قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا

6

د. ق. عزت شاكر

أيهما أسبق: محبتنا أم غفرانه؟ أيهما أساس للآخر: محبتنا أم غفرانه؟

قال الرب يسوع لسمعان الفريسي عندما كان في بيته، عن المرأة التي كانت خاطئة: “من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا” (لو7: 47).

هذه الآية تطرح العديد من الأسئلة: أيهما أسبق: محبتنا أم غفرانه؟ أيهما أساس للآخر: محبتنا أم غفرانه؟

ويبدو من الكلام كأن المسيح يقول لسمعان: لأنها أحبت كثيرًا أنا غفرت لها، لأنها عملت أنا غفرت. فهل استحقت الغفران لأنها أحبت؟ أو عملت؟ كلا وألف كلا فالحقيقة هي:

(أ) كل الكتاب يؤكد أن الخلاص بالنعمة بالإيمان:

فالله دائمًا هو المبادر وليس نحن، وكل عمل ليس ثمرًا للإيمان هو أعمال ميتة.

(أف 2: 8-10) “لأنكم بالنعمة مخلصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد”.

(أع 16: 31) “آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك”.

(رو 3: 24) “متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح”.

(رو4: 3) “وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يحسب له برًا”.

(ب) القرينة تؤكد أن الخلاص بالنعمة بالإيمان:

فالمثل الذي قدمه المسيح لسمعان في (ع 41 و42) يؤكد أن الغفران يسبق المحبة. “كان لمداين مديونان على الواحد خمس مئة دينار وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعًا. فقل: أيهما يكون أكثر حبًا له؟” فالسيد سامحهما أولًا وكان رد الفعل هو المحبة. فالسيد لم يسامح نتيجة المحبة، بل هو الحنَّان الغفور المتسامح لذلك سامحهما. ثم سأل سمعان: “أيهما يكون أكثر حبًا له؟ فقال: الذي سامحه بالأكثر”. فالغفران يسبق المحبة.

العبارة الرائعة التي هي هدف المثل كله هي التي قالها المسيح للمرأة: “إيمانك قد خلصك” لم يقل لها: “حبك قد خلصك” ولم يقل لها: “أعمالك قد خلصتك”. بالرغم من أن الحب هام جدًا والأعمال ضرورية لكنها هي نتيجة لاختبار الغفران وليست أساسه. ولم يقل لها: “محبتي قد خلصتك” فنحن لا نخلص بمحبته فهو “يحب كل العالم” (يو3: 16)، وهذا لا يعني أن العالم كله سيخلص.

ولم يقل لها: “قدرتي قد خلصتك” ولكن “إيمانك”.

فالإيمان هو اليد التي تمتد وتتناول من الرب، وكما يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه” (11: 6).

والرائع أن كلمة “خلصك” في اليونانية تعني أيضًا “شفاك” وكأن الخطية مرض وقد شُفيت منه وفعلًا هو أصعب مرض. وقد استخدم لوقا نفس الكلمة في حديثه عن الأبرص “قم وامض إيمانك قد خلصك” (لو 17: 19).

إن هذه المرأة أصلًا كانت قد سمعت المسيح من قبل وندمت على ما فعلت وقد تكون تابت أو قررت التوبة فهي لم تأتِ من فراغ لتفعل ما فعلت لكن كان هذا رد فعل لما سمعته وتأثرت به فكانت دموعها دموع الشكر.

وما يؤكد هذا ما قاله المسيح في الجزء الثاني من هذه الآية: “والذي يُغفر له قليل يُحب قليلًا”. فالحب رد فعل وليس سبب الغفران.

هذا إلى جانب أن الفعل “قد غُفرت” في اليونانية “ماض تام” ويقول د. كينيث بيلي: “إنها تعني أن المغفرة قد حصلت وتمت قبل هذه اللحظة”. ويضيف قائلًا: “يخطئ مَنْ يظن أن السيد غفر خطايا المرأة في تلك اللحظة. فواضح سواء من المثل الذي قدمه يسوع لسمعان أو التعليق عليه أن المحبة تأتي كرد فعل وحيد لنعمة أو هبة غير مستحقة مُنحت للشخص”.

ويضيف الأب متى المسكين قائلًا: “إن سؤال المسيح “أيهما يكون أكثر حبًا له؟” كان يجب أن يكون “مَنْ يشكر أكثر؟” فالشكر أكثر لياقة، ويضيف: “لكن لا يتعجب القارئ فلا يوجد فعل “الشكر” في العبرية والآرامية لذلك استخدم المسيح المحبة عوضًا عن الشكر”.

فبحسب الأب متى المسكين يكون السؤال: مَنْ يشكر أكثر؟ ويكون التعليق: “قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها شكرت كثيرًا”.

فما فعلته كان تعبير عن شكر حقيقي يملأ قلبها، ويضيف: “إن غنى غفرانه يسبق حقارة حبنا”.

– قلبها الممتلئ بالحب والشكر دفعها لتخاطر وتقتحم الموقف وتدخل بيت الفريسي.

– دفعها لتأتي بأغلى ما عندما قارورة الطيب التي كانت غالية الثمن وتكسرها عند قدمي المسيح.

– دفعها لتفك شعرها أغلى ما تمتلك وتمسح به دموعها التي تساقطت على قدمي السيد.

ويقول الأب متى المسكين: “نخرج بغنيمة من هذه القصة: ما اعتدنا عليه هو أن نقيس الغفران بالأعمال وهذه آفة التعليم الذي طوَّح بنا في مجاهل الجهاد الذي لا قيمة له بجوار المحبة.”

فالقصة التي أمامنا بصريح العبارة لزانية محترفة ضيعت عمرها في اللهو الحرام، امرأة فاجرة معروفة في المدينة. كانت امرأة الكل. وقد تابت ولا نعرف ظروف توبتها لكنها كانت تعرف المسيح وتابعت تحركاته. ونالت وسام الاستحقاق للخلاص من الطبقة الممتازة. لقد تزاملت مع اللص ونالت معه الخلاص بكلمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: إن كانت المحبة هي رد فعل الغفران فلماذا قال المسيح: “قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا”؟

في الحقيقة المشكلة تكمن في الكلمة اليونانية “لأنها” (OTI). فهذه الكلمة في اليونانية برهانية وليست سببية، لذلك كان يجب أن تُترجم:

“قد غُفرت خطاياها الكثيرة لذلك أحبت كثيرًا”. بدلًا من: “قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا”.

فالترجمة الأدق لكلمة (OTI): “لذلك” أو “بدليل”، فهي لا تعني السبب والعلة، بل “تقرر الحالة الراهنة”. ففي اللغة اليونانية الكلمة التي تفيد السبب والعلة هي “جار” أما المستعملة هنا فهي (OTI) “هوتي” وقد وردت في (لو 6: 24) “ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم (OTI) قد نلتم عزاءكم”. فالكلمة “لأنكم” هنا تفيد تقرير الحالة وليس السبب.

وهي ببساطة مثلما نقول: “فلان فرحان جدًا لأنه يضحك كثيرًا” فالضحك دليل وبرهان على أنه فرحان. كذلك المحبة دليل أنه نالت الغفران.

وقد أحسنت ترجمة كتاب الحياة في ترجمتها كالآتي:

(ك ح) “لهذا السبب أقول لك: إن خطاياها الكثيرة قد غُفرت، لهذا أحبت كثيرًا. ولكن الذي يُغفر له القليل، يُحب قليلًا!”

وستجد نفس المعنى في معظم التراجم الإنجليزية الآتية:

(NRSV, NIV, NABRE, NLT, EXB)

Her sins, which were many, have been forgiven; hence she has shown great love.

إن خطاياها التي كانت كثيرة، قد غُفرت، لذلك أظهرت محبة كبيرة.

(NCV) her many sins are forgiven, so showed great love.

قد غُفرت خطاياها الكثيرة لذلك أظهرت محبة كبيرة

(GNT) the great love she has shown proves that her many sins have been forgiven.

إن محبتها الكبيرة التي أظهرتها تبرهن على أن خطاياها الكثيرة قد غُفرت.

وأرجو أن تراجع الترجمات الإنجليزية الآتية وستجد نفس المعنى:

(NEB, NTE, TPT, CEB, ERV, EHV, GV, ICB, ISV, NOG)

في ضوء هذا التفسير نكتشف أن تعليق المسيح في عدد 47 كان عبارة صاروخية يوجهها المسيح لقلب سمعان لأكثر من سبب. فقد قال له: “من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة لذلك أحبت كثيرًا. والذي يُغفر له قليل يُجب قليلًا”.

1- “قد غُفرت خطاياها الكثيرة” بهذا أوضح لسمعان أنه ليس نبيًا فقط، بل وأعظم، فهو يعرف أنها كانت خاطئة، ويعرف ما هو أكثر، وهو ما كان يدور في ذهن سمعان. وأرجو أن تلاحظ الفرق بين بداية القصة ونهايتها: “لو كان هذا نبيًا لعلم من..” (ع 39) و”مَنْ هذا الذي يغفر خطايا أيضًا؟” (ع 46).

2- “قد غُفرت خطاياها الكثيرة لذلك أحبت كثيرًا”. فما تفعله يا سمعان هو فعل حب حقيقي وشكر قلبي صادق لأنها نالت الغفران. قد تتعجب يا سمعان لماذا تركت امرأة خاطئة تلمسني، هي لا تلمسني بقصد الإثارة، بل هي تعبِّر عن حبها وشكرها لأنها نالت الغفران. وأنت تحتاج إلى الغفران فلو كنت نلت الغفران لكان قد ظهر في حياتك وتصرفاتك معي.

3- قال لسمعان: “قد غُفرت خطاياها الكثيرة” لكنه لم يقل: “وقد غُفرت لك خطاياك القليلة”، وهذا يؤكد أن المسيح لم يكن يقصد أن خطاياه قليلة، بل ذكرها تمشيًا مع روح الفريسي الذي كان يظن أن خطاياه قليلة.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا