يتركز فكر البعض على أن الإرهاب هو رجل مفخخ يتحين الفرصة السانحة لتفجير جسده وإصابة من حوله من أهداف، أو طائرات تحطم أبراجاً عالية أو مبان منخفضة وتدمر من بها، أو سيارات محملة بالمتفجرات يتم التحكم فيها عن بعد لتحول الأرض إلى جحيم من نار يحرق الناس ويرسلهم إلى أبديهتم سعيدة كانت أو تعيسة، وينصرف فكر الأغلبية عن صور ومصادر للإرهاب تحيط بنا وتتغلغل في أشغالنا وبيوتنا وبلادنا دون أن ينتبه إليها جل العامة.
ولا شك أن الإرهاب بكل صوره ومن كل مصادره مرفوض ولابد من فضحه ومقاومته باللسان والقلب واليد والقلم.
ومع أن مصادر الإرهاب كثيرة إلا أن أبرز ثلاثة مصادر وأعنفها هي:
أولاً: الجماعات الدينية التي يحلو للبعض أن يطلقوا عليها لفظة “المتطرفة” ويصورونها أنها فئة قليلة من المتدينين الملتحين أو المنقبات المخفيات لما تحت نقابهن من عداوة وكره للمجتمعات.
ثانياً: الإعلام الرخيص المأجور وخاصة الصحافة.
ثالثاً: الحكومات التي تحكم شعوبها بواسطة الأمن والبوليس لا بالديمقراطية وحرية التعبير عن الرأى.
ولكل من هذه الجماعات الثلاثة تفرعاتها ووسائلها وأيديولوجياتها وأهدافها وطرقها للوصول إلى ما تصبو إليه، لكنها في معظم الأحوال تتفق جميعها في إرهاب المواطن العادي الذي لا حول له ولا قوة إلى أن يخضع لها ويحقق أهدافها.
دعني أسرد مجموعة من صور الإرهاب المخفي وكأنه ليس من الإرهاب في شيء، مع أنها تحدث وتتكرر كثيراً مما لا يعطي مجالاً للشك في أنها ظاهرة وخطة مدبرة ضد فئة المسيحيين المصريين لإرهابهم وتشتيت تركيزهم وتفتيت تجمعاتهم وإسكات أصواتهم.
ثلاث قرى متجاورة ليس بها كنيسة، أقرب كنيسة تبعد عنها بخمسة كيلو مترات، المسيحيون بالقرية معزولون عن العالم الخارجي، عندما يموت أحدهم يحمله الآخرون إلى الكنيسة القريبة للصلاة عليه، بالليل يجتمع الأهل والأصدقاء لتلقي واجب العزاء من أهل القرية، لا يوجد من يعظ أو يقدم كلمة عزاء من الكتاب المقدس لأهل الميت، يستخدم أهل الميت شرائط الكاسيت المسجل عليها بعض العظات أو القراءات الكتابية لتحل محل الواعظ، يتوق أهل هذه القرى لرؤية كاهن أو قسيس أو أخ علماني ليذهب إليهم ولو مرة في الشهر ليقرأ لهم من الكتاب المقدس ويعظهم من كلمة الله، فالصلاة والعبادة والجلوس في رحاب الرحمن أمر متأصل في طبيعة الإنسان الذي خلقه سبحانه وتعالى عليها. أخيراً يتطوع أحد الكهنة أو القسوس للذهاب. يختار المتطوع بيتاً من بيوت القرى لأداء مهمته والصلاة بالمسيحيين. تسري الأخبار لعدد من بيوت مسيحيي القرية، يمتلأ الجميع فرحاً وشكراً لله، فأخيراً وجدوا من يأتي إلى قريتهم ولو لمرة واحدة ليكلمهم بكلمة الله، يتجمع نفر قليل في هذا البيت، ما إن تطأ قدم الكاهن هذا البيت بلباسه الأسود حتى يصرخ أحدهم لا إله إلا الله، النصارى يفتحون كنيسة في قريتكم، لا كنيسة في بلاد المسلمين، لا صليب ولا قسيس، في دقائق معدودات يتجمع الرجال والنساء والأطفال من كل صوب وفج وتبدأ معركة تراق فيها الدماء، وقد تفقد فيها حياة، فالغوغاء حول البيت، قد يقذفونه بالحجارة، أو يشعلون فيه النار، أو يطلقون الرصاص على من فيه، يحاصر المصلون في البيت، لا حول لهم ولا قوة، لا سلاح ولا حجارة، تغلق الأبواب على من فيها، البوليس لا يتحرك لإنقاذ الموقف، فليس من مُبلغ عن الحادثة، ومادام لم يبلغ أحد عن الحادثة فالبوليس لا يفعل شيئاً، عندما تنتشر أعمال العنف لبقية بيوت المسيحيين بالقرية، حتى أولئك الذين لا علاقة لهم بالتجمع المسيحي البسيط الذي أدى إلى كل هذه المصائب، يبدأ البوليس في التحرك للقبض على أصحاب البيت الذي زاره الكاهن أو القسيس، يجرونهم لقسم البوليس ويوجهون لهم تهمة ممارسة الشعائر الدينية خارج الكنيسة دون ترخيص، تهديد الأمن العام وإحداث شغب، الاعتداء على أهالي القرية وإثارة الفتنة، وفي لحظات يصبح البرىء متهماً ومذنباً ومداناً حتى قبل سماع أقواله، ويصبح المجرم الحقيقي مثير الفتنة والشغب والقتل بريئاً ومظلوماً ومعتدى عليه وصاحب حق، فيخلى سبيله ويذهب لينام في بيته بينما يبيت البريء الحقيقي في قسم البوليس مع القتلة والسفاحين حتى يعرضوا جميعاً على النيابة العامة في صباح اليوم التالي أو بعد يومين. ويكتب محضر البوليس بطريقة تضمن بقاء المصلين في الحبس حتى يتأكدوا أنه لا يمكنهم أن يخرجوا منه إلا بمعجزة من المولى سبحانه وتعالى، فكل الأدلة المدونة بالمحضر تدينهم وكل الشهود ضدهم وكل الظروف المحيطة بهم تؤكد مصيرهم المشئوم، ثم يظهر في الصورة محافظ المدينة، أو مأمور القسم، أو وكيل النيابة، أو عضو مجلس الشعب أو عضو مجلس محلي القرية ليطمئن على سلامة المقبوض عليهم، ويعرض عليهم خدماته بأنه على استعداد أن يجلس مع الأطراف الأخرى ويحاول أن يقنعهم بجلسة للصلح وكأنه يقدم لهم خدمة العمر ويؤكد لهم أن هذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذهم من المحاكمة ثم الإدانة ثم السجن بما في ذلك من تعذيب أليم. وفي معظم الأحيان يقبل المساكين هذا العرض فليس للسجين من أنصار لا في أقسام البوليس ولا في النيابة، فالقضاة ووكلاء النيابة والمستشارين وظائف تمتنع على المسيحيين، بعدها يعيش الكبار والصغار في هذه القرى في حالة من الإرهاب. والخوف من الخروج إلى شوارع القرية، أو التعامل مع العامة، أو المرور أمام قسم بوليس القرية، وينسون فكرة الصلاة في حضور كاهن أو قسيس. أليس هذا إرهاباً منظماً مدروساً يمارس ضد المسيحيين في كثير من قرى ومدن مصر والبلاد العربية؟
مثل آخر يمارسه الإعلام المرئي والمسموع إلى جانب الصحف والمجلات: يخطر على بال أحد المسلمين عدة أسئلة عن شخص السيد الرب يسوع المسيح: من هو هذا المسيح؟ كيف يقول المسيحيون- “المخابيل” حسب تفكيره- أن سيدنا عيسى هو الله؟ بل وأكثر من ذلك، كيف يقولون أنه ابن الله؟ هل يمكن أن يكون لله ولد، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون؟ هل قال المسيح عن نفسه أنه الله أو ابن الله، أم أن المسيحيين “المجانين” هم الذين قالوا عنه ذلك؟ هل حقاً صلب المسيح وقبر وقام من الأموات، أم أنهم ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم؟ وإن كان المسيح هو الله، هل مات الله عندما مات المسيح؟ من كان هناك في السماء عندما كان الله يتمشى في شخص المسيح على الأرض؟ هل يمكن أن يمشي الله بين البشر، سبحانه فهو قادر على كل شيء، لكن هل كان هناك احتياج أن يأتي المولى إلى عالمنا ويتمثل لنا بشراً سوياً؟ وإن كان هناك احتياج إلى مجيئه فهل كان لابد له أن يموت؟ ألم تكن هناك طريقة أخرى لفداء الإنسان غير موته؟ ثم ماذا عن حياته الخالية من المعاصي والذنوب والإثم والوزر؟ ترى ما هي تعاليمه؟ هل كان يعلم الناس “عين بعين وسن بسن”، أم كان يعلمهم أن يحبوا أعداءهم وأن يباركوا لاعنيهم ويحسنوا إلى مبغضيهم؟ هل كان ينتقم من أعدائه وناقديه وشاتميه، أم أنه كان إذا شتم لا يشتم عوضاً؟ هل حقاً أن شفاعته ستقبل يوم الدين؟ بل الأكثر من ذلك، هل هو حقاً ديان الأحياء والأموات؟ هل هو نبي أم ملك أم الله؟
أليس من حق الإنسان مسيحياً كان أم مسلماً، رجلاً كان أم امرأة أن يفكر، وأن يسأل كل هذه الأسئلة، وأن يجد إجابة عليها، إجابة بسيطة، مخلصة، أمينة؟ وكيف يجد الإجابة عليها، فإن صرح وأقر بأنه يستخدم عقله ويفكر في إجابة لهذه الأسئلة وسمع تصريحه قريب أو نسيب أو صديق أو زميل لقامت الدنيا ولم تقعد واتهموه بالكفر والخروج عن الدين الصحيح ومنع من الخروج والاتصال بالآخرين وخاصة إذا كانت فتاة او امرأة، ولذاقت كل أنواع العذاب وتلقفها الأئمة والمشايخ لإنقاذها من هذا الضلال المبين (وهذا من واجبهم فكل منا يدافع عن دينه). أما إذا أصرت هذه الفتاة أو المرأة على المضي قدماً في البحث عن إجابة لهذه الأسئلة دخلت في مرحلة ثانية من الضرب والإهانة والتعذيب والتهديد بالقتل وتشويه الوجه بوسائل مختلفة. ويبدأ هذا المسكين أو المسكينة رحلة عذاب في البحث عن إجابات شافية كافية لأسئلته، فالمسيحيون يعيشون في حالة من الإرهاب الدائم والتعقب، إذا ما تجرأ أحدهم وجاوب عن أسئلة هؤلاء الإخوة، فالويل والحبس والتعذيب والخطف لكل من يقدم لأحدهم كتاباً أو إنجيلاً أو عظة أو دعوة للذهاب إلى إحدى الكنائس لمعرفة الحقيقة. ثم يبدأ المساكين الذين تجرأوا على أن يفكروا في هذه الأسئلة بالحصول على إجابات حقيقية لأسئلتهم بطريقة أو أخرى فيكتشفون أن المسيحيين ليسوا بمجانين عندما يقولون بأنه عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد فهو فعال لما يريد، ثم إن من مات ودفن وقام ليس هو الله سبحانه وتعالى، فالمولى قائم بذاته مستو على العرش لا تأخذه سنة ولا ينام، بل من وقع عليه كل هذا هو جسد السيد المسيح الذي اتخذه من العذراء المطوبة، يكتشفون أن المسيحيين ليسوا بمشركين ولا يؤمنون أن الله اتخذ ولداً، وأن بنوة المسيح للمولى تبارك اسمه ليست نبوة بالتناسل فهو جل شأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. ثم ينجذبون إلى طبيعة السيد المسيح، صفاته، كمالاته، حياته الطاهرة النقية منذ يوم مولده، فهو الوحيد الذي لم يستطيع أن يمسه الشيطان، وهو الوحيد الذي لم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم بل كان الشيطان ولا يزال يفر من محضره، يخرج صارخاً ويشهد له تبارك اسمه أنه المسيح ابن الله الحي. يتأمل هؤلاء المفكرون في إعلانات المسيح تبارك اسمه عن المولى سبحانه وتعالى فيعلن لهم أن الله القدير العظيم يحب الإنسان وأنه جل شأنه محبة وأنه علمنا عندما نصلي أن نصلي لأبينا الذي في السموات، معلناً أن الله هو أبونا. فماذا ينتظر الإنسان المسكين من الخالق العظيم أكثر من إعلانه أنه أب للمؤمنين به وأنه محب لكل الذين يطلبونه بالحق، وأمام هذه الحقائق والإعلانات الإلهية لا يملك المرء إلا أن ينحني عند قدمي السيد المسيح الحي إلى أبد الأبدين معترفاً بخطاياه وآثامه فينال غفراناً له، وهنا تبدأ سلسلة أخرى من الآلامات والعذابات الجسدية والنفسية والأسرية والأمنية، فيطلق على ذلك الشخص اسم المتنصر أو العابر، وكثيراً ما يفقد الأهل والأصدقاء والأصحاب، وشريك الحياة والأولاد والميراث، وإذا تجرأ واعترف بقبوله المسيح رباً وسيداً ومخلصاً وطالب بإثبات ذلك في هويته تلقفته المحاكم والقضاة والصحافة والإعلام واتهموه بالخيانة والإجرام في حق دينه القديم وأحلوا دمه ونشروا صورته واسمه وعنوانه ولاصقوه في كل مكان، فيعيش تحت وطأة هذا الإرهاب في قلق وخوف مستمر. أليس هذا إرهاباً دينياً يقع ضد المتنصرين، فيعيش بعضهم بازدواجية في الشخصية يؤمنون بعكس ما يصرحون، ويسمون بأسماء لا تدل على هوياتهم، ويرتد البعض الآخر عن الإيمان، ويعيش الفريق الثالث تحت وطأة هذا الإرهاب؟
وإذا تجرأ كاتب أو ناقد على مناقشة مثل هذه القضايا علناً دون خوف مارست الصحافة ضده كل أنواع الإرهاب فيتهمونه بإثارة الفتنة الطائفية وزعزعة الأمن العام ويطالبون السلطات بالتصدي له ولكتاباته، وبعضهم يتجرأ بطلب سحب جنسيته المصرية أو تجريده من جائزة نالها بعرق جبينه وموهبته الفذة وآرائه الصائبة ودفاعه عن الحل وتصديه لخفافيش الظلام.
أليس إرهاباً أن تصادر آراء المفكرين وتسكت أصوات المعارضين، وتشوه صورة الأمناء والمخلصين؟ أليس إرهاباً أن يخطب إمام مسجد ويهاجم المسيحيين من مكبرات الصوت ويصفهم بالقردة والخنازير؟ أليس إرهاباً أن تجبر السيدات والفتيات على خلع صلبانهن وارتداء الحجاب والنقاب في كثير من قرى مصر وغيرها من البلاد العربية؟ أليس إرهاباً أن يتهم الشرفاء والأمناء لبلادهم وأديانهم بالفسق والضلال، ويترك القتلة والمجرمون يعيثون في الأرض فساداً؟
لا للإرهاب بكل صوره وأشكاله، نعم للحب وحسن الجوار وحرية الفكر والاختيار، لا للتكفير وإحلال إهدار الدماء، ونعم للتنوير وآراء وأصوات الشرفاء، لا للظلام والكره والظلم والطغيان ونعم للنور والمحبة والإيمان.