تتناول السطور الراهنة عرضًا موجزًا لأبعاد وملامح الشهود والحضور الاجتماعي لفكر الدكتور طه حسين؛ في كتاباته الإبداعية القصصية تحديدًا روايته “دعاء الكروان”، والطرح الفكري المتمثل في كتاباته التنويرية ذات الصبغة التعليمية؛ كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” أنموذجًا، محاولة تفسير منتج طه حسين الاجتماعي واستقراء روافده، وصولاً إلى تحديد أبرز الخصائص الاجتماعية التي طرحها طه حسين، والتي سعى إلى تدشينها ومن ثم تمكينها في سياقات ثقافية مختلفة.
ـ مفتتح التفاصيل:
حينما يذكر اسم طه حسين، فأنت أمام حقيقة تمثل أوبرا ثقافية متنوعة ومقهى حكائي يعد رافدًا لكل الأدباء والمفكرين الذين جاءوا من بعده، ومن الصعب محاولة تصنيف أدب وفكر العميد الدكتور طه حسين وفق هوس وهوى النقاد بحمى التصنيف وقولبة الإبداع، فأنت أمام عالم مزدحم بغير ملل أو صخب حكائي بالأحداث والوقائع الجدلية، هذه الأحداث وإن بدت بسيطة في بعض الأحايين إلا أن كل حدث منها يفجر طاقات من الأسئلة المثيرة التي تستدعي التفكير ولا تجعل العقل بمأمن عن التأويل والتفسير. حقًا مجموعة ضخمة من الأعمال الفكرية والأدبية وحياة إنسانية واجتماعية تمثل مغارة من الأسئلة التي يصعب تصنيف كاتبها تحت مظلة قاصرة مانعة.
لذا فطه حسين هو بحق مزار سياحي يستقطب المعارضين قبل المؤيدين وهو مؤسسة شعبية أدبية تنصر بداخلها كافة التيارات الأدبية بغير انحناء أو محاولة انهزام داخلية. وإذا كانت كتابات وأعمال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قد حققت ولا تزال الشهرة والصيت وبلوغ المأرب من حيث جودتها ورصانتها وإثارتها لأسئلة سابرة تغوص في المجتمع، فإن عميد الأدب العربي نفسه يشبه الحكاية، بل قلما نجد أديبًا ومفكرًا صار الاهتمام بشخصه مثل الوعي بأعماله وهذا تحقق بالفعل لطه حسين كما تحقق لكتاب آخرين مثل نجيب محفوظ، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس.
(1) طه حسين.. مِن عزبة الكيلو إلى القاهرة المحروسة:
طه حسين ابن المنيا تحديدًا عزبة الكيلو التي تقع على بعد كيلو متر واحد من مركز مغاغة بمحافظة المنيا، والتي ولد فيه في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889، لأب هو الشيخ حسين علي سلامة الموظف بشركة السكر، وقد أصيب طه حسين في حوالي السادسة من عمره تقريبًا بمرض الرمد، فلم يهتم أهله بعلاجه في بادئ الأمر، ثم عولج علاجًا بدائيًا ذهب بعينيه. وكانت عادة أهل الريف آنذاك إلحاق أبنائهم بالكتاتيب، وفي كتابه الماتع الرائع الأيام يحكي ويروي طه حسين حكاياته المثيرة في عالمه الثقافي الصغير الأول وهو الكُتاب والتي كثيرًا ما تم توصيفها بقدر كبير من الدهشة والمبالغة وأحيانًا السخرية فهو الثائر الذي لا يهدأ، والصبي الذي كف بصره، لكن انفتح عقله منذ الصغر بالنقد والتأويل والمعارضة.
ولا شك أن بدايات القرية قد أثرت بشكل كبير في عالم طه حسين فيما بعد، فلقد روى في كتابه الأيام الذي يعد من درر الأدب الحكائي على مر عصوره العربية جلسات القرية المسائية التي كانت تجمع أهل قريته حول راوي العصر وقتئذ وهو شاعر الربابة الذي كان يقص على مسامعهم سيرة عنترة بن شداد، وأخبار سيرة بني هلال، وغيرها وما شد وجذب انتباه الصبي طه حسين هو قدر المهابة التي كان يحظى بها أولئك الذين يغدون ويروحون إلى القاهرة للقرية ذهابًا وإيابًا مما جعله مفتونًا منذ صغره بعالم سحري هو القاهرة. ولا شك أن تلك الجلسات الثقافية الشعبية والحكايات التي استمع إليها وهو صغير شكلت ملمحًا مهمًا أصبحت بعد ذلك رافدًا مهمًا وخصبًا من روافد تكوين طه حسين الإبداعية. ومما ساهم في خلق التكوين الثقافي لطه حسين حفظه للكثير من الأوراد والأدعية التي كان يسمعها، كذلك الكثير من الابتهالات الصوفية التي كانت تنشد في هذا العهد.
وما أن جاء طه حسين إلى القاهرة ليكمل تعليمه مع أخيه الأكبر أحمد في الأزهر الشريف حتى بدأت المرحلة الثانية والأكثر أهمية في حياة العميد والتي أكسبته بقدر الجانب الثقافي والعلمي خصائص نفسية أبرزها حب الاستطلاع والفضول الاستكشافي والقدرة على تحمل المشقة والصعاب، وعلمته هذه الفترة العناد بغير فجور والثورة الفكرية.
ولا شك أن مرحلة الأزهر الشريف ومكوثه لأول مرة بالقاهرة العامرة هي التي فجرت طاقات الثورة الذهنية عند طه حسين، ولعل سر إعجابه بالشيخ المرصفي معلمه الأول بالأزهر كان مفاده أنه أطلق لحريته وحرية زملائه النقدية العنان، وفك قيود الرتابة التعليمية لديهم عن طريق إثارة الأسئلة أو ما يعرف الآن بمصطلح العصف الذهني وإمطار الدماغ، وهي تلك الملازمة العلمية التي أكسبت طه حسين قدرًا كبيرًا من الجرأة في النقد والحرية المطلقة في إبداء الرأي العلمي بغير حرج.
وجدال طه حسين من شيوخه بهذه الفترة أكسبته الجرأة في الجهر برأيه مهما كانت النتيجة، ونمى ما كان مركبًا فيه من استعداد للعناد والتحدي، كما يلوح في الجزء الثاني من الأيام من مساجلات بينه وبين شيوخه بالأزهر الشريف وهي المساجلات التي شكلت اتجاهه الفكري صوب الجديد والقديم في الطرح الفكري العربي.
(2) الجامعة ومرحلة التنور الثقافي في حياة العميد
في الجامعة اختلفت حياة طه حسين ابن المنيا اختلافًا كبيرًا، فتعرف على عالم متباين عما شاهده وعاينه بالقرية والأزهر الشريف، وربما ضيقه بالدراسة في الأزهر هو الذي دفعه إلى النهل من روافد العلوم المدنية والتي برع فيها بقدر براعته وتميزه في العلوم الدينة لاسيما السيرة والتراجم، ولعل استماعه لدروس الحضارة المصرية القديمة، والحضارة الإسلامية، وأدبيات الجغرافيا والتاريخ، وفي اللغات السامية، وتاريخ الفلك عند العرب، ثم تاريخ الفلسفة وعصورها، هو الذي أكسبه التنوير الذي صار بعد ذلك علمًا رائدًا له لعقود طويلة.
وفي الجامعة أتيح لطه حسين أن يتعلم على أيدي أساتذة متميزين لهم مقام رفيع في العلم والمعرفة وهؤلاء شكلوا إطارًا فكريًا وثقافيًا جديدًا لطه حسين بجانب الثقافة التي نهلها من القرية ثم الأزهر. ومن هؤلاء الأستاذة أحمد زكي باشا، وأجناسيو جويدي، ونللينو، وسانتلانا، ولوي كليمان الذي درس له الأدب الفرنسي، وكان لقاؤه بأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد هو مرحلة التحول الكبيرة في حياة العميد طه حسين، وصاحب الريادة في انفتاحه على ثقافات أخرى جديدة وبيئات فكرية متنوعة.
وفي الجامعة، كان طه حسين صاحب أول رسالة للدكتوراه ناقشها يوم الثلاثاء الخامس من مايو 1914، عن أطروحة علمية في تاريخ أبي العلاء المعري، وبعد مناقشة ساخنة يمكن توصيفها بالمضطربة أيضًا تم منحه درجة جيد جدًا في الرسالة ودرجة فائق في الجغرافيا ودرجة فائق في الروح الدينية عند الخوارج.
(3) في فرنسا.. تميز ونبوغ:
وبحصول طه حسين على درجة الدكتوراه تقدم بطلب بغرض إيفاده لبعثة للخارج، عزمت الجامعة إرسالها إلى أوروبا، لكن تعذر السفر بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم سافر بعد ذلك إلى مونبلييه واهتم هناك بدراسة اللغة الفرنسية وآدابها، وحصل على الليسانس في الآداب من السوربون عام 1917، وفي يناير من عام 1918 ناقش أطروحته للدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية وحصل على مرتبة الشرف الممتازة مع تهنئة لجنة الحكم والمناقشة. وهو الأمر الذي حفزه للحصول على دبلوم الدراسات العليا في تاريخ القانون المدني الروماني في يونيو 1919 بتقدير ممتاز.
