ظلام في تمدد أم خلاص في اتساع؟

18

أشرف ونيس

لم يكن سطوعًا للضياء بل كان انبثاقًا للظلمة، لم يكن انبساطًا لأشعة إحدى النجوم المتوهجة التي ترسل أذرعها الذهبية إلى أرضنا بل كان بقايا نور يبحث عن موضع للاختباء، مفسحًا مجالًا لانقشاع السنا واللمعان، تاركًا مآلًا وقصدًا لعتمة الليل البهيم الذي تمدد بأرجائه إلى ما لانهاية له أو حد أو قرار!!!

كنا نحسبه ظلامًا دون غيره، لكنها يد قدرية قد عبثت بأحرف الكلمة -ظلام- واستخرجت منها ظلامًا دون «ألف أ» فكان ظلمًا، وكان عليه أن ينتهج نهج سلفه –الظلام– ليسطع بدماسة طرقه وذاته في أبدان الخلائق والموجودات، لكنه قد اختصه واحتضنه –الإنسان– ليؤثر به، وما نعلم مَنْ الذي احتوى الآخر احتضانًا؛ هل الظلم هو من شخص إلى الإنسان فانتخبه واصطفاه، أم أن الإنسان قد اختال عجبًا ببذار الظلم، فغرس تلك البذار بكيانه وصار الاثنان شيئًا واحدًا؟!

وهل تَضمن النار لا يكوي مَنْ يشملها ويحتويها؟ كما وهل تجرع العلقم لا يؤفف أحشاء مَنْ يأكله ويزج به إلى الجوف زجًا؟ فلقد انعكس الظلم على الظالم، وهكذا كانت النفس البشرية هي أول ما انتشب به براثن الجور وعدم العدل، فتاهت في غياهب الدجى، باحثة عن إحدى رشفات استسقائها، لكنها فارقت الحياة بلا ارتواء، وظل البشر سائرين وصائرين بلحم ودم دون ضمائر حساسة أو حس ضميري، وربما رؤوس دون عقول تميز بين الصائب والطائش، وبين السديد والذي راح يلهو بين ثنايا الفراغ واللاجدوى، فبات دون صدى له أو حتى أثر وتأثير!!!

أين أضحى الإنسان؟ لابد له أن يكون قابعًا بباطن الباطل، ساكنًا بحوصلة البهتان، يكن للانحدار كل وفاء وإخلاص وولاء. كم دأب استقصاؤنا عنه بين طرائق الحق والحقيقة، لكنه تنصل منها تنصلًا وما عاد بين دروبها يستريح، ولكم ذابت مآقينا بحثًا عن أحد آثاره، مستجدية أعيننا بعضًا من بقاياها، لكن هيهات الوصول إلى المأرب والهدف المنشود… احتضرت الضمائر وما عاد من الوجود لها شيء، ففرت هاربة من مقرها الروحي حتى نامت قريرة العينين بدائرة العدم واللاوجود، فارقت كل شيء وباتت تسبح في حياة الموت وتغوص في موت الحياة!!!

ولكن لم يكن لخيالنا أن يصل في تصوراته الدفينة إلى ما آل إليه ابن آدم وما آلت إليه أفعاله ووصلت له؛ فلم يكفهِ أن يعبث بنفسه هدمًا، لكنه راح يعيث فيما حوله اجتياحًا وإتلافًا ودمارًا، فإن لم تكن للعجماوات منأى عن توحشه، فكيف يسلم منه مَنْ يشاركوه الأرض عيشًا وتعايشًا من بني جلدته من البشر؟! وبنظرة متأملة خارقة للزمن بكل أغواره وأقطابه الثلاث، يعجز القلم عن جمع شتات الأحرف لوصف ما قد مر به الماضي من حرب واحتراب، كما يعف الورق عن احتضان حبر بل أحبار راسمة ما يحتويه الحاضر من فساد وإفساد، وقد تتقيد ملكة تخيلنا بقيود عجزها وقت تهم في تصور ما يخبئه المستقبل وما لم يأتِ بعد من أيام وسنوات!!! فلقد سقط الإنسان في اختبار السلم والسلام وما زال غير راضٍ عن النهوض من سقوطه، وها هو الترقب في عنفوانه توقعًا لانهياره وسقوطه الأخير!!!

تعتصر الأذهان تفكرًا وتفكيرًا في الخلاص مما نحن فيه وما سوف يطرأ علينا بغتة، فنبشنا بين المنظور والمختبئ نجدة وإنقاذًا من هلاكنا المحقق قد أضنانا تعبًا وإعياءً، لكن استمرار الرجاء في احتفاظه ببعض من بقاياه جعله مثابرًا وإن كان في أعقاب مراحله الأخيرة من سعيه لما يريد تحقيقه وامتلاكه بين يديه الواهنة، فهل وصوله لأمله وما يتطلع إليه بات قاب قوسين أو أدنى ارتماءً بين يديه؟ أم أن كلها محض آمال وأمانٍ ترتكن على الرغبة لا أكثر ولا أقل؟ فها هي شعوب الأرض في مختلف أديانها واعتقاداتها تتلوع انتظارًا للمُخلِّص، ليس للخلاص من الأرض توطئةً للرحيل إلى عالم آخر، بل لإقامة العدل في ربوع أرض قد تعاظم فيها أسود اللون عن غيره من الألوان! أرض قد تمدد ليلها الداكن والحالك متغلبًا على نور شمس النهار بل على دوران الأرض أمام شمسها حتى تخلل دماسة الليل وظلمته كل صغير قبل كل كبير وكل حقير مستهل طريقه قبل كل باهظ وهائل وجسيم! فهل سيرتضي الخلاص أن يصوب اتجاهه إلينا نحن مَنْ عانينا في هذا الكوكب وحشة وتوحشًا، أم ستظل معاناتنا ممتدة في ذي الخلود اتساعًا وتمددًا؟

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا