“المنبت الذي لا عِلْمًا قطع ولا أدبًا أبقى”… هكذا وصف “عباس العقاد” شخص ورحلة “سلامة موسى” الأدبية والفكرية: “إن سلامة موسى أثبت شيئًا هامًا؛ هو أنه غير عربي”، ومتهكمًا: “إن العلماء يحسبونه على الأدباء والأدباء يحسبونه على العلماء؛ لهذا فهو المنبت الذي لا عِلْمًا قطع ولا أدبًا أبقى”.. ولم تكف “مجلة الرسالة” عن مهاجمة سلامة موسى إلى حد وصفه بأنه الكاتب الذي يجيد اللاتينية أكثر من العربية، كما اتهمه مصطفى صادق الرافعي بأنه معادٍ للإسلام، أما إبراهيم عبد القادر المازني فوصفه بأنه دجال ومشعوذ!
قد تكون من بين الأسباب التي دعت إلى مهاجمة المفكر وفكره تبعية أطروحاته إلى تيار حداثي يكاد يركز طموحاته على العمل نحو تغيير البنية الفكرية والثقافية وتجديدها أساسًا للتحديث الشامل، وهذا التيار في معظمه عصري في الفترة التي شهدت تألق وتدفق خطاباته، حيث يرتبط بالمفاهيم والقيم الأساسية للحضارة العصرية. وهو لا يدعو إلى حضارة أخرى كما تصور مناهضو رسالته، وإنما كانت دعوته تذهب إلى ضرورة الذوبان في هذه الحضارة العصرية، والتماهي مع منتجاتها، والتفاعل الإيجابي مع كل جديد لصالح تنمية الذات والمجتمعات والأوطان، على ألا يكون أمر ذلك التفاعل على حساب خصائصنا الذاتية والقومية.
وهذا التوجه هو ما أكد عليه المفكر محمود أمين العالم عندما كتب كثيرًا حول الجهود التنويرية الكبيرة التي قام بها “شبلي شميل” و”فرح أنطون” و”إسماعيل مظهر” و”يعقوب صروف” وغيرهم..
كانت أفكار سلامة موسى على حد تعبير كامل الشناوي أشبه بمطرقة تقرع الرؤوس لتنبهها وتثير اهتمامها، وتنقلها من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة.
لقد مارس “سلامة موسى” الاشتباك في حروب وذهب إلى منازلات مع أشاوس، ولم تكن له من أغراض وأهداف سوى الدعوة إلى تحقيق طفرات حضارية، وتوفير معطيات توفير القدر المأمول من العدالة الاجتماعية، ووضع أسس بناء مجتمع الحرية والديمقراطية والوفرة والاندماج الوطني النبيل بين الناس، والعمل على نشر وإعمال التفكير العلمي والمبدع بعيدًا عن أهل الدجل من سكان أوطان الخرافة بعقلانية وحرية فكرية والتزام بكل قيم البحث العلمي الأخلاقية… وهو ما لا زلنا ننشده ونطالب به النظم والحكومات المتعاقبة حتى الآن في منطقتنا العربية .
ونحن بصدد تطبيق منظومة جديدة في إطار إصلاح التعليم، والنظر من جديد في أمر تطوير آليات النظم التربوية، أرى ضرورة إعداد وتقديم مناهج تربوية عبر عرض سير حياة رموزنا الوطنية في كل مجالات العطاء الوطني والفكري والثقافي والاجتماعي والإنساني لدعم قيم الانتماء والوطنية والإبداع الفكري المتجدد والتفكير العلمي والمنهجي .
لقد كانت فكرة ناجحة في هذا الاتجاه تدريس كتاب “الأيام” الذي يتضمن السيرة الذاتية لحياة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، باعتباره رمزًا إنسانيًا رائعًا للنضال وتجاوز الصعاب، وصاحب رؤية وحلم وامتلاك عزيمة لا تلين لتحقيق معالم متكاملة لذلك الحلم وتلك الرؤية للتطبيق وتقديم النموذج الوطني المتكامل للأجيال التالية.
وأرى أن كتاب “تربية سلامة موسى” هو الآخر ينبغي الالتفات إليه ونحن بصدد وضع آليات دعم النظم التربوية الجديدة، وذلك لما يطرحه من رؤى وأفكار ومثاليات وقيم صالحة لكل عصر للتطبيق والانتفاع بها .
وعن الكتاب يقول الكاتب “وديع فلسطين”: “ما قرأتُ في اللغة العربية سيرةً كتبها صاحبها عن نفسه فحالفه فيها توفيق، كالتوفيق الذي أصابه الأستاذ سلامة موسى لما سجل أخيرًا سيرته وأصدرها في كتاب عنوانه (تربية سلامة موسى). فهو كتاب أصيل فريد يمتاز بالصدق والإخلاص، ويبسط آراء الكاتب وانفعالاته وما استثاره من أحداث، وما استفزه على التفكير، ويرد لأساتذته المفكرين دينًا، ويرشد أبناء الجيل الجديد إلى وسائل الكفاح الذهني وطرق التجاوب بين الإنسان والمجتمع الذي يحيط به “.
ويضيف “فلسطين”: “وبعد، فهذا كتاب تلوته مرتين وأرجو أن أتلوه مرتين أخريين على القليل، فقد شغل تفكيري ونشط حواسي وأنهض عزيمتي وأرشدني إلى آفاق كان حريًا ألا أقف عليها. كتاب بدَّل عندي قيم الأشياء وجعلني أستعير من الطفل رغبته الدائمة في الاستطلاع وإلحاحه المستمر في الاستفهام والسؤال. وكأني بالأستاذ سلامة موسى يريد أن يقول لقرائه: كونوا كونيين… افتحوا أذهانكم لكل جديد… لا تعيشوا بعيدًا عن الواقع… انهلوا من موارد المعرفة غزيرًا… قاوموا السلفية والتأخرية والجمود… تعصبوا للبشرية عامة… آمنوا فبغير الإيمان لا يكون للحياة معنى… اطلبوا مزيدًا من الحياة لتزدادوا ثقافة واتساع فكر “.
في مجال تقديره لأهمية البحث العلمي وإعمال العقل، يؤكد “سلامة موسى” على أننا نحتاج إلى ثقافة علمية تعم الشعب حتى يترك غيبياته وينزل على قوانين المادة في الزراعة والصحة والصناعة، حتى تعمه العقلانية العلمية، فيحل مشكلات الزواج والطلاق والعائلة والجريمة والتربية والسياسة بأساليب العلم، وليس وفقًا وخضوعًا للتقاليد والعقائد …
ويستطرد قائلًا: “وهذه النزعة العلمية في الشعب هي التي تحفز على التخصص العلمي، وعلى مكافأة العلميين، والاستماع لهم في نصائحهم وتوصياتهم بشأن الارتقاء المادي لبلادنا.” وهذا الارتقاء المادي -كان في نظره- أساس الارتقاء الاجتماعي والثقافي والفني. لم يطلب سلامة موسى، إذن، العلم من أجل العلم، بل كان هدفه هو تحويل العلم إلى ثقافة، وكان همه أن تكون هذه الثقافة جماهيرية.
والكتاب في النهاية هو ترجمة حياة الكاتب المصري والباحث الاجتماعي سلامة موسى بقلمه نفسه وترجمة الحياة التي يكتبها الكاتب لنفسه، كانت في زمنه فن غير مألوف كثيرًا بين الكتابات في الأدب العربي الحديث.
وفي تعليقات القراء على فحوى الكتاب، قال أحدهم: “كيف لإنسان في التاسعة عشرة من عمره أن يدرك تملك الخرافة من عقول مجتمعه ويقرر أن يسافر ليتعلم أكثر عن نظرية التطور والاشتراكية والتفكير العلمي المنطقي، لينقله إلى مجتمعه”، وقارئ آخر يؤكد: “سلامة موسى كان كاتبًا يكتب للبشرية والمستقبل عندما كان هناك كُتَّاب نظنهم كبارًا يكتبون عن الماضي وعن عظمة الحاكم. إبداع خالص وسرد للسيرة الذاتية كما يجب أن تكون. سلامة موسى كان قادرًا على نقلي إلى عصره بشكل عبقري، فالكاتب يسرد قصته من خلال أحداث العصر والفترة التي عاشها، وتجارب الآخرين، وصلتها بتجاربه الشخصية، والصراعات والصدامات التي أدّت إلى نموه الفكري، ونهمه غير الطبيعي للقراءة والمعرفة والعلم.”