كارثة لوس أنجلوس… وأحداث الحياة

0

د. فيولا موريس

عاشت مدينة لوس أنجلوس وما زالت تعيش كابوسًا مُظلمًا حتى لحظة كتابة هذا المقال، وهي احتراق أجزاء كبيرة منها حيث أتت النيران على الأخضر واليابس فيها، مما أدى إلى تدمير أجمل معالمها.

ولمدينة لوس أنجلوس طابع مميز، فهي تعكس أقصى مظاهر الرقي والتحضر، كما تعكس كل ما وصل إليه الإنسان من تقدم وإبداع بشري. فعلى المستوى الفني، نجد فيها مدينة السينما العالمية هوليوود وما تحمله من مظاهر للرقي والجمال والثراء الفني، هذا بخلاف القصور والمتاحف الفاخرة التي يزيد عمرها عن المائة عام. وعلى المستوى الترفيهي، فإن هذه المدينة تحتوي على أكبر مدينة ملاهي عالمية وهي ديزني لاند، والتي يستمتع فيها الكبار والصغار معًا، بالإضافة لمدينة يونيفرسال التي تشهد عن ذكريات تصوير لأماكن قديمة للأفلام العالمية والتي تحمل أسماء مشاهير من الممثلين. أما على المستوى التكنولوجي، فإن لوس أنجلوس تضم أكبر شبكة إنترنت على مستوى العالم، وذلك بخلاف أنها تحتوي على أكبر شركات التكنولوجيا التي تستخدم الذكاء الاصطناعي مثل Chat GPT. ومما يزيد من جمال هذه المدينة تميزها بالطبيعة الخلابة، فهي تقع على أكبر المحيطات وهو المحيط الهادي، كما أنها مُحاطة بأضخم الغابات والجبال الشاهقة.

ولا شك أن احتراق مدينة لوس أنجلوس يُعد كارثة من كوارث الحياة بكل المقاييس، فهو يُعتبر حدثًا من أحداث الحياة العنيفة. ومعنى أحداث الحياة هو تلك الأحداث التي تترك بصمة قوية على نفسية الشخص الواقع تحت تأثيرها. ولا شك أن احتراق المنزل يمثل مفهومًا سيكولوجيًا خاصًا بالنسبة للأفراد الذين تعرضوا له، وهذا المفهوم يخترق حياته النفسية، حيث يسبب ضغطًا نفسيًا عنيفًا. فالمنزل ليس مجرد مكان للمأوى، ولكنه يمثل معنىً أعمق، فهو مصدر الأمان والطمأنينة والراحة، بالإضافة لأنه يحمل ذكريات تشكل تاريخ وشخصية الإنسان.

إن تعرض الأشخاص لمثل هذه الضغوط النفسية يترك أثرًا نفسيًا بالغًا قد يؤدي إلى إحداث صدمة تعمل على فقدان الشخص توازنه النفسي، وهو ما يُعرف باضطراب ما بعد الصدمة P.T.S.D، مما يتسبب في فقدان الشخص القدرة على اتخاذ قرارات صائبة.

لقد حاول بعض علماء النفس أمثال “توماس هولمز” إعداد قائمة تشمل أحداث الحياة حصرها في اثني وأربعين حدثًا (42 حدثًا)، إلا أنه في الواقع لا يمكن حصر هذه الأحداث طالما أن الحياة تطرح في كل يوم تغيرات جديدة ومستمرة تسمح بإضافة صور جديدة من صور أحداث الحياة، ذلك أن الحياة سلسلة لا متناهية من الأحداث، وما يدل على هذا هو الحريق المدمر الذي لم يشهده العالم من قبل.

خصائص أحداث الحياة

لكي نصف الموقف بأنه حدث من أحداث الحياة، لا بد من توافر الشروط التالية:

عدم الألفة:

ويُقصد بعدم الألفة أن الشخص الواقع تحت تأثير أحداث الحياة لم يألف التعامل معها. وليس معنى ذلك أنها مفاجئة أو غير متوقعة، فاحتراق الغابات بولاية كاليفورنيا حدث متوقع يحدث سنويًا، إلا أن كارثة احتراق المنازل بهذه الصورة المدمرة تمثل حدثًا ضاغطًا، حيث لم يألف المتضررين التعامل مع ذلك الحدث، وهو ما ظهر في سلوك الأشخاص عند هروبهم منزعجين من أعاصير السنة اللهب التي تحاصرهم، وذلك دون معرفة وجهتهم أو مصيرهم، وهو مشهد مأساوي بكل المقاييس.

الشدة:

إن أحداث الحياة في حد ذاتها تُعد ضواغط بيئية Environmental Stressors، وقد يزيد من عنصر الشدة أن يكون الحدث فجائي وغير متوقع، حيث لوحظ أن النيران قد أتت على كافة البيوت وبشكل سريع ومزعج وغير متوقع.

النسبية:

ويُقصد بالنسبية أن آثار هذا الحدث قد تتفاوت من شخص إلى آخر، فنفس الحدث قد يؤدي إلى وقوع الشخص تحت ضغوط نفسية Stress، بينما لا يؤدي نفس النتيجة بالنسبة لشخص آخر، وإذا فُرض وتأثر به فالتأثير قد لا يكون بنفس شدة تأثير الشخص الأول. وقد ظهر ذلك جليًا في ردود أفعال الأشخاص المتضررين، فالبعض وصف الحدث بأنه كارثة مروعة، بينما البعض الآخر عبَّر عن امتنانه لأن الله أنقذه وخرج سالمًا دون أي أذى وقع عليه أو على أسرته. وقد شاهدنا المخرج العالمي “ميل جيبسون” وهو يتحدث عن حادثة حرق منزله قائلًا بأنه يشعر بالارتياح لأنه تخلص من المشاكل التي يعاني منها والخاصة بسباكة المنزل.

آثار أحداث الحياة

لا شك أن كارثة احتراق منازل الأشخاص الذين وقعوا تحت هذا الحدث قد تركت أثرًا نفسيًا سيئًا، حيث تسببت في إحداث ضغوط نفسية. وهذه الضغوط تؤدي إلى دخول الشخص في حالة عدم التوازن Unbalance كما سبق القول، وهي استجابة تتسم بأنها حالة مرضية تظهر آثارها في خلال ثلاثة أشهر. إن هذه الحالة المرضية تؤدي إلى ما يعرف باضطراب التوافق، حيث تقحم الشخص في مشاكل متعددة، سواء متعلقة بالعمل أو بالعلاقات مع الآخرين، وقد تؤدي بالشخص إلى حالة من العصبية والقلق وعدم التكيف، وقد تصاحبها حالة من نوبات المخاوف Panic Attack، مع بعض الاضطرابات السلوكية كالشعور بالإحباط وعدم التركيز. وفي الغالب، يحتاج الأشخاص المتضررون إلى علاج نفسي وصحي مكثف حتى يمكنهم تجاوز هذه المحنة وإزالة آثار هذا الحدث الكارثي.

إلا أننا لا يمكن أن نتوقف عند الآثار النفسية أو المادية، فهناك بُعد آخر مجهول قد يحتاج إلى تساؤلات كثيرة. فالبعض يرى أن هذا الحدث هو إنذار معلن من الله للرجوع إليه بالتوبة والمغفرة، حيث لوحظ أن البشرية بدأت تعلن انفصالها عن الله، فهي ليست بحاجة إليه (بمعرفة طرقك لا نُسر)، وقد اتخذت من أنفسها آلهة، فهي القادرة على إدارة شؤون الكون بمفردها، وهو ما أدى إلى انتشار الفساد والمثلية والإلحاد.

ولكن سواء كان هذا إنذارًا من الله أو غضبًا من الطبيعة، فإن علينا أن نتحد في صلاة تشفعية من أجل أن يعرف العالم الله ويرجع إليه مرة أخرى، ويدرك أن الأمان ليس في الأشياء الزائلة، بل في شخص الرب يسوع المسيح الذي لا يعتريه تغيير أو ظل دوران، والذي في يده مقاليد أمورنا.

كذلك نصلي من أجل الأشخاص المنكوبين والذين فقدوا ذويهم وبيوتهم، لكي يمد الله يده بالمعونة والإنقاذ، فهو الإله الذي يعفو وينجي.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا