ليس من الصواب اعتقادنا بأن الحكمة هي الذكاء، كما أنه ليس من الرشاد والرأي الثاقب في شيء الظن بأن الذكاء هو نفسه الحكمة، فهل من فرق بينهما؟
مستهل القول هو أن الحكمة ليست هي الذكاء ولن تكونه، بل هي القدرة على توطين ذلك الذكاء في مكانه وأوانه الصحيحين. فإن كان الذكاء شعاعًا من النور يضيء لصاحبه درب طريقه، فالحكمة هي شمس تشع منها أشعة الضياء التي تنتثر فتملأ الدنيا دفئًا وشفاء ونجاة وأمانًا.
الذكاء يبرع في الحاضر ويرتكن على ما يملكه من مهارات للحيلولة دون الوقوع في مأزق، أما الحكمة فهي دائمًا تنظر إلى قادم الأيام وتعمل لأجل المستقبل حتى وإن ارتضت طوعًا واختيارًا أن تمكث في دائرة من الحرمان كما بين قوسين من النضوب وعدم الارتواء.
الذكاء ينتمي – إلى حد كبير – لفطرة أجسادنا وما تحتويه تلك المادة الرخوة القابعة بالدماغ – المخ – من خواص جينية وقدرات عقلية تتحكم في نسبة الذكاء الطبيعي لدى الإنسان، أما الحكمة فهي ترجع الى خبرة الأيام والسنين وما تعلمناه من سقطاتنا وخيباتنا، من إخفاقاتنا ورسوبنا في كثير من المواقف.
الذكاء كثيرًا ما يقع في بئر التلوث اختلاطًا وامتزاجًا بالخطأ والطرق غير المستقيمة فيصبح الذكاء «دهاءً أو مكرًا»، أما الحكمة فهي دائمًا ما تترفع فوق الرذائل والآثام، الآفات والنقائص، إذ أنها تعرف وتحسب وتعي جيدًا النتائج وما يمكن أن يترتب على ما لا يرضي الفرد أو المجتمع.
الذكاء قرين التسرع والانقضاض على الفرص دون استناد إلى شيء من التأني في التفكر والتأمل، أما الحكمة فهي تتكئ على الصبر حين القرار وحين اتخاذه، حين المصير وحين تحديده، فهي خير ما يحسب النفقة للاكتساب والحيازة أو حتى للانكفاف والترك والتخلي.
الذكاء كثيرًا ما يكون مدعاة للهجر والتباعد والتنافر لكونه لا ينظر سوى إلى منفعته وربحه وخيره الخاص دون الغير، أما الحكمة فهي تختصها تلك النظرة الشمولية التي ترى النفس والغير، التي تحدد الطائل وتعد العُدة لإرضاء الذات والجمع كليهما معًا.
الذكاء يتوقف عند كثرة التحصيل والقدرة على التعلم والاستيعاب فهمًا وحفظًا لما يُقرأ ويُسمع دون الاكتراث كثيرًا لمعرفة مدى صحة المقروء والمسموع والعائد منه إن كان سلبًا أم إيجابًا، أما الحكمة فهي تقرأ وتمتحن ما تقرأه، تسمع وتفحص ما تستقبله آذانها، تضع كل شيء في نصابه فلا تعطي كثير الأهمية لما لا يستحق، كما إنها لا تقلل من شأن عظيم الأمور وكذا جليلها.
الذكاء يرتبط بالقدرة على الانتباه للأمور دون القدرة على الحُكم عليها حكمًا صائبًا، يستطيع ربط الأمور بعضها ببعض والخروج منها ببعض النتائج ولكن بلا قدرة على إيجاد الحل النافع للجميع، أما الحكمة فهي الدخول إلى معترك الأشياء والخروج بغنائم الحلول الصحيحة والنصائح السديدة وكذلك عمل ما يوافق الكل دون تذمر أو ضجر أو حتى سأم وتأفف.
الذكاء لا يجنب صاحبه الوقوع في الخطأ والتعثر في درك الموبقات، فكم من شخوص سطع ذكاؤهم في سماء العقول بينما باتت سيرتهم في بحر من الحلوكة والسواد كما الدماسة والظلمات، أما الحكمة فهي تعي التصرف السليم وتعرف السلوك الذي يجب أن يكون دون حيدان عنه أو زيغان وانحراف.
الذكاء هو معجزة الطبيعة، أما الحكمة فهي إعجاز احتكام الخبرة والعبرة من الأيام. الذكاء يعطى الاستنارة، أما الحكمة فهي تعطى الدليل إلى حيث نذهب ونظل. الذكاء يعطينا الكيفية في وضع أقدامنا على الطرق الصحيحة، أما الحكمة فهي إرساء وثبات ورسوخ وإتقان. الذكاء هو الاطلاع على المعرفة كونها سراجًا لأرجلنا، أما الحكمة فهي تعي جيدًا متى وأين تُستخدم تلك المعرفة.
ليتنا نسبر غور الاضطلاع في محيط الأشياء، وليت استقصاءنا عن الحق والحقيقة يكون نتاج رغبة كامنة بين الأعماق، حتى نكون بمنأى عن السطحية في تعاملنا مع الغير، كما التسطيح حين السماع أو الفهم أو حتى التحدث والحديث، وهكذا نغدو سائرين وصائرين مدققين وباحثين عن الكمال أينما ذهبنا واتجهنا.