ليست تلك عاداته على الإطلاق، فهو دائمًا يملأ المكان ضجيجًا وصخبًا حتى اضطر إلى إيقافه وبشدة، ولكن هذه المرة دخل وجلس صامتًا مطرقًا بوجهه نحو الأرض في وضعية تمثال الإنسان المفكر ولكن تحوم حول منه طاقة سلبية شديدة القوة. ولأنني كنتُ أعرف السبب مسبقًا، ولأنني خاله الوحيد والمقرب والمحبب إلى أمه، فقد أخبرتني أنه تعرَّض لحالة شديدة من القهر، نتيجة لرفض صديقته وحبيبته وخطيبته الاستمرار معه بعد علاقة خطوبة استمرت لثلاث سنوات. ولمعرفتي بهذا، اخترتُ الصمت حتى في اللحظات التي كان ينظر فيها إليّ، وبالفعل تصنعتُ الانشغال بكتابة بعض ملاحظاتي على كتاب كنتُ أقرأه مؤخرًا، ولكنني لم أدعه يغيب عن عيني، ولمحت قطرات متتابعة من الدموع تنسال من وجهه نحو الأرض ونشيج وبكاء صامت يهزان كل كيانه، فقررتُ عدم الاقتراب منه حتى لا تزيد الأمور صعوبةً. وبالفعل بعد أن أنهى معظم انفعالاته وبدأ يدرك أين هو، بدأ في رفع وجهه نحوي، وكل ملامحه مجرد سؤال أو علامة استفهام كبيرة.
ولأنني أعرفه كما أعرف نفسي بنسبة كبيرة، ولأنه تربى بين أحضاني وبين جدران أفكاري وآرائي، فقلتُ له مباشرةً: “هذا السؤال بالتحديد ليست له عندي إجابة.” فنظر مندهشًا ووجه كلامه إلي: “وهل تعرف ما سؤالي؟” فقلتُ له: “أظن أنك ستسأل: لماذا أنا؟” فاتسعت عينيه من الدهشة، فقلتُ له: “لا توجد إجابة، فكثير من أسئلة الحياة ليست لها إجابة، وهذا أحدها. مهما كنت تعرف ومهما كنت متعمقًا ولديك فلسفة لفهم حياتك، هناك أسئلة لا إجابة لها.” فنظر مندهشًا وقال: “إذن لا معنى لهذه الحياة المبنية على الغموض والجهل.” وأخذت الكلمات السلبية الناكرة لمعني الحياة تتدفق منه كطلقات المدفع، وأنا أصغي بانتباه شديد. تركته حتى ينتهي، وبالفعل بعد أن أفرغ كلماته هب واقفًا وأراد الرحيل.
فنظرتُ إليه بكل هدوء وقلتُ له: “لا تنهض.” فقال لي إنه لا يستطيع المكوث أكثر من هذا وإنه يرغب في الرحيل، فقلت له:
“إنني لا أعني أن تذهب أو لا تذهب.
ولكنني أخبرك ألا تنهض مما اخترت أن تكون فيه، ففي الحقيقة أنت غير مهم، ولست محور هذا الكون. نعم.
لذا أنا أخبرك ألا تنهض بل تستمر في العيش بلا معنى وبلا هدف.
لا تنهض بسبب تخلي الآخر عنك أو حتى بدون سبب.
لا تنهض فسوف يعجبك المكوث في القاع وستعتاد على رائحة المخلفات وستتلذذ بآكل الجيف والأطعمة الفاسدة.
فلا تنهض لأنك لست عزيزًا في عيني نفسك لكنك تستمد وجودك من آخر تركك وقرر أنك لا تستحق، ولذا فقد اقتنعت تمامًا بأنك لا تستحق واختزلت وجودك في عيون الآخرين.
لا تنهض فستجد بالقاع الذي أنت فيه ملايين من الآخرين الذين استمتعوا بالظلام والبقاء في المياه الآسنة.
لا تنهض وتكون مثل صناع الحياة الذين يعرفون أن وجودهم مرتبط بهم هم فقط وأنهم لا يستمدونه من شخص أو شيء.
لا تنهض لأنك تظن أن نهوضك سيعطيك الفرصة للانتقام من الآخر. إذا كان هذا ما تظنه أقسم لك أنك لن تنهض.
لا تنهض لأنك لن تستطيع أن ترى الأيادي المُحبة التي تحاول أن تمتد لك في ظلامك.
فأنت حر تمامًا في النهوض أو عدم النهوض.”
وعندما أنهيتُ كلامي نهض بالفعل وظننته سوف يغادر فإذا به يلقي بكل كيانه في أحضاني، فبكينا سويًا.