككنا الناس في كتابنا وإيماننا، فرفضوا مسيحنا الذي صورناه ضعيفاً مغلوباً على أمره، وهو القوي الذي قهر الموت والشيطان وأشهر أعداءه وظفر بهم في الصليب، وهو الذي ستجثو باسمه كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، وسيعترف كل لسان أنه رب الأرباب وملك الملوك.

استغرقت في هذا التفكير ولم أفق إلا عندما هزني صديقي وقال: “أين ذهبت الآن بفكرك، أنا مضطر أن أنصرف الآن، لكن لابد من لقاء آخر تجيب فيه على كل أسئلتي، قلت له: أكيد واتفقنا على موعد قادم.

وإلى اللقاء

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا