حقاً غريبة يا مصر. لقد جُمعت فيك كل المتناقضات والمتنافرات في زمان ومكان واحد، فأنت عريقة في أصلك عراقة التاريخ والماضي والزمان، لكن يبدو أن جذورك قد قلعت من الأرض، ولم يبق منها سوى فروع هشة لن تصمد في وجه الرياح العاصفة.
ومع أنك مركز وقلب العالم إلا إنك أبعد ما تكونين عن ما يجري به، فمن يستمع إلي نبض قلبك ويرى ما يحدث بك يعلم أنك نمت في سبات يشبه سبات أهل الكهف فبينما العالم يتحدث عن التكنولوجيا والتقدم ما زلت تنشغلين بأحداث وقضايا عفى عليها الزمان، العالم يتصارع للتأثير علي الجينات الوراثية لاستنساخ الحيونات والبشر إن استطاعوا لذلك سبيلاً، وأنت منهمكة في مناقشات رضاع الكبير والصغير، العالم يلهث وراء علاج البشر بالليزر والإشعاع الذري والنووي وأنت مازلت تقفين عند بول البعير إذا ما كان يصلح للشفاء والعلاج، المعجزات العلمية تحدث بأسرع من الخيال وأنت مازلت تحلمين بمعجزات تدعين حدوثها في جلسات الزار وطاسة الخضة وغيرها. العالم يعمل ويخترع ويطور ويتقدم وأولادك يتحاورون ويتناقشون ويتراشقون بالألفاظ والحوارات والاتهامات، العالم يدرس مشاكله، يسعى للحلول، يتمسك بالحسن، وأنت حتى إن عرفت مشاكلك، ودق ناقوس الخطر حتى يخترق آذان الأصم فأنت لا تسمعينه، لا تتعلمين من ماضيك وحاضرك، جرحك يبدو عديم الشفاء.
تذكرت عدة مشاكل تجتاح مصر والوطن العربي اليوم، وتأملت كيف يتعامل معها الأفراد والحكومات، ولعل أهم هذه المشاكل التي تنذر وتحذر بعاصفة مؤكدة قائمة هي مشكلة المتنصرين، أي الذين اعتنقوا المسيحية من الأديان الأخرى وخاصة من المسلمين، والمشكلة ليست جديدة فهي منذ مئات السنين قائمة، الجديد في المشكلة هو زيادة عدد المتنصرين بدرجة كبيرة والتقدم في تكنولوجيا المعرفة والاتصالات. مسلم يهتدي ويقتنع ويقبل شخص المسيح تبارك اسمه كمخلص وفاد له، ويؤمن إيماناً قلبياً أنه ينبغي أن يكون من أتباع السيد المسيح يسوع المكتوب عنه في التوراة والإنجيل أنه يخلص شعبه من خطاياهم، يظل في صراع لشهور وقد يمتد لأعوام ماذا يفعل، هل يعلن عن إيمانه الجديد أم يعيش في الداخل مسيحياً وفي الخارج مسلماً؟ إن أعلن عن إيمانه الجديد فلن يجد له من أنصار، عائلته تبغضه وتتبرأ منه بل وتحاول نصحه وإرشاده، ثم ضربه وعقابه، وإذا تطور الأمر فقد يصل إلى قتله بعد حسابه، والأبشع والأفظع إذا كانت أنثى هي التي اعتنقت المسيحية.
الكنيسة في جبنها وسيطرة روح الخوف عليها ترفضه وتخذله وتبعده عنها بكل الطرق، الأمن يتتبعه، فمع أن الشرطة وضعت لحماية المواطنين وليس هناك قانون أو شرع يقول أن مثل ذلك الشخص ينبغي القبض عليه وتعذيبه إلا أن الواقع أنه يحدث عكس ذلك، وكلنا يعرف القصص والحكايات التي تبيض لها شعور رؤوس الأجنة في بطون أمهاتها، فيختفي البعض وراء أسمائهم غير المسيحية التي لا يمكن تغييرها، ويرجع البعض القليل إلى الدين القديم مرغماً رافضاً لكل ما هو روحي أو ديني في كل الأديان، وتسبح القلة القليلة ضد التيار كما فعل محمد حجازي، وأخيراً ماهر المعتصم بالله وابنته. فالقانون الوضعي ووفقاً للدستور ليس به ما يعاقب به المتنصر أو يمنعه من إثبات ديانته وهويته وإيمانه الجديد في بطاقته، وأيضاً القانون والدستور ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع والحكم في أية قضية. فالقاضي الحاكم في هذه القضايا إما أن يكون مؤمناً أن الشريعة هي ما لابد أن يحكم بها فلا مجال للاعتراف بأحقية المتنصر للدخول في الدين الآخر، وإما أنه يخاف ردود الأفعال المختلفة من الهيئات والمؤسسات الدينية المعترف بها في الدولة والمحظورة أيضاً، فيعمل بقانون مصري وضع للتخلص من تبعات حل المشاكل وهو أن “الباب اللي يجي منه الريح سده واستريح” ولم نر قاضياً واحداً أنصف متنصراً في أية قضية حتى الآن، لكن رأينا من يجبر المسيحيين الأطفال على تغيير دينهم والعيش مع أبيهم في الإسلام.
مجلس الشعب لا يناقش هذه المشاكل لأنها ليست ذات أهمية في عرف أعضائه، فالغالبية العظمى فيهم من أولياء الله الصالحين الذين لا يكترثون بالأمر، ففي النهاية المتنصرون هم قلة وهم إخوان الشياطين في عرفهم، يتناسون أن مشكلة المتنصر في مصر ليست سهلة بسيطة تخص مجموعة خارجين على الدين بل هي مشكلة مجتمع يتخبط بين قوانين متناقضة ومواد في الدستور متضاربة واحتقان في الصدور متزايد يهدد الوطن كله بما لا تحمد عقباه، ويصور المحروسة وكأنها جماعة من الغوغاء يأكل بعضهم بعضاً فتهتز العلاقات الدولية وتتأثر الموارد المادية وتتفاقم الأمراض الاجتماعية وتزداد المقاومة الشعبية في الداخل والخارج، تزداد الجرائم والاعتداءات على الكنائس والتجمعات، تلهب الأخبار قرائح رجال الدين من الجانبين، تزداد الفضائيات في الحديث المباشر عن ما تراه من أخطاء (في وجهة نظرها) في الإسلام والمسلمين، يرد الفقهاء والمشايخ وأساتذة الجامعات بما يرونه من أخطاء (من وجهة نظرهم) في المسيحية والمسيحيين، يتحدى كل منهم الآخر إن استطاع أن يرد ويجيب على أسئلته، تظل الحرب بين الطرفين ولا يعلم إلا القدير متى ستنتهي.
الحكومة تقف موقف المتفرج: دعهم يختلفون، دعهم يتصارعون، فهذا الصراع منذ القديم، لا مانع من حدوث بعض الأحداث الصغيرة المتفرقة، فهذه من شأنها أن تلهي العالم عن نقائصهم واحتياجاتهم، الصراع حول الدين دائماً يطغي على كل صراع آخر، لابد من الصراع حتى تسير القافلة.
ننسى أن هذا الصراع يخلق جيلاً من المعوقين نفسياً، ومادياً، واجتماعياً، يصبح معه اللعب بالعقول سهلاً وتعم المأساة على الجميع.
لابد أن ينتبه كل من الكنيسة والأزهر والأمن والقضاء لقضية المتنصرين في مصر والعالم العربي، فعلى الكنيسة أن تحدد موقفها منهم ومن قضاياهم دون خوف أو مجاملة أو إذعان لترغيب أو ترهيب لأنه ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس. على الكنيسة أن تعلم المتنصرين أساسيات الإيمان المسيحي وترعاهم بعد التأكد من إيمانهم وثباتهم في المسيح وأن تدافع عنهم وتحميهم وتطالب بحقوقهم، فما مات حق وراءه مطالب، وعلى الأزهر أيضاً تحديد موقفه من هذه القضية، ماذا يقول الشرع في هذا، فما نسمعه من فتاوي في هذه الأيام يبدو أنه متضارب مضطرب غير مستقر على رأي واحد. على القضاء المصري أن يضع لهذه المشكلة قوانين ثابتة واضحة تطبق على الجميع في مسألة تغيير الدين أو الملة، وأن يلتزم بتطبيق هذه القوانين. على الأمن أن يحمي الرعايا المصريين المتنصرين من التعذيب والاضطهاد والملاحقة والتمكين من تنفيذ القانون العادل المنشود. على المتنصرين المطالبة بحقوقهم والتصدي السلمي لكل المحاولات الهادفة إلى تدميرهم. لابد من التضامن والتضافر لحل هذه المشكلة فدوام الحال من المحال، حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً.