نحتفل هذه الأيام بنهاية عام وبداية عام جديدة ونحتفل أيضًا بعيد الميلاد المجيد؛ نحتفل بأعظم قصة حب في تاريخ الإنسانية، أقصد التجسد الإلهي. التجسد هو قصة إنقاذ البشرية من المصير الأسود الذي كان ينتظرها؛ التجسد هو الفصل الأول في قصة الحب الذي بدأ في مزود بيت لحم، وهي قصة بدأت من الأزل في فكر الله، واكتملت فصول القصة على صليب الجلجثة.
التجسد الإلهي، عمانوئيل، الله معنا، الكلمة صار (اتخذ) جسدًا … وكما يقول أثناسيوس فإن هذا لا يعني أن الكلمة لم يعد الكلمة، وإنما يعني أن الكلمة هو دائمًا الكلمة حتى عندما اتخذ لذاته جسدًا وفيه قَبِلَ الآلام والموت، أي في صورة البشرية… وأعلن بذلك أن له لحمًا وعظامًا ونفسًا بإعلان جسده الذي لم ينفصل عنه والذي أخذه من نسل داود كما هو مكتوب.
وعظمة وسمو التجسد ليسا فقط أن الله أخذ جسدًا بل أنه رغم أنه أخذ جسدًا لم يكف عن أن يكون الله.
والتجسد الإلهي عقيدة أساسية ومركزية في الإيمان المسيحي، تنبأ بها أنبياء العهد القديم قبل مجيء المسيح بمئات السنين: “ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل” (إش 7: 14). وحددت النبوات مكان ميلاده: “أما أنتِ يا بيت لحم أفراتة، وأنتِ صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل” (مي 5: 2).
“في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله … والكلمة صار جسدًا بيننا، ورأينا مجده” (يو 1: 1-2، 7).
والتجسد معناها أن غير المنظور صار منظورًا، وغير المحسوس صار ملموسًا، ومَنْ هو بغير جسد صار له جسد حقيقي.
في التجسد نرى تحقيق مواعيد الله: “وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنتِ تسحقين عقبه” (تك 3: 15)، “لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام” (إش 9: 6).
في التجسد إعلان للآب: “الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خَبَّرَ” (يو 1: 18).
أخذ المسيح جسدًا إنسان ليحيا كل حياة الإنسان ما خلا الخطية حتى يصبح رئيسًا للكهنة (عب 2: 17- 18): “ومن ثَمَّ كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء لكي يكون رحيمًا ورئيس كهنة أمينًا في ما لله حتى يكفر خطايا الشعب لأنه في ما هو قد تألم مجربًا يقدر أن يعين المجربين.”
في التجسد أُبطلت الخطية (عب 9: 26): “ليبطل الخطية بذبيحة نفسه”، “لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت 10: 45).
في التجسد أخذ وليس ترك (في 2: 5-8): “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا الذي إذ كان في صورة الله لم يَحسب خُلسةً أن يكون معادلًا لله لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائًرًا في شبه الناس وإذ وُجِد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب.”
التجسد لا يعني تنازل المسيح عن صفاته الإلوهية لكنه اختياريًا لم يمارس بعضها حتى يتحد مع الإنسان. يقول اللاهوتي والفورد: “يمكن فهم إخلاء النفس بطريقة صحيحة على أنه يعني أن المسيح لم يتنازل عن صفاته كالله لكنه حدد طواعية الاستخدام المطلق لتلك الصفات حتى تتماشى مع قصده من المعيشة بين البشر وسط تقصيراتهم وعجزهم.
التجسد لا يعني تحيز اللاهوت في الجسد لأن اللاهوت مالئ الكل، لا يخلو منه مكان ولا زمان مثل العليقة التي تتوقد بالنار ولا تحترق. المسيح لم يتحد مع شخص بشري بل مع طبيعة بشرية.
التجسد ليس هو تحول اللاهوت إلى ناسوت أو تحيز أو تعرض لأي تطور أو تغير، هو اتحاد يسمح باستمرار الطبيعة اللاهوتية بدون تأثر والطبيعة الناسوتية بدون تغيُّر، وظهور خصائص طبيعة لا يعني عدم وجود خصائص الطبيعة الأخرى. لا يجوز أن يثبت أحدهم أن الإنسان لا يملك يدين لأنه يمشي على قدمين.”
التجسد سر عظيم.. “عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد.”
أرفع صلواتي ودعائي أن يفتح الله عيوننا لنفهم هذا السر العظيم، وكل عام وحضراتكم بخير.
مقال جميل اشكر معاليك