(4) إلى مصر الجميلة:
ثم عاد طه حسين إلى مصر ليصير أستاذًا للتاريخ القديم، وعين بعد ذلك أستاذًا لتاريخ الأدب العربي الذي نبغ فيه وتفرد وأبدع كتبًا ومئات المقالات الصحفية في هذا الميدان، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة أخرى في حياة العميد وهي مرحلة الإنتاج والإبداع الفكري والأدبي، وفي هذه الفترة الخصبة من حياة طه حسين انخرط في العمل السياسي وكذلك العمل الاجتماعي التنموي من خلال إلقائه العشرات من الندوات والمحاضرات خارج الجامعة مثل الجمعية الملكية الجغرافية، واستطاع طه حسين فور عودته أن يحجز لنفسه مكانًا ومكانة بين أهل الثقافة والمعرفة بصورة رسمية وغير رسمية، فلقد مثل مصر في مؤتمر المستشرقين بأكسفورد، وآخر في فيينا، وثالث في مؤتمر الآثار السورية في بيروت، ورابع في ليدن، وخامس في الاحتفال المئوي الرابع لكلية دي فرانس، ورغم هذه الفترة التي كان طابعها العام السفر المستدام إلا أن عطاءه الفكري لم يتوقف أو ينضب بل استطاع أن يؤلف أبرز وأهم كتبه على الإطلاق مثل كتابه المشكل في الشعر الجاهلي، الذي لا يزال يحدث صخبًا نقاشيًا وجدالًا واسعًا حتى لحظتنا الراهنة.
(5) طه حسين وتطوير التعليم المصري:
رغم أن هذه السطور القليلة لا تفي حجم ومكانة عميد الأدب العربي وما هي إلا إطلالة سريعة جدًا على سيرة ومسيرة هو بطلها، إلا أنه بات من الضروري التأكيد على الدور التعليمي والتنويري الذي لعبه طه حسين في المشهد التعليمي، والذي لازلنا نطبق أفكاره ورؤاه واجتهاداته التربوية حتى الآن. فكما يذكر الأستاذ الدكتور مصطفى رجب صاحب أفضل كتاب عن فكر طه حسين والمعنون بفكر طه حسين التربوي بين النظرية والتطبيق، أن فكره التربوي يمثل حلقة متميزة في تطور الفكر التربوي في مصر خلال القرن العشرين بأكمله.
ويمكننا أن نضيف بأن طه حسين باجتهاداته التربوية شكل بوصلة التعليم في هذا الوقت والعصر، ولعل براعته الأدبية هي التي مكنته من معالجة القضايا التعليمية بقدر من المرونة والتوفيق، وجل هدف طه حسين التعليمي هو التنوير وتثوير العقول وتنقية الأذهان من الضلالات الفكرية والثقافية التي كانت سائدة، وسعى لأن تكون لمصر نهضة ثقافية تمثل النواة للنهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد ذلك. ويمكن تحديد السمات العامة للفكر التعليمي والتربوي النهضي لطه حسين في سمتين رئيستين هما الديموقراطية، والحرية.
ولا شك أن قضية الديموقراطية قد شغلت إنسانًا كطه حسين فتناولها في كثير من كتابته وجعلها منهجًا نقديًا يمكن تناول التاريخ الإسلامي في ضوئه، وهو المنهج الذي اتبعه في كتبه الفتنة الكبرى بجزئيها والشيخان، ورغم أن الديمقراطية في أساسها تضمين سياسي إلا أن طه حسين استطاع أن يستغل هذا المنحى في سياقه التعليمي الأمر الذي جعله يعلن شعاره الخالد بأن التعليم كالماء والهواء وأنه حق لكل إنسان. ورغم مناداته بذلك إلا أنه واجه حربًا شرسة شنها عليه رجال التعليم آنذاك.
وليس بغريب على شخص كطه حسين أن ينادي بمبدأ الحرية وهو الطفل المحروم من التدليل والرفاهية، والطالب العاجز المقهور بالأزهر، وحبيس الثقافة العربية بالقارة الأوروبية، فأخذ على عاتقه المناداة المستدامة بالحرية التعليمية وإتاحة الفرص التعليمية المختلفة لأبناء الشعب المصري بقصد التنوير. وتلك الحرية الفكرية هي التي دفعته على المستوى الشخصي لينهل من كل روافد الثقافة وتياراتها المتباينة بغير خجل ويقول في ذلك بإن الحرية لا تستقيم مع الجهل والتعليم أصبح ضرورة لا رفاهية، ويكفي أن نقول بإن التعليم الجامعي قد لقي على يدي العميد النابغة كثيرًا من التطوير والتنظيم الذي كان يهدف لتحقيق مزيد من الحرية والاستقلال.
6- ملامح الشهود الاجتماعي.. قراءة في الطرح التنويري:
قد لا تشغلنا أبدًا إحداثيات روافد فكر طه حسين التنويري، بينما ينشغل آخرون باللهاث واللحاق بتفاصيل الذكريات التي بدت مكرورة وأحيانًا أخرى رتيبة مهملة الاهتمام، والأخطر أننا أيضًا نجد أنفسنا مبتعدين تمامًا عن الانشغال بالكتابات النقدية التي تحمل انطباعات طبيعية شخصية ذات دلالة وانعكاس بتكوين طه حسين الاجتماعي، وربما من وجهة نظرنا تميل أكثر إلى المقاربات النقدية للأدب والأدب المقارن تحديدًا.
لكن يظل الجانب الاجتماعي في الطرح الفكري لطه حسين يمثل ثورة تنويرية وعتبة فارقة في طريق تجديد الفكر العربي الحديث والمعاصر بل والراهن أيضًا خصوصًا وأنه واجه بكتاباته مجتمعات ساكنة، بدا ذلك في طروحاته الفكرية وليست الأدبية حينما ناقش بالدرس والتحليل والتفسير والتأويل الشعر العربي القديم، والفكر القروي والصورة الذهنية لساطني المدينة، ولا يعنينا كيف يجب أن تُفهم ثورة طه حسين ضد الأزهر أو الشعر الجاهلي أو عريف القرية أو حتى أهله ووالده المتيم بقراءة دلائل الخيرات بل بما تم عن ذلك من منتج فكري تداوله القراء والنقاد.
فهو نفسه -طه حسين- كما يذكر سامح كريم وسهير القلماوي كان يضيق ذرعًا أحيانًا بتأويل سيرته الذاتية ومحاولات النقاد المريضة فكريًا ونفسيًا وأيديولوجيًا كذلك في اقتناص رغبات غير مشروعة لم يقر بها صاحبها الحقيقي، لكن مشكلة كبار نقاد السير الذاتية والأدب عمومًا أنهم يفرضون التاريخ منهجًا صارمًا في القراءة والتفسير.
لكن أهم أبعاد الطرح الاجتماعي الذي نبغيه مقصدًا في اقتناص فكر طه حسين التنويري هو مسارات الفكر الاجتماعي نفسه، واعتنائه الشديد بالطرائق اللغوية والأشكال الإبداعية والنقدية في جعل فكره الاجتماعي طرحًا إصلاحيًا ؛ نتلمس ذلك تحديدًا في مقالاته السياسية المباشرة، وأعماله القصصية الأدبية، والإسقاط التاريخي المتعمد في كتاباته النثرية الأخرى.
ولا يبدو مهم لدي تعقب جذور الفكر الاجتماعي عند طه حسين والمتمثل في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، أو التفسير الاجتماعي للوقائع التاريخية، بل نعرات الإصلاح الوطني الذي يبدأ من التكافل والتضامن الذي قصده طوعًا بصورة مستدامة في كتاباته لاسيما الكتاب الأميز “مستقبل الثقافة في مصر”، كذلك كتابه “بين بين”.
وأهم أبعاد الفكر الاجتماعي عند طه حسين هو تصديه القوي العنيف للعوامل الهدامة في المجتمع المصري كالجهل والتخلف والمرض وكل هذه الإحداثيات رصدها جميعها في رواياته.
كذلك مطالبته المستدامة بإلغاء الفروق بين الطبقات والذي وجدناه منثورًا في روايته “دعاء الكروان”، وقضية ديمقراطية التعليم ونشره في رواية “أحلام شهرزاد”، وأخيرًا قضية تعطيل العدل الاجتماعي التي عبر عنها في صورة إبداعية تمثلت في قصة “أحلام شهرزاد”.
لكن يبقى أثر طه حسين الخالد متمثلاً في كتابه الفريد “مستقبل الثقافة في مصر” والذي تحدث فيه عن سياسات إصلاح التعليم، وعرض مرتكزًا قويًا ومعلمًا مرجعيًا رصينًا لهذا الإصلاح تمثل في الفلسفة الديمقراطية، وحرصه الدائم على تأكيد حقيقة أن التعليم دعامة أولى لبناء الوطن.
في المقال القادم نتناول بالتفصيل فتنة السرد وطه حسين، وكيف طور طه حسين مفهوم السرد.. دعاء الكرون نموذجًا.